ثقافة وفن

“أبجديات أنثى حائرة” – للناقد عمر عبد الرحمن نمر

قراءة نقدية في ديوان الشاعرة سماح خليفة “أبجديات أنثى حائرة” للناقد عمر عبد الرحمن نمر

تجليات حائرة في أبجديات حائرة

قد لا يُسعف البرنامج النقدي الروتيني، كاتب النص الموازي، حيث رتابة الدخول من عتبات تقليدية (كالعنوان، والإهداء، والتقديم، والصورة، ومكونات النص الفوقي جميعها) باتت إيقاعات تقليدية روتينية، وتتماثل مع الإبداعات كلها، وبتجلياتها كافة، خصوصاً إذا أدركنا أن كثيراً من صور الغلاف، وتصميمه انفلتت من أيدي المبدعين إلى رؤية الناشرين وأصحاب المطابع، علاوة على أن كثيراً من العناوين يختارها صاحبها ويقرها بعد كتابة النص … وهنا يضحى المسار النقدي من الداخل نحو العتبة، وليس العكس، وهذا ما حاولت هذه السطور التعبير عن هذه التجربة (أبحديات أنثى حائرة) للشاعرة سماح خليفة، إذ قامت بتكسير العتبات الاستهلاكية النقدية، ومهاجمة النص، والاستقرار محور الرسالة، والتطلع إليه من ذاك المحور بالاتجاهات كافة، انطلاقاً من مفهوم أن النص نظام، له عناصره، وترتبط هذه العناصر بعلاقات لتؤدي وظيفة واحدة هدفها نقل الرسالة إلى المتلقي، ومهما تعددت هذه العناصر وتشكلت فإن الرؤية النقدية هنا ترى أن الكل (النظام) أكبر من مجموع أجزائه … ومن هذه الرؤية يمكن أن ننحى منحىً في غالبه أسلوبي، بعيداً (ما أمكننا ذلك) من التكلف والتسفف وتحميل النص أكثر مما يحتمل.

إن المحور الأساس التي رأت الدراسة التمركز فيه، هو (أنا) …. بكل تشققات هذه اللفظة المشعة من دلالات ومعان، وقد انبنت هذه الدالة على نمطين من التشكل فجاءت مرتبطة بالفعل (لم ترهبني يوماً، أرضعت الحنظل، قفزت عن جدار الزمن)… (في عينيك وحدك تحدث المعجزات) … وقد استندت عليها الشاعرة في البداية لتعبر عن الذات، الذات المحرومة الفاقدة المنسية المهمشة (أنا نصفك المنسي من رغيف العشق على أرصفة الذكريات) ص 94 لتتعاظم هذه الذات، وتتشكل من صيرورة جديدة بلا حدود تمنعها من السفر في الاتجاهات ( أنا ص 151) أنا اليوم والغد وكل أيام السنة، أنا الحاضر والمستقبل، وكل مجد لي أنا… أنا زهر، أنا قبلة الشمس… لي كل حروف اللغة … وتعلن في نهاية النص أنا حواء … وكل الكون في قبضتي أنا ….

ولم تكن هذه التحولات قفزات في الفضا بلا معنى بل مرت بسلاسة (في ذاك الحرير الشوكي) إن دق التعبير، (أنا فقط أعيش حالة من الجنون اللذيذة… ص139) تطوف في أجواء ثمر وعذب شهي (ص 131) بلا شك فإن هذا المحور هو بداية (الأبجديات لها) تلك الحروف التي شكلت السياقات الشعرية بكل تواتراتها المشدودة، حيث ذكرت الحروف ومشتقاتها (حرفك، حرف، الحروف) أكثر من عشرين مرة في الديوان، هذه الحروف التي ارتكزت عليها الشاعرة، هي نفسها المنطلقات الأنثوية في قوتها، وتمردها، وصناعة كينونة فولاذية تصلح أن تكون (أنا حواء … وكل الكون في قبضتي أنا …).

ولن يتأتى ذلك، ولن تستطيع أساليب الشعرية التقليدية وصوره الاستعارية من نقل صور التحدي، بل تنتقل هذه المعاني من خلال الأسطر المتوترة المشحونة والمشدودة لتنقل لنا اهتزازات الفعل (يئن بمسامعي كلما عصفت بسنابل أفكاري … رياح جنوني القدسية، كيف أشدك إلى معابد ولهي ص 8 وأنت تنفثين الحب في نايك المتمرد … ص68) ويأتي الصدى في نص آخر في حالات من التمرد العنيف يلطفه جوار حواري بين هو وهي حين يتغير الهمس من المسامع إلى تشكيل آخر (يهمس في أذنها) ص111 كلما حل المساء … هل ستنتسف العتمة نبض الذاكرة، فيبتهل قلبك من جديد) فترميه بسهم إجابتها (لا يا سيدي فأنا من بوهجها سحقت وهج الشمس وطوقت العتمة ص 112 وداست أشواك الليل … ص111).

ولعل الحف أنيس، والرسالة هادئة (يؤانسني حرفك ص53) لكنه سرعان ما ينتقل ليقول دبيب يؤجج اشتعالاتي الراكدة ص53)، ويصبح الحرف سيفاً (ص61 سأستلني من صدر الصمت حسام حرف…) وقد يحمل هذا الحرف حلماً صادقاً شهياً … ص 113) هو نتيجة التمرد والثورة والوصول والإنجاز …

إن المبرر الذي يشرعن هذا التمرد المنطلق من (أنا حواء) هو الباعث لها من السبي الأنثوي والتسلط الاجتماعي الذكوري، والقيد (أعتق سبايا أنثاي المكبلة ص55 بشبق ذكورتك الهوجاء)، وفي رأيي أن من أجمل ما عبر عن التسلط الذكوري ضد حواء ما كان (شبق ذكورتك الهوجاء) إنه تعبير كثف كل مضامين الكينونة الدنيا للأنثى،، التي تحيا في فضاء مسحوق اجتماعياً….

ولا بد لهذه الأنثى (الأنا- حواء) أن تتفجر في وجه محتلها (تتشظى أنثاي ص59 على صخرة أفكاره الماثلة في سفح رجولته الصماء). وتهزأ من تلك الأنثى التي غادرتها (عودي برشاقة أنثاك المعهودة ص78) وتصل البوابة لتدق (صبر أنثى، صمود أنثى… شموخ أنثى…). ولتصبح (اقرئوني إمرأة قوية …).

وكأن الوحدة الاستراتيجية سلب الحياة، من حيث تنتفي معاني الحركة، وتشيع الحزن والموت (باغتتني ترانيم الوحدة وتلقفتني أنامل الزمن العتيق) ص51، وسجال بينه وبينها اتخذت مركبةً للسفر فتركتني خاوية أمارس طقوس الوحدة “ص121” لكن هذا المحدق بها سرعان ما ينتقل عدوى سلبية إلى الطرف الآخر فلا غرابة إذن أن نجد قوله (ولا تتركيني للوحدة تلعق سواد عتمتي) ص124 … وعندما تنتصر منتشية (هناك حيث تركته وحيداً … مصلوباً على حائط الذكريات … مقيداً بالثواني يتخبط ممسوساً ص133).

والزمن بوتقة، توظفه الشاعرة باقتدار عجيب، ليكون فاعلاً أساسياً في النص، حيث يرسم الصورة الواعية التي تغرس في المتلقي أثراً فانظر إلى الوقت يعبر عن الراهن المصلوب المتمكن (ينتفض الوقت من فراغ ساعتي المصلوبة على جدار الزمن) ص23، ويبدو الموت (خلاصة الزمن) من خلال علائق المكان بالزمان… (سيتبدل الزمان وستنهش لحمك طيور الليل الجارحة … التي نفثت الموت في كل مكان) ص 26 … وتظهر هذه العلائق بشكل أسلوبي رائع سأعبر (مكان وفعل) الماضي (زمن) وأخلع نعليّ (في حضرة الموت اللعين) ص 41، والمتأمل في كلمات قليلة يلحظ تعالق الزمن بالمكان بالفعل في بوتقة تناصية دينية مستوحاة من خلع نعلي سيدنا موسى عليه السلام بالواد المقدس طوى وفي ص 45 (قفزت عن جدار الزمن) للتأمل (لأقيس عمق الهاوية) ص 45 وعن الانتظار (تتكدس أوقاتي على رفوف انتظارك ص 73.

وتظهر ثنائية الموت والحياة، لتعبر عن قوالب حركية تتولد من سكون (تنبض الحياة من قلب الموت … تنطق الأشياء والكائنات ص 30)، وتضع هذه الثنائية معادلة عجيبة يتصارع ركناها … تنهمر دموع الوحشة … تسّاقطُ حجارةٌ غاضبةٌ ترجم حفارات الموت التي تنهش جسد الحياة فتئد جنينها وتبقيه في رحمها ص 56، ويتساوى الموت والحياة فهما وجهان لشيئ واحد في بلقيس (بلقيس أنت الحياة وأنت الممات) والممات والحياة هو أنت الأنثى الكبيرة التي تعلو صورها بلقيس ويحدث التماهي بلقيس أنت أنا، وأنا الأنتِ ص 94.

وفي كل هذه المعاني، لا تستطيع حروف الشاعرة أن تغادر الوطن، ولا تستطيع عيناها أن تغادرا صوره وتجلياته، فهو في وعي السطور، ووعي الصدور وفي العقل والوجدان… فتظهر التجربة بكراً غير مستنفذة، وتظهر العبارات الشعرية المنحوتة على رأي الشاعرة غير مستهلكة (رسائل … مضمخة بعبق دمائها الشهية … سترجونا أن لا ننسى حكاية وطن ص 18.

ولا تكتفي الشاعرة بذكر الوطن، بل تنفذ إلى عمق الخريطة، لترسيخ مزيد من الوعي، وتروي التضحيات، والدماء، والأسر، والتهجير ثم تلخص ذلك كله (تستل النبض حتى آخر زفرة من جوف الوطن) ص 21 …. إن هذا التشكيل الجديد “جوف الوطن” يوحي بالعمق ويبني تحلالات من الخيال المتمرد على الواقع المعاش … وحجارة الوطن في حكاية حروف الشاعرة تزين الوطن وتنطق الأشياء والكائنات (حجارة الوطن التي تزين صدر الأرض لعينيك وحدك) ص 30، إن ذلك هو الصيحة الكبرى التي تنطق بها حناجرنا المبحوحة (والجفن يطبق مقهوراً على وطن … سرقه لصوص الليل فما أبقوا رغيف خبز، ولا زيتاً وزيتون) ص 36. وفي اشتقاق لمعاني “جوف الوطن” يبدو للشاعرة أن تتمنى (انتشت أرواحنا في قلب الوطن) ص 37، وفي (ظل الوطن نعيش ونحب) ص 44 وفي الحرص عليه (عيناي وطن لا يستكين) ص 37.  

إن لفظة الوطن هي الكلمة السحرية التي تقودنا إلى البحث عن التمرد والتحرر، وهي المعادل   للذل والقهر والقتل والنفي والتشريد، وإذا تمركزت هذه الكلمة في الوطن فلسطين من مائة إلى مائة وذكرت ما استحق الوطن من ثمن (وغذينا وطناً من تبر أرواحنا … نهلنا الصبر من نهر الوفاء) ص 38 (وفي زمان الحي … ارتدينا أسمالنا … وانتفضنا على أفواه البنادق) ص 37.

وسلطت النصوص مجهرها على مدينة الوطن المقدسة حيث القدس المتفردة المتباهية (… لعينيك وحدك … لعينيك يا قدس) ص 31 والروح تراقص هوى القدس، والدم عطرها (حدسي فيها … فيها حتفي … فيها نعشي … فيها قبري … في فيافي القدس) ص 28 لاحظ التكرار الذي أفادته في الظرفية متعلقة بضمير التأنيث…. وربما امتد الوطن في أفق الخريطة الوجدانية، لترسم شاعرتنا مآسي مدينة حلب السورية وقتلاها في الشوارع والأرصفة … ص 33.

ومن المعاني اللافتة التي استجلبها النص بطريقة بدهية الحب، حيث ذكرت لفظة الحب ومشتقاتها ثلاثاً وعشرين مرة، راوحت دلالاتها بين الحكاية الرومنسية التقليدية للتجربة (سيدتي العذراء تنشر الحب في الحقول والتلال… ص 19) ومن معاناة التجربة الإنسانية (أيا ظلي الطاعن في الحب ص 55 كفاك تمرغاً بعطر جروحي). وإنداحت المعاني رويداً رويداً تنزاخ عن مجالها المعجمي المتعارف عليه لتصل بأسلوبية طريفة (أطهو مشاعرنا في قدر من الحب، أتبهرها بعبق عطري الفريد وبعد أن تنضج جوارحنا وكل ملكاتنا، أسكب قصائدي رويداً رويداً في مسمعيه) ص 134. أي صورة عجائبية سحرية هذه، وأي تركيبة إعجازية التي استطاعت أن تضع المشاعر في قدر وتطهوها ثم تبهرها بعبق عطري. وبعد نضوجها تصبح سائغة للآكلين.

وترسم الشاعرة الحب المعادل الموضوعي للحياة والحركة، وتؤسس على هذه الفكرة قسيم الحب/الحرب بكل ما تمثل الحرب من قتل ونفي وتشريد … فقد ارتبطت قصة الحب بالحرب، وتعالقت وتشابكت تسع مرات في الديوان، ففي الحرب موت، و(شهداؤنا ستراسلنا من تحت التراب رسائل من حب وحرب) ص 17… ولعمري هل هو التناص الديني “الشهداء لا يموتون” أم هو اتكاء على الأسطورة الأرواح تعيش بيننا، ولكن رسائلهم في الحالتين مشحونة بالحب والحرب، لأنهم ببساطة ضحوا بحبهم لكل تجليات الحياة في حرب… وهنا بالضرورة أن تخلط الشاعرة الفرح بالحزن، وتطبخهما في قدر واحد عجائبي (عجباً لشهيد يحمل في جنازته شهيد، ودفقات من الحب … والفرح… والحزن) ص 27. وفي لحظة قدح وتجلٍ أخرى ترسم الشاعرة هذه الثنائية الصدامية لتقع تحت أبصارنا، وتلامس بصائرنا وتنتصر حتمية الحب على الحرب (انتفضنا على أفواه البنادق شرارة حب رغم أنف الحرب) ص 57، ولعل ما يعبر عن هذه الثنائية الضدية أصدق تعبير قصيدة الشاعرة بعنوان (بين حب وحرب) ص 39. وفي قصيدة تناص ديني تاريخي (بلقيس) جسدت الشاعرة الحب والحرب في كينونة بلقيس (بلقيس أنت الحياة وأنت الممات، أنت الحب وأنت الحرب) ص 94. لقد شكل نص (بين حب وحرب) بداية المواجهة الحتمية بين الحياة والموت، وكانت بلقيس تمثل الفناء والبعث في أسطرة هذه المعاني، ومن ثم انتصرت الحياة بضيائها وبهجتها على الدمار والفناء والظلام ….

لقد استطاعت الشاعرة – باقتدار شعري – عجيب أن تمتلك أدوات     شعرية ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، وذلك بقفز اللغة فوق المستوى الكلاسيكي والتمرد من حركة الانزياحات اللغوية، والانحرافات التعبيرية، مما صاغ تلك العلاقات التي ورطتنا بالانفلات من الواقع نحو عالم أثيري، عشنا فيه ال   والدهشة الأدبية، إضافة لما حملته هذه اللغة الشعرية الرائعة من شحنات متتالية وطاقات قادرة على التحدي، وهنا تتخلق حيوية النص ويتعاظم توهجه، ولا أدل على هذه الانحرافات اللغوية من استخدام ال التعريف مع الفعل، وأنا الطفلة ال شبّتْ على رنين القيد ص 16 بقصيدتها ال مازت أمانينا ص 18، يخرق أروية التاريخ ال تحتويه من الأزل ص 23 ولا تلك الدموع ال تهطل، (ال فرت ص 67) علاوة على إضافتها إلى الفعل المنفي أيضاً (ال ما فتئت) ص 59، ال ما أثمتك ص 64،    وتكررت هذه الصورة ست عشرة مرة، وفي اعتقادي جاء هذا التكسير النحوي اللافت وبناء علاقات نحوية جديدة، لشد الانتباه، وإحداث ذلك التفاعل الجدي بين الصورة والمبدع والمتلقي.

وفي نهاية هذه الدراسة أرى أن أرصد التكرارات الأسلوبية التي وظفتها الشاعرة في فضاءات نصوصها:-

الكلمة/العبارة

العدد

أنثى

9

الوحدة

6

الحياة والموت

5

أنا

23

حرف/ قصيدة

21

تحدي

4

الحب والحرب

34

الوطن

8

الزمن

25

نحت

3

أل

16

القدس

4

كأن شيئاً لم يكن

2

مع ملاحظة أن نص (قلعة شقيف) ص 15 يتوازى (ونص ميثاق القدر) ص 43، أو هو صورة أخرى للنص. هي أبرز السمات الأسلوبية في النصوص، انطلاقاً من (أنا) وتفرعت هذه العلاقات/ السيول لتتحد في بحيرة واحدة شكلت العنوان (أبحديات أنثى حائرة) ولكل أبجدية كانت سياقاً شعرياً متدفقاً له عالمه، لتلتقي هذه العوالم جميعها، وتكون صرخة أنثوية أدبية في عالم الفن، ولكن تبقى أبوابها مشرعة على أسئلة مفتوحة كثيرة، واحتمالات أكثر.

ابجديات ديوان سماح خليفة