وقفة عز

أحن إلى رفاقي الشهداء

نضال حمد

كم من أسماء الشهداء والأحياء لازلت أذكر، وكم منها نسيت أو لم أعد أذكر بفعل الزمن وبفضل تراكم الذكريات في عالم العهر المنفوش، وعوالم السقوط الذي صار نصرا في بلاد العبيد الجدد.. تجيئني أسمائهم مثل عابر سبيل، ثم ترحل في سبيلها تاركة لي صمت الصور وصلابة الجدار الذي يحملها، فيقيني برد الشتاء القارص في شمال القارة الأوروبية. كم اكبر فيكم وبكم وكم تجدني لست أنا بأنا بعيدا عنكم …

 هنا أنتم على جدار محبتي، علقت صوركم مرايا وذكرى للحنين وبقايا خالدة في نفسي، كأنكم من صلاة أبي ودعاء أمي، كأنكم كما صوت مؤذن المخيم أيام طفولتنا.. هنا أنتم في التهاب الحنين عندما ينتابني الشوق لكم… اسمع أصواتكم تتردد مع صوت الشيخ حسين مؤذن طفولتنا الذي لا يمل سماعه. وأرى عنفوانكم الغاضب في طلعة صديقي الشيخ هشام.. كان ولازال الشيخ حسين يستقبلنا بضحكته المعهودة.. أما الشيخ هشام، الذي ترك يسارنا وصار إسلاميا كان سريع الغضب وأيضاً سريع الرضا.. لم يكن أحيانا يتمكن من ربط الكلمات التي كانت تتقافز فوق شفيته وعلى رأس لسانه الحاد، فكانت تخرج منه دون حسابات، ولأنه كان لا يعرف للوسطية وسطا أعتبره الذين لا يكنون له الود خراباً على المكان. كان هشاما واضحا في الجرأة وقويا في العناد على الحق وبالذات المقدس من نظام الله في عهد الطغاة وأشباه القادة.. كان يحب الله حتى الذوبان في الرسالة.. وكان يتقدم في عشقه الجهادي صلاة وصياما وعنفوانا حتى صرعته يد الغدر على باب بيته غير بعيد عن بيت الله في مخيمنا عين الحلوة. هناك قرب المسجد حيث كان يؤذن الشيخ حسين أيام طفولتنا، وحيث كان الشيخ هشام أبو عبد الله يقيم صلاة الجمعة  بعد تشردنا وغربتنا وغيبتنا.. اغتيل هشام بطلقاتٍ لم تكن مخزنة للتوجه نحو اعداء الوطن.. اغتيل صديقي هشام بعد لقاؤنا الأخير بأسابيع قليلة. قتله رصاص الأخوة المنفلت. فكان مصيره كمصير المئات من الذين ذهبوا ضحايا الصراعات الجانبية. لكن مقتل هشام لم يمر بلا نتائج وعواقب وخيمة. فآثاره لازالت موجودة حتى هذه اللحظة، تجدونها في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان. حيث تفتح دفاتر الحساب والأحزاب بكل راحة، وبلا نظام يسيرها سوى نظام الغاب.. فالناس هناك يعيشون في ظل نظام قرقوش، حيث شريعة الغاب، وشرائع تصفية الحسابات الكبيرة والصغيرة… من حسابات الحركات المحلية حتى حسابات الدول الإقليمية.

بقايا نحن من بعدكم أيها الأصدقاء، بقايا مهجورة إلا من عشقها المسافر على أجنحة الطائرات الورقية والكرتونية.. بقايا كما قبوركم المبعثرة على جغرافيا الأمة العربية. لقد امتدت مقابرنا ليصل بعضا منها إلى أوروبا الموحدة.. فيا غرباء القبور في البلاد القريبة والغريبة لا سلم كي نصعد معكم إلى سقفنا المقسوم بفعل انقسامنا، لا مصعد كي نصعد من جُوَرِنا التي دُفِنَا فيها إلى قبور الأحياء في بلادنا، التي تسمى دولا وكيانات، لكنها بلا كرامة ودون سيادة.. لا مناعة لدينا حتى نرد الممنوع عن ثقافتنا المنيعة، فثقافتنا أكثر منا مناعة وصلابة. سقط الوهم في نفوس البعض وسقط البعض في وهم التآخي والجوار الحسن والحضارة القادمة على جناح السرعة من وراء البحار..

إنها الزجاجات الجميلة المظهر والأنيقة الهيئة جاءت تستبدل أباريق الفخار والزجاج الملون… تلك حضارتهم فلا نريد منها سوى ما يفيد واقعنا الذي لا يحب ما في زجاجاتهم من شراب.. نحن خُلقنا كما خُلقنا من طين عدن والقاهرة ومن تراب بغداد والرباط ومن رمل القدس والشام والقيروان وبيروت وقرطاج.. جئنا من درجات حرارة عالية لا تطيق البرد والمتجمد الحضاري، ففي حضارة البلاد الباردة ما يسلبنا حرارتنا العالية وما يجعلنا بلا غيرة على حالنا.. نحن نريد أن نغار على حالنا وأحوالنا. نحن هنا امتداد الحكايات والرايات لقوافل الشهداء في مخيمات رغم المجازر والحصار لم تمت. فكم من المخيمات حوصرت باسم التفكير الجهنمي نذكرها كلها ونتذكر آهات الجرحى وصور الشهداء وأسماء الأمكنة..  وكم من الأمكنة نسيت وكم من الأسماء لم أعد أذكر.. فليعذرني أصدقاء الدروب والحروب. اعذروني يا رفاقي تطورا وتتابعا وتثقفا وتصوفا و هجرة ومنافي وعذاب ما قبل القيامة. فنحن في عصر كناسي بلاط الأعداء من عباد الحياة والعملة والمتاجرة بالبلدان والبشر بالمفرق وبالجملة.

أيتها الصور التي تحفظ ذاكرة جدار بيتي من التعفن والتلف، إبقِ كما أنت مرايا ذكرياتي التي لا تنتهي، وصمام أمان صلاتي المستمرة، صلاتي التي لا تبتلي بردة أو سهوة عابرة تجعلها تبدل اتجاهاتها بناء على تبدل الأمكنة والأزمنة في مرحلة ضعفنا وقوة الآخر.. كوني محرابي وحربتي وباب حريتي وجدار صمودي ولا تكوني مثلما يريدك الطامعون بك.

أيتها الصور أنت  مرآة السلام الذي لا يتعب من سلامي على جداري في كل يوم جديد، وأنت صوتهم في إطارات  صورهم، تلك الهيئات التي ظلت كما هي منذ آخر لقاء لنا في زمن المواجهة.. تلك الهيئات التي تناقشني كل مساء بواقع الحال، وكلما اشتد حالي تعباً أو انتابني ضعف لسبب أو بدون سبب… أكلمها فتكلمني وتحاورني من خلف زجاج الإطارات ومن على الحيطان الواقفة.. هي واقفة ونحن عجزة، وهي حرة ونحن في سجون كبيرة.

 أيها الأصدقاء، يا من تحرسونني من فتنة الدنيا الجديدة ومن البلاد البعيدة، أحبكم كما أنتم، كما كنتم وكما عرفتكم، فقد كنتم أكثرنا ولاءا للحق وللحقيقة، وأقلنا تفكيرا بالشخصي. لقد كان العام والشعبي همكم وبقي هكذا حتى قبضتم على الحياة فنالتكم الشهادة، حيث فضلتكم على الآخرين وأبقتكم عندها بجوار المبادئ والقيّم والشعب .. أبقتكم ملائكة رحمة وصراط مستقيم يدل الأمة ويهديها كلما حادت عن الطريق.

 

1993