الأرشيفوقفة عز

أسعد الضرير من مخيم عين الحلوة الى كندا – نضال حمد

هل هناك في مخيم عين الحلوة من لا يتذكر الراحل الكبير أسعد موسى داوود أو اسعد الضرير؟
اعتقد ان غالبيتكم تتذكرون وغالبيتكن تتذكرن الرفيق أسعد. الشخصية العلم، الضرير منذ ولادته، النبيه منذ طفولته، اللبيب الذي من الصوت يفهم، الانسان الجامعي الذي تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت وليس كل انسان يمكنه دخول تلك الجامعة والتسجيل بها والتخرج منها، خاصة فلسطينيي المخيمات في لبنان، الذين حالتهم المادية على قد الحال بالذات في هذه الأيام، الصعبة. في زمن الصعاب والعذاب والشعوبية والطائفية والارهاب وارتماء البعض الفلسطيني والعربي في أحضان الصهيونية.
أسعد الضرير هكذا يعرفه أهل المخيم وأعتقد أن لقب العائلة داوود ولست متأكداً من ذلك مع أن أقاربه من فلسطينيي سوريا (أصدقائي في النرويج) من آل داوود وهم من نفس بلدته “الزيب” الفلسطينية المحتلة أيضاً. كما كان له شقيق أصغر منه سناً أيضا ولد ضريراً. ولا أعرف إن كان لازال على قيد الحياة أم لا.
كانت علاقة اسعد وشقيقه بعمي الراحل أبو حسين حمد علاقة جيدة جداً. “فمخيطة” عمي أبو حسين كانت “مخترة” الصفصاف وعين الحلوة والفلسطينيين في مدينة صيدا وجوارها. حيث كان الجميع يجتمعون فيها ويلتقون هناك على فنجان قهوة أو كوب شاي أو غذاء في بعض الأحيان. يلتقون ويثرثرون ويتناقشون ويتحدثون ويتصارخون ويصيحون وبالنهاية يهدئون ويصمتون وتعود المياه الى مجاريها والبسمة الى مبتسميها. وكان عمي الراحل أبو حسين، في كثير من الحالات هو بمثابة المختار والقاضي والحكم في حل النزاعات بين الجميع.
أسعد موسى داوود وشقيقه كانا من الضيوف الدائمين في المخيطة – المخترة. ولكن ما يميز أسعد عن شقيقه كامل، ثقافة أسعد العالية وفصاحته وامتلاكه لميزة الحديث والخطابة والحس الدعابي العالي. وجرأته الشديدة ونقده للجميع بلا استثناء في حال كان من الضروري توجيه نقد ما. كان ضليعاً باللغتين الانجليزية و العربية ووطنيا الى أبعد الحدود ومناضلاً لا يسترح. على هامش الحديث عن فصاحه ولغته العربية القوية وانتقاذاته الذكية. ذات مرة نهاية سنة 1982 وكنت لازلت أعاني من الإصابة في مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول- سبتمبر من نفس العام. كنت في ذلك الوقت لازلت على فراش العلاج بمستشفى الجامعة الأمريكية وكان أسعد يدرس في الجامعة. فحرص على زيارتي بشكل شبه يومي. في إحدى الزيارات أبرزت ورقة كنت بالكاد بسبب أصابتي أيضاً بيدي اليمنى استطعت تدوين الكلمات عليها. قلت لأسعد كتبت قصيدة سوف أقرأها على مسامعك لتعطيني رأيك. قال تفضل أقرأ. قرأت ولما انتهيت قال لي “إمسح فيها مؤخرتك”. فهمت بعدها أنه لازال أمامي الكثير لتعلمه. والآن أعيد القول أنه لغاية الآن مازال أمامي الكثير لتعلمه.
أسعد الذي عمل مترجما من العربية للإنجليزية ومن  الإنجليزية للعربية. عمل بالذات في عيادة ومستوصف ومقرات “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في مخيم عين الحلوة، حيث كانت تقيم وتعمل الوفود الطبية الأوروبية التضامنية. وفود عالمية من أوروبا كلها، من ألمانيا والنرويج والسويد والدنمارك وايطاليا ودولاً أخرى عديدة. عمل هناك لسنوات طويلة. كلنا في المخيم نتذكره وهو ذاهب وعائد من والى المستوصف قرب المدرسة ومخيم الطوارئ العتيق، مقابل السور، هذا الذي لم يعد له وجود الآن. ولم نعد نرى خلفه مباشرة حي البركسات حيث كانت تسكن عائلات فلسطينية عديدة معظمها عائلات محدودة الدخل، ربما كانت في ذلك الوقت هي الأفقر في المخيم. وأمام حي البركسات يقف مبنى المستشفى الحكومي اللبناني. هذا المستشفى الذي عاش مع المخيم كل لحظاته الحلوة والمرة. واحتضنت ثلاجته معظم جثامين شهداء المخيم.
كان أسعد شاعراً هجاءاً ومضحكاً يحب التهكم والهجاء. لقد سمعت منه كلمات وأبيات شعرية هاجم فيها بعض الناس المغرورين بشكل عنيف وبذيء جداً. لذا أجد صعوبة في كتابتها هنا لأنها تمس الحياء وتعتبر كلمات سافرة جداً. إسمحوا وأسمحن لي بأن أحتفظ بها لنفسي.
كانت لديه ساعة يد تعمل بلمس العقارب حسب الاتجاه وكذلك عصاه الخاصة بفاقدي النظر . كانتا تساعدانه في التجول في أزقة المخيم، التي كانت ولازالت تغص بالحفر والمطبات والمواسير والعوائق. عداك عن نفايات سكان الحارات في المخيم واسلاك الكهرباء والساتيلايت والخ. مما يعني أن الذين يملكون حاسة النظر كان من الصعب عليهم التجول في شوارع وأزقة ودروب وزواريب وحارات المخيم. لكن أسعد العبقريّ، القويّ والواثق من نفسه وقدراته تجاوز كل تلك الصعاب. وجال وصال في شوارع المخيم بلا كلل.
بعد حرب المخيمات الشهيرة والفظيعة على ما أعتقد هاجر أسعد مع زوجته. لم أعد أذكر بالضبط في أي سنة، هاجر الى كندا حيث استقر هناك وحصل على جنسية البلد وعمل في وظيفة محترمة. علمت من بعض الأصدقاء أنه توفي في كندا ودفن هناك. كذلك توفي شقيقه كامل موسى داوود في لبنان. لهما الرحمة والسلام والخلود. فقد كان اسعد موسى داوود رفيقاً عزيزاً ومترجماً ناجحاً وشاعراً هجاءاً شديد الغضب، ومُتحدثاً لبقاً ومُفوهاً سياسياً وانساناً عصامياً ووطنياً بلا حدود، لم تعقه الإعاقة ولم يوقفه ظلام عينيه منذ الولادة ولا عدم رؤيته للنور، فقد كان وبقي مستنيراً ومنيراً ورجلاً بألف رجل.

نضال حمد

26-7-2021