الأرشيففلسطين

الأسرى الفلسطينيون ما بين عنف الاحتلال والسلطة الفلسطينية – أشجان عجور

الأسرى الفلسطينيون ما بين عنف الاحتلال والسلطة الفلسطينية: تجربة الإضراب عن الطعام

أشجان عجور

“إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين. لا أن نغير القضية” – غسان كنفاني

“ما أوسع الثورة ما أضيق الرحلة ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة” – محمود درويش
في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال يواصل ثلاثة أسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام في سجون الاحتلال “الإسرائيلي” وهم: عدي شحادة، وفادي غنيمات، ومحمد أبو الرب، رفضاً لاعتقالهم الإداري حيث يواجهون أوضاعاً صحيّة صعبة في زنازين سجن “عوفر”، مع استمرار إضرابهم ومرور مزيد من الوقت. ويخوض تسعة معتقلين أيضاً، منهم أسرى محررين، إضراباً عن الطعام في السجون الفلسطينية احتجاجاً على اعتقالهم من قبل أجهزة الأمن التابعة للسلطة خلال قمع مسيرةٍ للحراك الفلسطيني ضد الفساد تحت شعار “طفح الكيل”، نظَّمها نشطاء على دوار المنارة برام الله. وهم يعانون ظروف احتجاز صعبة في ظل وباء كورونا الذي فيه تسلب الحريات ويتم قمع التعبير عن الرأي.
الإضراب عن الطعام وسيلة لا يستخدمها المعتقلون السياسيون الفلسطينيون فقط لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ولكن أيضاً للاحتجاج على ممارسات السلطة الفلسطينية. تَستخدِم القوات الأمنية التابعة للسلطة الوطنية نفس الوسائل التي يستخدمها الاحتلال “الإسرائيلي” من ممارسات العنف والاعتقال السياسي ضد الأسرى الفلسطينيين. لذا يلجأ الأسرى إلى استخدام نفس أدوات المقاومة لمواجهة عنف السلطة ومنها الإضراب عن الطعام في السجون الفلسطينية كوسيلة مقاومة لحماية إنسانيتهم وكرامتهم ليس فقط من المحتل “الإسرائيلي” نقيضنا الوجودي، ولكن من السلطة الفلسطينية التي من المفترض أن يكون دورها حماية مناضلي الوطن ورموز الشعب الفلسطيني ومقاومته. بل على العكس تعمل كوكيل للاحتلال لاحتواء المقاومة من خلال ما يسمي “التنسيق الأمني” والذي يبيّن لنا مدى ارتباطها البنيوي مع الاستعمار. وبذا أضحى هدفها حماية أمن المحتل من خلال التعاقد من الباطن.
خطاب الكرامة والحرية استخدمه الأسرى السياسيون ليس فقط لمواجهة العنف السياسي تجاه الاحتلال “الإسرائيلي” ولكن تجاه القمع الداخلي، وبكلمات أحد الأسرى المحررين الذي خاض تجربة الإضراب عن الطعام “أرى أن الإضراب عن الطعام في سجون السلطة هو إنجاز وكرامة لي”. يوضح لنا الإضراب عن الطعام في السجون الفلسطينية أن ثقافة المقاومة تعمل ضد أي شكل من أشكال الاضطهاد سواء قمع الاحتلال “الإسرائيلي” والسلطة. ويؤكد الأسرى الفلسطينيون أن ممارسات القمع والتنكيل بحقهم من قبل الاحتلال ازدادت بسبب ضعف القيادة والأحزاب الفلسطينية وعدم قدرتها على حماية حقوقهم. لذا لجأ بعض الأسرى إلي الإضرابات الفرديَّةِ حيث يقول أحدُ الأسرى المحررين “عندما يجد الفرد أن جماعته فشلت في حمايته ولم تعمل ما هو مطلوب يضطر الفرد الإنسان أن يقرع الجرس”.
لقد انتقد فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض» النّخبَ البرجوازية الوطنية وحذّر أن حركات التحرر الوطنية بعد الاستقلال حين تصل إلى الحكم تتحول إلى نخب مضادة وتتماهى مع ثقافة المستعمر والخضوع له. لا تمارس النخب الوطنية دورَها الحقيقي بل تتخاذل وتصبح مجموعة انتهازية وقيادة رديئة تتصرف حسب المصلحة وتستخدم الإكراه والقمع في مواجهة مخالفيها ومنتقديها. وكما أشار أكيل ميمبي أن الكابوس الذي توقعه فانون أصبح حقيقة في ظل ما حدث لحركات التحرر الوطني من انحراف بعد الاستقلال. ففي الحالة الفلسطينية حين عجزت الثورة الفلسطينية عن إنجاز مشروع التحرر لجأت إلى اتفاق أوسلو الذي جاء بالسلطة الوطنية الفلسطينية من خلال مشروع تسوية مع الاستعمار الاستيطاني الذي هو امتداد للاستعمار الرأسمالي بلا أرض وسيادة وبلا مكوِّنات ذاتية. وحسب جوزيف مسعد فإن عملية أوسلو تخدم المصالح “الإسرائيلية” والأميركية، بالإضافة إلى مصالح النخبة الفلسطينية السياسية كطبقات منتفعة تستفيد من إبقاء أوسلو.
لقد ركّزتُ في بحث إطروحة الدكتوراه الذي أجريته حول المعتقلين السياسيين وتجربة الإضراب عن الطعام في السجون “الإسرائيلية” بالدرجة الأولى على ممارسات الاحتلال؛ إلا أن شهادات الأسرى في المقابلات التي أجريتُها على مدار أربعة أعوام من ٢٠١٥ إلى ٢٠١٨ كشفت الانتهاكات بحقهم من قبل السلطة الفلسطينية خاصة المعتقلين من الحركات الإسلامية (الجهاد الإسلامي وحماس) المستهدفة من قبل كل من “إسرائيل” والسلطة إضافة إلى بعض أسرى حركة فتح الذين خاضوا تجربة الإضراب.
لقد واجه الأسرى الفلسطينيون المحررون أشكالاً من العنف والقمع والاعتقال على أيدي قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، ووَجَّه الأسرى انتقادات للسلطة ولقواتها الأمنية، وفي شهاداتهم خلال المقابلات تحدثوا عن اعتقالهم من خلال التنسيق الأمني مع الاحتلال مما أدى إلى إضرابهم عن الطعام في السجون الفلسطينية. فهم ينتقدون بشدة إطلاق السلطة الفلسطينية تصريحات بأن التنسيق الأمني مقدس في الوقت الذي يصارع فيه الأسرى الموتَ خلال تجربة الإضراب. لقد أكَّدَ بعضُ المشاركين في البحث، بعضهم أعضاء المجلس التشريعي من حركة حماس، أن اعتقالهم الإداري من قبل الاحتلال تم تنسيقه بالتعاون مع أجهزة أمن السلطة والوقائي من خلال التنسيق الأمني، حيث تقوم الأجهزة الأمنية بتسهيل عملية اعتقالهم وتسليمهم للاحتلال. وذلك كلّه من أجل قمع الحركة الاسلامية الذي هو هدف مشترك بين كل من “إسرائيل” والسلطة الوطنية.
تبين لي خلال المقابلات أن بعضَ الأسرى قد أضربوا عن الطعام في السجون الفلسطينية ومنهم قيادات الأسرى الذين خاضوا الإضرابات الفردية في سجون الاحتلال ومنهم على سبيل المثال الأسير خضر عدنان الذي أضرب في العام ٢٠١٢ والعام ٢٠١٥ في سجون السلطة. إضافة إلى بعض الأسرى المحررين الذي تم اعتقالهم بسبب انتقادهم لسياسات السلطة الفلسطينية القمعية خلال مشاركتهم في النشاطات التضامنية في المسيرات والاعتصامات لإسناد الأسرى المضربين وهم في وضعٍ صحي خطير وقد تم تعريضهم للضرب والقمع من قبل قوات الأمن الوقائي. ويلاقي الأسرى أشكالاً من التعذيب على أيدي قوات الأمن في السجون الفلسطينية في ظروفٍ غير إنسانية من شَبْحٍ وعزْل حسب شهاداتٍ وثَّقتها مراكز حقوق الإنسان مثل مؤسسة الضمير. لذا يقوم المعتقلون السياسيّون بالإضراب عن الطعام كوسيلةِ احتجاجٍ للدفاع عن كرامتهم وحماية إنسانيتهم.
وقال أحد الأسرى المحررين الذين خاضوا الاضراب عن الطعام خلال المقابلة “إن سيدهم هو من أمرهم بقمعنا وممارسة العنف ضدنا”. هذا السيّد الذي يعنيه هو حكومة الاحتلال “الإسرائيلي” التي تملي على القيادة الفلسطينية الأوامر بقمع الأسرى. وتتمثل هذه الأوامر بشكل واضح في قرار قطع رواتب الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار بالضفة وغزة في عام ٢٠١٧ بسبب الضغط “الإسرائيلي” والأمريكي على السلطة الفلسطينية، حيث طالبت “اسرائيل” السلطةَ علنا بتوقيف رواتب الأسرى الذين تنعتهم “بالإرهابين” وتدَّعي أن دفع الرواتب يشجعهم علي المقاومة. إن سياسة قطع الرواتب تنتهجها السلطة الفلسطينية منذ الانقلاب في ٢٠٠٧ لمعاقبة حكومة حماس ولكن أصبحت هذه السياسة تطالُ الأسرى الذين قدموا للوطن أغلى ما يملكون. وجاء إجراء قطع رواتب الأسرى تلبية للمطالب “الإسرائيلية” للقبول بالعودة لطاولة المفاوضات حيث قال رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إن هذه الخطوة اختبار للسلطة للمضي قدما في طريق السلام معتبرة أن هذه الرواتب يتم دفعها للإرهابيين.
ما تفعله السلطة هو مساعدة الاحتلال “الإسرائيلي” بتجريم المقاومة ومعاقبة أهالي الأسرى الذين يتم إذلالهم وملاحقتهم بمصدر عيشهم. إن قطع الرواتب يؤثر على مئاتٍ من أهالي الأسرى خاصة وأن الراتب هو مصدر رزقهم الوحيد علماً بأن دولة الاحتلال أعادت اعتقال أكثر من خمسين أسيراً بعد تحريرهم. وللاحتجاج على هذا القرار الجائر الذي جاء استجابة للضغوط “الإسرائيلية” وطال مئات الأسرى الذين ضحوا بأعمارهم في سجون الاحتلال قام عشرات من الأسرى المحررين بالاحتجاج وسط رام الله والاعلان عن الإضراب المفتوح عن الطعام، واستمر الاضراب ٤٣ يوماً في خيمة الاعتقال وطالبت مؤسسات حقوق الإنسان السلطة بالتراجع عن هذا القرار. وأعقب ذلك إعلان ٥٠ أسيراً داخل السجون “الإسرائيلية” الإضرابَ عن الطعام احتجاجاً على السياسات التعسّفية.
إن هذه الممارسات القمعية تجاه الأسرى الفلسطينيين الذين هم رموز النضال ومواجهة الاحتلال “الإسرائيلي” هي تنَكّر لنضالهم وتضحياتهم. وبدلاً من تكريمهم يتم قمعهم وسجنهم وتوقيف رواتبهم. ما حققه المضربون عن الطعام في الإضراب الفردي في سجون الاحتلال من خلال نضال حي ممتد وقاس على شكل دفاع ذاتي لم تحققه السلطة على ما يزيد من عشرين عاماً من مفاوضات عبثية. إن المضربَ عن الطعام في مقاومته المحتل استطاع أن يتحكم في مصيره ويسيطر على جسده ولم يخضع كخضوع السلطة الفلسطينية للمحتل. لقد ابتكر المضربون عن الطعام شكلاً نضالياً جريئا لحماية كرامتهم التي كانت من محفزات صمودهم وعبروا عن ذلك خلال إضراب طويل فيه تحدٍّ صارخ ليس فقط للاحتلال ولكن لنهج أوسلو المسالم ولمواجهة الهزيمة والتسوية وعنف السلطة وتنسيقها اﻷمني مع الاحتلال. وهذه الإضرابات هي مثال على ثقافة المقاومة الجمعية الفلسطينية ودليل على إبقاء شحنة وشعلة المواجهة ضد كل أشكال القهر.
موقع “جدلية”