الأرشيففلسطين

الأسرى يبدعون روايات..وشعرا..ومعرفة – رشاد أبوشاور

أحيي مبادرة رابطة الكتاب الأردنيين بمشاركة اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين على مبادرتهما هذه بما تنطوي عليه من دلالات، وبرهان انتماء واحد لأقدس قضايا الأمة، قضية فلسطين، التي، أبدا، لن ينهيها التطبيع، والتنازلات، والهيمنة الأمريكية المعادية المنهمكة في تنفيذ خططها بإنهاء القضية الفلسطينية..التي ستبقى قضية عربية أولى بامتياز.

أحسب أن الأبطال المأسورين في سجون وزنازين العدو الصهيوني سيشعرون بالتقدير والإمتنان لأخوتهم الكتاب والكاتبات في الأردن وفلسطين، كونهم ينحازون لهم، ويهتمون بكتاباتهم، وبحياتهم، ويرفعون الصوت مدينين لجرائم العدو المُحتل، وأساليبه وممارساته الإجرامية التي لا شبيه لها، والتي فاقت كل جرائم المستعمرين المجرمين بحق الشعوب التي ثارت واختارت طريق الحرية، وضحّت حتى حققت تحرير أوطانها.

أخوتي اخواتي:

كل الشعب العربي الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية المحتلة بكاملها، هو في سجن. حريته أسيرة، وأرضه محتلة يقضمها العدو الصهيوني قضمة قضمة بجرافاته التي لا تتوقف عن انتهاب الأرض الفلسطينية تنفيذا لمشروع بدأ واستشرى مع الانتداب البريطاني الذي منح المتسربين الصهاينة بعض أرض فلسطين لتدشين مشروعهم الاحتلالي، وغطاهم، وحماهم، وأمعن في تعذيب الفلسطينيين المعترضين على ما يقترفه، وزجهم في السجون – بعضها ما زال قائما حتى اليوم، والاحتلال يزج فيها أحفاد من قاوموا بريطانيا وبدايات تسلل العصابات الصهيونية – بل وأسس لعمليات هدم البيوت، وقوننها بعقلية إنقليزية مجرمة منحطة..وما زال المحتل الصهيوني يواصل نفس النهج في نسف بيوت المقاومين الفلسطينيين عقابا لهم ولأسرهم.

بعد نكبة حزيران 67 تصاعدت مقاومة العرب الفلسطينيين، فلم ينكسروا تحت وطأة الهزيمة المُرّة الرهيبة التي استكملت أهداف المشروع الصهيوني في احتلال كامل فلسطين.

استأنف شعبنا ملحمة البطولة والشهادة، ومسيرة تضحيات الأسرى الذين وقعوا في قبضة قوات الاحتلال، وهكذا لم يهنأ الاحتلال بكسر إرادة شعبنا…

لعلّ أول رواية رائدة كتبت كانت ( المجموعة 778 ) للروائي والقاص توفيق فياض، الذي التقى بأولئك الأبطال في الأسر..فعرفهم عن قرب، و..كتب بعد تحريره عام 1974 ملحمتهم البطولية التي أدهشت بتفاصيلها قرّاء سمعوا ببطولات أفراد تلك المجموعة في عمق فلسطين المحتلة عام1948 وبقيادة رقيب عربي فلسطيني، هو فوزي النمر، الذي كان متطوعا في جيش الاحتلال، وهو ما سهّل تحركات تلك المجموعة، وبثّها للمتفجرات التي توالت في حيفا وعكا وغيرهما.

قبل أيام اتصل بي رئيس نادي الأسير الفلسطيني الأخ قدورة فارس ليسألني عن رواية الأسير ثائر حماد بطل عملية( وادي الحرامية) المحكوم 11 مؤبدا، وتشعب بيننا الحوار، فكان مما أخبرني به، أن مئات الأعمال مكتوبة بخط اليد للأسرى الأوائل، وهي تملأ مكانا كبيرا، ولم يلتفت لها ويهتم بها أحد، رغم مضي سنوات عليها..وطمأنني أن هناك سعيا جادا لتاسيس مركز يعنى بأمر إبداعات الأسرى لتقديمها للقراء ليطلعوا على سيرة بطولاتهم، ولتعريفهم بجرائم الاحتلال الصهيوني الذي يلجأ لأبشع وأحط أساليب تعذيب الأسرى والأسيرات..وبالأطفال القُصّر.

من بين الأسرى المحررين برز باحثون، وإعلاميون، ومترجمون..وهؤلاء يقدمون لنا معرفة بعقلية عدونا، ومكوناته المجتمعية والعسكرية والإقتصادية، وبجوانب ثقافته، وبتناقضاته في كل مناحي حياته…

ووراء الجدران، في الزنازين، وغرف السجون، هناك أسرى يستأنفون دراستهم الثانوية ، والجامعية، ويكتبون روايات، وشعرا، ويرسمون، وهم بإبداعاتهم يعرفوننا بما لا نعرف عن عدونا، وبقراءة أعمالهم، المستقاة من تجاربهم، واحتكاكهم المباشر مع العدو..يفتح أبناء وبنات شعبنا..وأمتنا عيونهم وعقولهم على ما يجهلونه عن هذا العدو، ناهيك عن فضح( جوهر) عنصرية وقذارة ممارسة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.

هنا أود أن أنبه: من يكتبون هناك وراء القضبان والجدران لا يقدمون للقراء تقارير أمنية، ولكنهم يدهشوننا بالتجارب الإنسانية التي يستقون منها ويحيلونها إلى فن راق يضيف لأدبنا العربي رافدا جديدا، يمكن ترجمة بعضه إلى لغات أجنبية ليطلع عليه من يعنيهم أن يعرفوا سّر صمود شعب فلسطين أكثر من مائة عام في الصراع مع عدو مدجج بكل الأسلحة، ومدعوم من دول الإستعمار والإمبريالية ماليا وعسكريا وديبلوماسيا وإعلاميا.

نحن لا نقرأ كتابات الأسرى من قبيل التعاطف، ولكننا نقرأ عن تجارب ما كان لنا أن نتخيلها ونكتبها. نقرأ عن مشاعر، وحكايات حب، وبطولات إنسانية معجزة..ومواجهات مشرّفة مع السجانين، والمحققين الأمنيين، ونتعلم منها.

وكما يهربون النطف لينجبوا، ويعيشون بأمل تحررهم من الأسر، وتتويج كفاحهم مع شعبهم وشرفاء أمتهم بتحرير فلسطين، فهم يهربون رواياتهم فصلا فصلا، ومذكرات، وسير..ورسائل جامعية في السياسة والإقتصاد..صفحة صفحة، وبهذا يغنون المكتبة العربية بما يزودنا بمعرفة عدونا.

قبل وقت قصير تابعنا مأثرة ماهر الأخرس، الأسير الذي أضرب عن الطعام 104 أيام، رافعا شعار: الحرية أو الشهادة..وانتزع حريته، وقبله لجأ أسرى كثيرون، جماعات، وأفرادا، لسلاح الإضراب عن الطعام، وانتزعوا حقوقهم بصبر وإرادة جبارة.

الأسرى لعبوا دورا كبيرا في الانتفاضة الكبرى، وأدوا أدوارا رغم الجدران، وقسوة السجن والسجّان..وما زالوا يفعلون.

إنهم أحياء رغم كل أساليب الاحتلال، وإنهم يتواصلون مع مجتمعهم الفلسطيني داخل كل فلسطين، وخارجها، ومآثرهم تصل إلى أقصى نقطة في بلاد العرب، بل وإلى أمكنة بعيدة في العالم..حيث يتعاطف كثيرون في العالم مع فلسطين قضية الحريّة وشعبها.

العدو الصهيوني لا يتوقف عن حربه على الأسرى، فهو يريد بحجز حرياتهم وعزلهم..إماتة أرواحهم وإراداتهم، وهذا ما يزيده ضراوة، فيلجأ لبث أساليب الفرقة بينهم، بوضعهم في مجموعات مناطقية، ويحاول نشر الإحباط في نفوسهم، موحيا لهم بأنهم باتوا منسيين، وأنه لا أحد يسأل عنهم..وأنها( راحت عليهم)!

فعاليتنا هذه أيها الأعزاء هي فعل تواصل مع أخوتنا وأخواتنا أبطال الحريّة وراء الجدران وأبواب الحديد، فنحن الكتاب والشعراء والأدباء على ضفتي الأردن معهم، نقرأ ما يكتبون، ونتعلم من تجاربهم الإنسانية والإبداعية، ونرفع راية حريتهم وتحريرهم..كما يرفعون راية تحرير فلسطين، ونحن وإياهم في معركة واحدة، بالكلمة، والثبات على الموقف، وبالإنتماء، وبتحدي التطبيع، ونقول لهم: لستم وحدكم، فنحن نسمع نبض قلوبكم، ونرى ضوء عيونكم..وسنبقى أوفياء لتوصيل كلماتكم الشجاعة النبيلة لكل شرفاء أمتنا العربية.

كلماتكم نشيد حرية، وحداء روّاد مسيرة.

أراد العدو باحتجازكم أن يحذفكم من الحياة، فإذا بكلماتكم تبّث الحياة، وتلهم..وتتحوّل إلى وثائق إدانة لأعداء الحرية.

أنتم في الموقع المتقدم في المعركة..وسلاحكم فيها كلمات، ومواقف، ومنجزات تحققونها.

أنتم تسجنون السجان..وتقهرونه بعزيمتكم وصمودكم، وبتكوينكم لمجتمع مقاوم متماسك واع مبدع.

سينتهي الاحتلال، وستبقى الزنازين شاهدات على اندثار احتلال ابتليت به بلادنا..سيندثر ببطولة المضحين الشهداء، والأسرى والأسيرات، وبمن يواصلون دون تردد إلى فلسطين الحُرّة بالكلمات المحفورة بالأظافر والمحناة بالدم على جدران الزنازين التي تعبرها إبداعاتكم إلى شعبكم..وأحرار أمتكم، وأصحاب الضمائر في العالم كله.

* مداخلة الكاتب في فعالية ( أسرى يكتبون) التي أقيمت في مقر رابطة الكتاب الأردنيين يوم السبت 9/1/2021