facebook

الابعاد .. 13-1-1988م – حسام خضر

الاربعاء.. قبيل ظهيرة الثالث عشر من كانون الثاني من عام 1988م، اهتزت جدران سجن جنيد بنشيد ردده مئات الاسرى الابطال ما ان حضرت ادارة القمع لاخراجنا باتجاه مكان مجهول هو منفانا الجديد الى حيث لا ندري؟ ” نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا”.. زلزلت الارض تحت اقدام جنود الاحتلال المدججين بالهراوات والاقنعة السوداء والغازات السامه, انتشر خبر اخراجنا ونقلنا مثل النار بالهشيم، بدأ النشيد هتافا من حناجر ملأتها الدموع غضبا وغضب! ثم تتالى الصوت هديرا في كل ارجاء السجن، فيما نحن نسحب بالقوة الى خارج الاقسام برفقة جنود يتكاثرون مثل البكتيريا من حولنا. ورافق النشيد ضربات بالايدي والارجل مما اعطى المشهد بعدا دراميه مؤثرا حزينا ورهيب.

لم نكن نتوقع ساعة الصفر، اذ لو كنت اتوقعها لاكلت “صحن الديسه” التي احب! الاّ اني تركته حتى اشعار اخر. لم اتناول كذلك بيضة الافطار وملحقاتها من زيتون وخبز، كنت مشغولا بملاحقة افكار احزاني الملمها تتهرب مني بعشوائية غريبه! اخاطب نفسي بان لو سقطّت شهيدا يوم اصبت على ان ابعد خارج وطني الذي عشقته حد الحب! لو اعترفت باي تهمة من تلك التي حقق معي عليها محققوا “الشين بيت” او “الشاباك ” تاركا الصمود البطولي الجريء لغيري وحكمت سنوات بلا نهايات على ان ابعد! الابعاد موت بطيء واقتلاع من جذور الحياة، واعادة تشكيل جديد في غربة قاسية وصعبه. كنت مبرمج على كل شيء.. الاصابه.. الشلل.. الاعتقال.. المطارده او الشهاده.. لكني لم احسب حساب الابعاد يوما مقتلعا من حضن ارضي!

وضعونا وسط حراسة مشددة في زنازين تحت الارض بعيدا عن كل شيء، وبدأت اجراءات لها اول وليس لها اخر مما زاد امورنا تعقيدا، اخرجونا مع الظهر فجأة بعملية بوليسية جيدة الاخراج، كان الهدف اخراجنا وسحبنا من بين الاسرى دون اي خسائر تذكر، وباسرع وقت ممكن، وبجاهزية عاليه! واخرجوا معنا من غرفة المبعدين ملابسنا القليلة التي بتنا نمتلكها مع ايام الانتظار الصعبه.

كلبشوا ايدينا وارجلنا وغمموا اعيننا ومن ثم حملونا في سيارة هي ذات السيارة التي احضرتنا من سجن عتليت الى نابلس القديم فالجنيد، اي تلك التي تتبع ادارة “الشرطه العسكريه” وما تحمله من بشاعة قسوتهم الحاقده. حاولت ان اتتبع سير الطريق من خلال ذهني الحافظ للمنطقة وطرق السجون عن ظهر قلب من كثرة زياراتي لها، لكن ما ان انطلقت السيارة حتى فقدت الاتجاه امام عنف الجنود وشراستهم وسوء معاملتهم لنا وبطريقة انتقامية تعيدك الى سيرة تكوينهم الاولى ومسيرتهم عبر التاريخ؟

سارت بنا السيارة العسكرية وقتا طويلا من زمن. او هكذا اخرجوا لنا الامر, كي لا نعرف اي شيء عن وجهتنا, وان راحت بنا الظنون الى الاردن حيث جرى قبل الانتفاضة ابعاد كل من الاخوة القاده محمد دحلان ومروان البرغوثي وجهاد مسيمي وخليل عاشور وغيرهم عبر وادي عربه الى الاردن. في تلك الظروف لا تستطيع السيطرة على سيل الافكار تتسابق اليك نحوك.. وتكبر فيك منك ! كل شيء وارد في رحلة عذاب كل ما فيها موجع وقاتل ومخيف.

سمعت صوت مراوح “طائرة هليوكبتر” تعالت اصوات محركات مراوحها حتى صمت اذناي, توقف السياره .. تقدّمت وتراجعت ومن ثم استدارت, فتحت الابواب من الخارج وركلني احدهم برجله على ركبة ساقي اليمنى المصابه برصاصة حية لم يتوقف نزف دم دمائها حتى اللحظه مما المني وبشده, غير ان الام الروح تعلو كل الالام لذا تجاهلت الامر مع شد الجنود لي وانزالي من السيارة بعنف, ثم المشي بي سريعا باتجاه الطائرة التي ارتفع صوت محركها بشكل كبير, شعرت اني ادوس على ارضية اخرى غير الارض, فيما ظل الجنديان يمسكان بي من تحت ابطي وذراعي ويسحباني باتجاه ما, توقف ثم اجلاس بالقوة وتربيط على كرسي, استطعت ان اميز المكان من تحت العصبة على عيوني, وادركت اني داخل بطن الحوت ! ما ان ادرت برأسي بحذر شديد في اكثر من اتجاه, وهالني ما رأيت من عدد جنود. احضروا اخ ثاني بقربي, مما اثار فضولي لمعرفة من منهم, فبادرت بسؤاله من يكون, وقبل ان يجيبني الاخ الكبير بشير الخيري بمن يكون ضربني جندي بقبضة يده ضربة ابرقت ضوءا في عيني اليسرى فصرخت في وجهه بأعلى صوتي وشتمته بكلام عبري. حضر ضابط الى قربي, ورفع العصبة قليلا عن عيني وقال لي بصوت فيه تحدي حسام بديش اسمع صوتك, لكني جادلته وشتمت الجندي مرة اخرى, في تلك الحظة تسنى لي ان ارى داخل الطائرة العسكرية ناقلة الجنود, وهالني حجمها وما فيها ووضع الاخوة جبريل رجوب وبشير الخيري وجمال جباره؟

لم اميز عملية اقلاع الطائره حتى استدارت بعد فترة من زمن طيرانها,كان الحنين قد تشكل في دواخلي على شكل دمعات ارتفع صوتها الى شغنفات وداع لعزيز يسكننا اسمه وطن, وبكل ما فيه من اهل واصدقاء وجيران وذكريات طفولة وشباب ومعاناة بلغت عنان السماء؟

شريط ظل يعرضه عقلي امامي مذ كنت نطفة في ظهر ابي, حتى تكورت جنينا في رحم امي, لاحبو على تربة بلادي طفلا يأكل من التراب حوله اول شيء بعد حليب امه, يرنو نحو العلا حيث ترقد ارواح الاباء والاجداد منذ ما قبل الطوفان وحتى لحظتنا تلك المملوءة بالشجون وبالظنون وبالمخاوف والهموم.

ليس من السهل تقدير الوقت خارج سيرته البدائية الاولى, وفي السجن يصعب قياس الزمن, اذ سرعان ما يفقد خواصه وعلاقته بك او بالزمان.. زمانه حتى, للسجن خاصية تفقد الزمان مكانته وطبيعته وكيمياءه. هدير الطائرة كان يضفي على المشهد معنى الالم والعذاب. لان ترجمته كانت فقط حرمان.

شعرت بهبوط الطائرة وتوقفها في الهواء وتباطؤ عملها, وكان لتلامسها الارض واهتزاز الارض اثره علينا. توقفت دون ان توقف محركاتها, الاحزمة تراخت وامتدت الايدي نحوي وانتزعت من مقعدي انتزاعا, ثم ساقوني الى مكان شعرت فيه بتدرج هابط عند نهاية الارضية رفعوا العصبة عن عيوني لالقي بنظرة من الخارج الى بطن الحوت الشرس. ثم دفع سريع باتجاه مجموعة جنود من حولهم جنود باعداد كبيرة جدا تبلغ المئات , وطائرات عموديه ودبابات واليات عسكريه وغيرها. اوقفوني والاخوة امام ضابط عرّفنا على نفسه بانه هو المشرف على العملية، وقام بدوره بابلاغنا باننا في منطقة جيش لبنان الجنوبي – الخائن سعد حداد او لحد – وبان الاوامر لديه تقضي باطلاق النار علينا في حال حاولنا العودة من هنا باتجاه حدود فلسطين, وقرأ علينا القرار, ومن ثم اخذني على جنب وأحضر دكتور وطلب فحصي, حيث ابلغني بان دوره ان يتأكد بان جرحي جيد, انزلت البنطلون عن ساقي اليمنى وفتح الشاش الطبي الملفوف حولها وتفحص الجرح. وكان تلفزيون الجيش يصور كل المشاهد وتحديدا هذا المشهد. ثم طلب مني الضابط المسؤول اخذ 200 دولار بواقع 50 دولار لكل منا حسب قانون الابعاد البريطاني, الا انني امسكت النقود والقيت بها في الهواء صارخا في وجهه بانني لن ابيع وطني بكل فلوس الارض! فتطايرت في كل اتجاه مما استفزه بشكل كبير وراح يهدد ويتوعد فيما اعدت امامه من جديد انني لن ابيع وطني بكل فلوس الدنيا.

اوقفونا من جديد بعد ان مشى معنا الضابط وسط جنوده المسلحين بالحقد والخوف والاسلحة الفتاكه, اوقف سياره وطلب من سائقها وضع رأسه على مقودها وعدم النظر الينا, ركبت انا وجمال جباره بها, ثم ركب كل من جبريل وبشير بالسيارة الاخرى, والقوا في اغراضنا بكلا السيارتين, ثم امروا السائق بان يسير بنا باتجاه الجيش اللبناني الرسمي, وامسك بيدي من جديد وناداني باسمي مهددا ومتوعدا من محاولة الرجوع.

جلت بانظاري بالمنطقه كلها.. هناك صارت فلسطين, وانهمرت الدموع بشدة اذ ليس هناك ما هو اعز من وطن فكيف اذا كان هذا الوطن فلسطين؟؟؟

سار بنا السائق مسافة طويلة دون ان يكلمنا في بداية الامر او حتى دون ان يستجيب لاسئلتنا حول وجهتنا مما اضطرني الى تهديده,فقال انه يسير باتجاه حدود لبنان حيث الدوله اللبنانيه, وما ان اقتربنا من نقطة ما حتى طلب منا النزول, رفضنا لكنه توسل الينا ان ننزل خوفا من اعتقاله من قبل الحاجز العسكري, تشاورنا بعدما اكد لنا انهم لا يبعدون عنا سوى امتار واشار بيده الى ثكنة صغيره سرنا باتجاهها.

استقبلنا الاخوة افراد كتيبة الجيس السادس اللبناني اجمل استقبال وقالوا انهم سمعوا بالاخبار عنا وانهم توقعو وصولنا الى نقطة “زمريا”. كانت الدنيا اقرب الى مغيب الشمس من اي شيء اخر, وكان البرد زمهريرا, والسماء ملبدة بغيوم الحداد اذ كانت سوداء مشحبرة الوجنات, شربنا برفقتهم زهورات لبنانيه جبليه على رأي احدهم, ثم قال انه سيبلغ القياده بامرنا لكي يتصرفوا, حضرت قوه عسكريه اقتادتنا الى “راشيا”, وهناك استقبلنا رائد من الجيش السوري ورحب بنا لكنه سرعان ما غير رايه وخرج ولم يعد ما ان عرف اننا من فتح والشعبيه ومن جماعة منظمة التحرير الفلسطينيه؟ تركنا لوحدنا لاكثر من ساعه, حضر ضابط اخر وطلب منا مرافقته. سرنا باتجاه الحاجز الذي وصلناه اول مره, تصرف الجنود هناك بمسؤوليه, اجروا اتصالاتهم وحضرت قوه جديده اخذتنا الى مبنى القلعة البارد, كان الجوع قد هد قوانا ليضيف البرد لمسته السحريه,احضروا لنا ما تيسر او توفر من خبز وجبن, اكلنا واخذونا الى قاعة كبرى شبه معتمه بارده جدا فيها أسرّة عسكريه وبطاطين ثقيله لا تصلح لشيء. وجع رجلي وتأثر الاصابه بالبرد سرق النوم من جفوني.

كان اسوأ من ايام التحقيق في سجون الاحتلال عليّ, ما ان سمعت نداء الله اكبر فجرا حتى تنفست الصعداء. مع العاشره حضر ضابط وسيم استقبلنا بكل حفاوة من ال “الساحلي” لبناني اصيل, وعرفنا بدوره على الاخ وليد ابو العيون مسؤول الجبهة الشعبية العسكري في منطقة البقاع الغربي. احسسنا بدفء وامان وتوجهوا بنا الى بلدة “كساره” حيث مقر الصليب الاحمر لننصب خيم اعتصام وسط ثلج ملأ الدنيا مع قدومنا. فيما الاف من المتضامنين والاخوة اللبنانيين والفلسطينيين والعرب والاجانب ظلوا معنا وحولنا, وهناك كان لي شرف اللقاء بالقائد التاريخي الكبير “جورج حبش” الحكيم.

في الوطن ثورة عارمه! مسيرات واضراب.. مواجهات وغضب، سجل مخيم بلاطه الشهداء قائد الحركة الوطنيه الفلسطينيه المعاصره اشدها ضراوة وكانت اكبر مسيره في تاريخه واعتقل الاحتلال اختي ” ليلى ” وزج بها في سجونه لمدة زادت عن شهر.

اه يا وطن.. ما اغلاك! ثم كانت سنوات من يأس زاد في بؤسها واقع ثورتنا الذي شاهدنا منه الجانب المظلم غير المضيء الذي كنا فيه وعشناه نقاوم ونبني تحت حراب الاحتلال!!! بكاء والم وغربة واغتراب واحتراب مع تجار وطن اسمه فلسطين!!! قسما بالله! هذاهو الابعاد .. على الاقل لي انا الذي لفظت اؤلئك السفلة على مدار سبع سنوات ونصف هي عمر نفيي خارج الوطن! وكشفت حقيقتهم الزائفة واكذوبة الثوره التي كانت حلمنا الامل !

اترك تعليقاً