الأرشيفعربي وعالمي

الاستغلال الرخيص لمصيبة كورونا – منير شفيق

 

كورونا هذا الجسيم “الفيروسي” التافه الحقير ملأ الدنيا وأشغل الناس، وهو لا يعرف ما هذا الذي حدث له، ولا يعرف ما قد أحدثه، ولا كيف ملأ الدنيا وأشغل الناس. فهو لم يطلب الشهرة، ولا يبالي متى ستخبو هذه الشهرة ويصبح “فيروساً” عادياً تحت السيطرة، ولو نسبياً، وتقهره المناعة الذاتية للإنسان. وهذا ما حدث لغيره، وقد كان أخطر منه، وأكثر فعلاً، وأشد فتكاً، مثل “الإنفلونزا الإسبانية 1918 (سبانش فلو)”، وقد أودت بعشرات الملايين (بين 50 و100 مليون، أي ضعف ضحايا الحرب العالمية الأولى من طرفيْ جبهتها).

 

ومع ذلك، فهذا الكورونا لم يملأ الدنيا ويشغل الناس عبثاً، فهو خطر جاد وداهم وسريع الانتشار، والأسوأ أنه جديد ومتجدد، ولم تُعرف سماته الأساسية التكوينية بعد، ولا نقاط ضعفه وقوته، خصوصاً الرئيسي منها حتى يصارعه الدواء. ولم يصل بعد إلى مواجهة مناعة جسدية بشرية خبرته جيداً، لترد عليه، أو تردعه جيداً.

 

ولهذا ما زالت الحرب معه في بدايتها، وإن كانت بشائر النصر عليه لوّاحة في الأفق. ولكن بعد مغالبة طويلة أو قصيرة. غير أن قصيرها (لو عُدّ بالأشهر أو بسنتين أو ثلاث) طويل من حيث النوع، والآثار المباشرة الفورية على الاقتصاد والسياسة والحالة النفسية الفردية والجماعية، ناهيك عن خسارة من سيلاقون حتفهم، ومن أحزان محبيهم عليهم. وما أشق على الذين لهم تاريخ في ارتكاب المخاطر أو خوض المنايا، فيودي بهم هذا الجسيم الفيروسي الحقير.

 

ولعل ما توّلد من هذا الانتشار الوبائي من مخاسر اقتصادية هائلة، جماعية وفردية، وما نشأ من صعوبات في إغلاق حدود الدول، وإلغاء المواصلات العامة، وطلب العزلة في البيوت، وتجنب التواصل الإنساني، والاجتماعات الواسعة والصغيرة، هو بعض ما ولدته هذه الحرب من مخاسر وسلبيات عمت البلدان التي حطّ فيها وانتشر.

 

بيد أن ثمة أبعاداً ينطبق عليها قول المتنبي “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فهناك الذين راحوا يفيدون من هذه الحرب، ويمكن تسميتهم تجار كورونا، تماماً مثل تجار الحروب الذين يراكمون الثروات من دماء ضحاياها وخراب عمرانها، ووسائل القتل فيها.

 

فكل الذين لا يريدون في الضفة الغربية والقدس انتفاضة شعبية شاملة، أو راحوا يطاردون كل تجمع يواجه الاحتلال؛ يستطيعون الآن أن يفيدوا من خوف الناس من كورونا، ومن ضرورة اتخاذ أولى الاحتياطات الضرورية لمنع انتشاره، وذلك ليكونوا في مقدمة الذين أصدروا الأوامر بمنع التجمعات، ودعوا إلى العزلة في البيوت. وكان من مهازل هذه الإفادة من كورونا ما تلقته سلطة رام الله من التهاني الدولية على مبادرتها، وقد راحت تتباهى بأنها كانت من “السباقين” بين الدول العربية في اتخاذ إجراء منع التجمعات وإعلان ما يشبه حالة الطوارئ ضد كورونا.

 

وهذا بالطبع حقٌ أُريدَ به باطل، لأن منع التجمعات المنطلقة للصدام مع قوات الاحتلال، وصولاً إلى الانتفاضة في الضفة الغربية، مارسته سلطة رام الله قبل أن يطل أول “كورونا فيروسي” السمات برأسه في فلسطين، أو حتى في الصين وكوريا الجنوبية وإيطاليا، وربما قبل أن يوجد ويبحث عن حاضن.

 

فمنذ سنوات أعلن الرئيس الفلسطيني أن الانتفاضة الشعبية ممنوعة رسمياً في الضفة الغربية، ولهذا طورد كل تجمع شبابي توجه لمواجهة حواجز الاحتلال.

 

جاءت سياسات دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني (وهي ليست بدولة شرعية أو طبيعية أصلاً، فهي كيان لتجمع استيطاني جاء من خارج فلسطين ليقتلع شعبها ويحل مكانه)، ثم أتبعها بسياسات تشرعن الاستيطان والمستوطنات، مؤكداً عبر إعلان “صفقة القرن” على اعتبار “الدولة” دولة قومية لليهود فقط، بما ينكر أي حق أو وجود للفلسطينيين في فلسطين.

 

لقد قوبلت هذه السياسات من الشعب الفلسطيني ومن الرئيس الفلسطيني وكل الفصائل الفلسطينية بالرفض والاستنكار، مما أوجب أن يتحرك الشارع في القدس والضفة الغربية بالرد من خلال انتفاضة شعبية شاملة ضد الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وضد “صفقة القرن” التي هي “جريمة” القرن بامتياز، الأمر الذي ولد أزمة عميقة داخل هذا الإجماع الفلسطيني حين اقتصر على رفض السياسات الأمريكية- الصهيونية آنفة الذكر، ولم يرتفع إلى المواجهة الشعبية الشاملة من خلال الانتفاضة في ظل وحدة وطنية واسعة تضم ذلك الإجماع كله. وهي أزمة سلطة رام الله والرئيس الفلسطيني وحركة فتح في الأساس؛ لأنهم وحدهم شذوا عن شبه الإجماع الفلسطيني في عدم الاكتفاء بالرفض وضرورة الانتقال إلى الانتفاضة، وراحوا يمنعون الانتفاض والمواجهة.

 

ومن هنا يجب أن يُقرأ قرار السلطة في رام الله، حيث خرجت (مؤقتاً طبعاً) من الأزمة لتتوجه، وبحق، لمنع انتشار كورونا ومكافحته. ولكن احتراماً لعقول الفلسطينيين لا حاجة إلى التباهي (كما فعل الهباش) بالسابقة والمبادرة والانتفاع السياسي بمصيبة كورونا.

 

طبعاً ثمة “أقوام” آخرون أفادوا من مصيبة كورونا بأشكال مختلفة، ومن مواقع دولية وسياسية متنافسة. وقد اشتهر قول للسيد طلال أبو غزالة بأن “كل أزمة تحمل أيضاً فرصة لجني الفوائد الاقتصادية منها”. ويمكن أن تضاف فرصة سياسية أو إعلامية، وأحياناً يمكن للثورة أن تفيد أيضاً. ولهذا يتوجب التفريق بين فائدة رخيصة إلى حد الحقارة، وفائدة نبيلة في مصلحة الناس.

 

وبالمناسبة، هنالك مثل على الاستغلال الرخيص لمصيبة كورونا ما فعلته المصارف في لبنان، حين أعلنت إغلاق أبوابها من 17 إلى 29 آذار/ مارس 2020 بحجة التعبئة العامة ضد كورونا