الأرشيفثقافة وفن

الحيرة في ديوان “أبجديات أنثى حائرة” – سماح خليفة

سماح خليفة ديوان

بالأمس كانت جلسة حوار مع  “فراس وإسماعيل حج محمد” ومما جاء في الجلسة ضرورة أن يكون العمل الأدبي متناسق ومنسجم، بمعنى أن يكون موحد/متماثل في اللغة أو الفكرة أو الأسلوب أو الشكل أو في بعض ما سبق، خاصة في لقصة القصيرة وديوان الشعر، لكي يستطيع القارئ أن يكون فكرة واضحة عما يريده الشاعر/القاص.

في هذا الديوان هناك انسجام مع العنوان “ابجديات أنثى حائرة” فقد حاولت ان اتابع بداية القصائد التي ابتدأت بفعل أو تلك التي ابتدأت بالاسم لأكون فكرة ما، استطيع من خلالها أن أصل إلى ما في داخل الشاعرة، لكني لم أوفق، وحاولت أن اتباع قصائد مطلقة البياض فلم اجدها، إلا في قصيدة واحدة “أمنيات عاشق” وكذلك الامر بالنسبة للسوداء، وعملت على تحديد صوت الأنثى/الشاعرة في الديوان فوجدت هناك صوت للرجل أيضا، كل هذا جعلني في حيرة، من أين أبدأ الدخول إلى النص الشعري؟ بعد التفكير وجدت أسهل طريقة هي التي نقبل بها الآخرين كما هم  وليس كما نرغب نحن، بمعنى أن أرادوا أن يكونوا بهذه الإشكالية فعلينا أن نتقبلهم، وأن أرادوا غير ذلك فعلينا  نرحب بهم.

إذن الديوان يتميز بهذه الحيرة وهذه الإشكالية التي تجتمع وتتكاثف على القارئ، فتجعله يأخذ أكثر من فكرة، فأحيانا يجد صوت المرأة، والذي  يحمل النعومة والهدوء، وأحيانا نجدها امرأة ثائرة متمردة وصلبة كصلابة الصوان، وأحيانا نجد صوت الرجل، وهناك فكرة الوطن الأسير، و”القدس” الأسيرة، والمكان الصامد كما كانت قلعة “الاشقيف”، أو الجريح كما هو الحال في مدينة “حلب” والهم الشخصي، فالديوان يمثل العديد مؤثرات الحياة علينا.

لكننا وجدنا فكرة جامعة في الديوان وهي حديث الشاعرة عن القصائد، فكلنا يعلم أن الكتابة/القراءة احد العناصر التي تخفف قسوة الواقع، كما هو الحال في المرأة/الرجل، والطبيعة، والثورة، فهي كمرأة/كشاعرة استخدمت الكتابة والرجل والثورة والطبيعة كحالات تستطيع من التخلص مما علق بها من أشواك جارحة، لكن كل هذه العناصر لم تستطع أن تجعل الشاعرة تكتب قصيدة صافية ونقية وخالية من السواد، فالواقع كان مهيمنا عليها بحيث افقدها شيء من الصفاء، ولهذا وجدناها تكتب بمنطقين، منطلق النعومة ومنطق القسوة، وهذا ما تجتمع عليه قصائد الديوان.

سنحاول أن توضيح حالة الحيرة التي أخذتنا في هذا الديوان من خلال تقديم بعض الشواهد منه، في قصيدة “حكاية وطن” تقول الشاعرة:

“مهد النبؤة الصاعدة

من أكف جداتنا الخالدات

يحملن الحجارة

في جحور أثوابهن اللاهبة

يلثمنها

يمسدن سطحها المجعد من القهر

يقدمنها هدية العيد المسلوب

من مقل الطفولة الثائرة

في طرقات قابضة للموت

تلك القامات الشاهقة السامقة

في وجه الطغاة” ص15، “

نجد الشاعرة تنحاز للمرأة، لهذا تحدثت عن الجدات وليس عن الأجداد، علما بأن من يقوم بالبناء هم الرجل وليس النساء، لكنها كمرأة انحازت لمثيلاتها، وهذا يحسب لها، فنحن نريد المرأة أن تكون مع ذاتها، مع نوعها، وإذا ما توقفنا عند اللفظ المؤنث سنجد ما يتبعه جميل وأبيض، مثل

” مهد النبؤة الصاعدة”

” جداتنا الخالدات”    

” أثوابهن اللاهبة

يلثمنها”

” يمسدن سطحها”

” القامات الشاهقة السامقة ” كل ما سبق يعطي دلالة على البياض إن كان من خلال المضمون أو من خلال اللفظ، لكن الاستثناء الشاذ كان في هذا المقطع:

” في طرقات قابضة للموت” فهنا اعطت الطرقات ـ المؤنثة ـ صفة سوداء هي الموت.

وإذا ما توقفنا عن الألفاظ المذكرة سنجدها أخذت صفة القسوة أو الاسواد:

” العيد المسلوب”

” في وجه الطغاة” فالعيد المذكر كان مسلوب، فاقد للفرح المتوخى منه، والطغاة جاءوا بصفة سلبية، كل هذا يجعلنا نقول أن الشاعرة كمرأة تنحاز لذاتها على حساب الرجل/الذكر، لكن إذا ما أكملنا بقية القصيدة سنتعثر ونلغي ما قلنا، فتحدثنا عن الحرب وهي مؤنثة فتقول فيها:

“ان ترهبنا زيف الحرب الواهنة” ص16، فهنا تختلط علينا الأمور وتجعلنا حائرين، كيف يمكننا الامساك بما هو داخل الشاعرة؟ كيف نحدد موقفها من المذكر والمؤنث؟.

المقطع التالي يجعلنا نتأكد بأن التيه أو زوغان الشاعرة جعلنا لا نستطيع الامساك بها، وهو يحسم عدم  قدرتنا على تحديد ما في داخلها:

“تزاوج فيها كؤوس الخيانة

بنبيذ الغدر المعتق

في خمارات الموت

تفوح منها روائح نتنة

دبابات المحتل التي تحصد الأرواح” ص116، فالسواد حاضر في اللفظ والمعنى، والصور، في الفكرة، ويجتمع فيها المؤنث والمذكر.

المفارقة والتباين بين فاتحة القصيدة ونهاياتها  هو أمر محير لنا أيضا، فتبدأ بعض القصائد بفاتحة  بيضاء وتنهيها بخاتمة سوداء، كما هو الحال في قصيدة “سيدتي العذراء”:

“سيتي العذراء تنشر الحب في الحقول

والتلال

وتخصب قلوب

الفلسطينيين

العاشقين لسحرها

ترضعهم من أثدائها

 زيتا

وزيتونا

تلقمهم” ص19، فهنا كل الالفاظ والمعاني والصور جاءت بيضاء وبشكل مطلق، لكن الشاعرة تختمها لنا بهذه المقاطع:

“تهمس

في أذن كاثرين غراهام

أن نمطية الخديعة

التي تغشى مقلتيها

ستبقى جاثمة على صدر الحقيقة

تستل النبض حتى آخر زفرة

من جوف الوطن” ص21، فيما سبق نجد حالة من الالفاظ البيضاء والسوداء معا، لكن الغلبة للسوداء، فنجد لفظ “الخديعة، تغشى، جاثمة، تستل، زفرة” كما ان المضمون والفكرة  جاءت سوداء وقاسية، وهذا ايضا يجعلنا في حيرة من أمرنا.

قلنا أن الكتابة/القراءة  تعد احد العناصر التي تخفف من قسوة الواقع، لكن “سماح خلفة” تقدمها لنا بشكل مغاير تماما، وتجعلنا في شك في هذا القول، ففي قصيدة “عبثاً” تقدم ما هو مغاير لهذه القول:

“ركود سافر يجتاح ليلي

يغتال الحرف من كنف القصيدة

فيسفك الحبر

في صحراء دفاتري

عبثاً…

ويستبيح أقلامي

لا الفكر حر …

ولا

موت رحيم..

ينهي التردد

على اعتاب اشعاري

والنوم لحد والأحلام كافرة

والجفن يطبق مقهورا

على وطن

سرقه لصوص الليل

فما أبقوا

رغيف خبز … ولا زيتا وزيتون” ص35و36، أن يفقد الإنسان أحد العناصر أو الوسائل التي تعطيه القوة وتجعله قادر على الاستمرار في معركته يعد انتكاسة، فلماذا اقدمت الشاعرة على أحداث هذا الخلل؟، فالمشهد السابق في غاية القتامة والسواد،  فكان من المفترض أن تكون “القصيدة” احدى العناصر التي تستعين بها لمواجهة الواقع، لكنها اعدمتها، وكأنها كشاعرة تنهي ذاتها بهذه الفقيدة، لكن هذ هذا ما تريده الشاعرة؟، أم أن هناك ما هو وراء الفكرة المحمولة؟ اعتقد ان الصور الشعرية لتي تألقت بها الشاعرة، والتي ستسهم بالتأكيد في تخفيف من حدة السواد عند القارئ تؤكد على بقاء العطاء الشعري عندها، فإذا ما توقفنا عند هذا المقطع:

” ركود سافر يجتاح ليلي

يغتال الحرف من كنف القصيدة

فيسفك الحبر

في صحراء دفاتري” فرغم الفكرة  السوداء والفاظ “يجتاح، يغتال، فيسفك، الدم، صحراء” تبقى تقنية الصورة الشعرية تخفف من وطأة المشهد، وهذا ما يجعلنا نتأكد بأن مسالة الحيرة/الزوغان مقصودة عند الشاعر، ولم تأتي بشكل عابر.

هنا حالة من التداخل بين المرأة والرجل في قصيدة “ساعة مخاض” فالمتحدث فيها هو رجل، لكن الأفعال التي يبدها هي للمرأة،

وهذا أيضا يخدم فكرة الحيرة التي تعم الديوان:

“تنهمر دموع سماواتي

إذا ما رأتك تغادين

غابات عشقي المشرئبة

يرجف قلب الأرض

على وقع أقدامك المهاجرة

يذبل الياسمين وينتكس النرجس

المزهر بصورته المنتشية

في حدائق عينيك  

إلا أيتها الظبية ال تتراقص

على حواف نهري المتدفق شوقا

فتحيي بإيقاع حوافرها

سمفونية العشق

في أثير الروح الهااائمة

فوق ظلك

عودي برشاقة أنثاك المعهودة

وتبختري على جسدي

الممزق أشلاء تحت

عرشك الناري

وأحجي أتون الرغبة في خلاياي

ليعلن الحب ساعة المخاض

ولتولد الحياة

العابقة بعطر ثراك” ص77و78، هناك مجموعة من الألفاظ تشير إلى أن المتحدث هو امرأة وليس رجل،  دموع، المشرئبة، يرجف، يذبل، تتراقص، المتدفق، شوقا، الممزق، الرغبة، خلاياي، المخاض، الولادة” جميع هذه الأفعال هي أقرب للمرأة منها للرجل، رغم أن بعضها مشترك بينهما، لكنها أكثر خصوصية بالمرأة وهذا يشير إلى الحيرة، ويجعلنا نتساءل: لماذا تحدثت الشاعرة بصوت الرجل؟

فهل تريد أن تقول  ـ أنها كشاعرة ـ تستطيع تحسن والتحدث بصوت الرجل؟ وتقدر ان تتقمص دوره وتحدثنا بمشاعره؟

اعتقد أن قصيدة “أمنيان عاشق” تجيبنا على هذا السؤال:

“دعيني أتسلل إلى قلبك

كعاشق شفه الوجد من عل

سليني الهوى من ثغرك

فمبسم الحب فيك لا ينجلي

خذيني إلى رضاب مهدك

 وانثري هواك الذي لا ينسلي

عديني بحلم رااائق على ضفاف

عينيك الكحيلتين، لا نضوي

مريني بموت في هواك محبب

إن لم يكن كلك لكلي ينقضي” ص99، أن تكون قصيدة مطلقة البياض وعلى لسان رجل أمر يحيرنا، فلولا وجد لفظ “بموت”  لكانت مطلقة البياض، فلماذا جاءت قصيدة بيضاء على لسان الرجل وليس على لسان الشاعرة، المرأة؟ وكيف استطاعت أن تتجاوز حالة السواد في كل ما سبق ولحق وتتخلص منها بهذا الشكل شبه مطلق؟ ولماذا عندما تحدثت هي عن ذاتها كمرأة عاشقة لم تعطينا مشهد كامل البياض؟

لكي نبرر الأسئلة السابقة نأخذ قصيدة “عيناي وطن لا يستكين” لنتأكد بأننا أمام حالة من عدم الوضوح ـ مقصودة ومتعمدة ـ تضعنا فيها الشاعرة، فرغم أنها أنثى ومن المفترض أن تكون حالة البياض المطلق خاصة بها وليس بالرجل، إلا أنها قلبت المسالة ولم تعطينا صورة البياض المطلق للمرأة العاشقة:

“فلتكتف بعبق حبر  رسائلي

ولتبق مشدودا بحبل قصائدي

ولتشته حروفي الناضجات

وكلماتي العابرة على مسمعيك

كطيف منفي في بلاد الآثمين

تفاوض أزمنتي العذراء

في نخادع الحب الحزين

وتشرب نخبا هستيريا معتقا

في كؤوس الحالمين

ففي عيناي وطن لا يستكين

فأدخل زمني المترنح

في شوارع ذكرى الحنين” ص57، فلفظ “مشدودا، حبل، منفي، الآثمين، تفاوض، هستيريا، المترنح” كلها الفاظ صعبة وتوحي بالألم والسواد، فرغم أن الألفاظ تخدم فكرة العشق عندها إلا أن هذه الألفاظ تعكر صفوة هذا العشق، وتجعله غير نقي وغير كامل أو مطلق، وكأن من الأولى أن تكون الألفاظ كما جاءت في القصيدة السابقة، لكنها لم تكن كذلك، وهذا الأمر يؤكد حالة لحيرة عند المرأة الشاعرة.

تنهي الشاعرة حيرتنا بقصيدة “أنا…” التي توضح فيها الطريقة التي وجدت فيها، الطريقة التي هي فيها، وكأنها بهذه القصيدة تريدنا أن نتعرف على شخصيتها، على نفسيتها، على طبيعتها، على تفكيرها، على ألمها وفرحها:

“أنا اليوم والغد وكل ايام السنة

أنا الحاضرة والمستقبل

وكل مجد لي أنا

أنا زهر اللوز والياسمين والسوسن المختال

في أرضه وعلى جيدي أنا

أنا الزيتونة الصابرة المتجذرة في قلب الوطن

وفي أحشاء القهر صامدة أنا

أنا لو تدرون

بياض الثلج في عرسه

أريج الزهر في عرسه

انا قبلة الشمس في جبين الكون

وكل دموع كانون الرخيم أنا

أنا كل الحياة ونبضها والروح في أحشائها أنا

ولي كل حروف اللغة وكل القصائد والشعر المحلي

وكل معنى على ضفاف العشق

أنا كل الحب أنا

أنا لست شهرزاد ولا ليلى لا ولا جولييت أنا

انا كل نساء الأرض وكل الحوريات

وكل الماجدات الحرائر أنا

فاخلعوا كل معنى غريب غيبي عن كينونتي

وتذكروا

أنا حواء وكل الكون في قبضتي أنا” ص151و152.        

لن اضف شيء بعد هذه القصيدة، فهي تعطينا إجابة شافية عن حيرتنا وعن الطريقة التي شكلت “سماح خليفة” كشاعرة.\

الديوان من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2017.