الأخبارالأرشيف

القدس ونصف قرن على النكبة الثانية – عبد اللطيف مهنا

خمسون عاماً على النكبة الفلسطينية الثانية. على احتلال ما تبقى ولم يحتل من فلسطين في نكبتها الأولى العام 1948، أو ما سمِّيت بالنكسة في العام 1967. نحن هنا نتحدث عن محطتين نكبويتين، لكنما هذا لا يعني أن الفلسطينيين لم يواجهوا نكبة مستمرة امتدت ما بين وعد بلفور وكارثة أوسلو وهذه اللحظة. منذ أول لحظة إحتلالية انطلقت العجلة التهويدية لما أُحتل إجمالاً. دارت ولا زالت وفقما رسمته الاستراتيجية الصهيونية الأصل، أي تهويد كامل فلسطين، والعمل على التخلص وفق الممكن والمتاح آنياً، وإن لم يتوفر فعلى المدى البعيد مستقبلا، من كل أهلها. الأولوية أُعطيت للقدس لجهة تسريع التهويد والعمل الحثيث لطمس عروبتها والتضييق على أهلها، لما لها من رمزية مختلقة بنوا عليها سرديتهم الزائفة المزعومة حول علاقتهم التاريخية الملفقة بها.

خلال الخمسين عاماً لم تتوقف عجلة هذا التهويد عن دورانها، وبلغت مبلغاً يجيز القول أن المدينة قد أُنجز تهويدها جغرافياً وما تبقى هو عدم إنجازه ديموغرافياً، بمعنى التخلُّص من كل أهلها. وعلى الرغم من كل ما انجزوه، هناك ملاحظة ذات معنى، وهى أنهم طيلة نصف القرن الذي مضى على احتلالها لم يجرؤا على خطوة لها ما بعدها من مثل عقد جلسة لمجلس وزراء المحتلين في ساحة البراق، أو الحائط الغربي للحرم القدسي، الذي تزعم اساطيرهم التلفيقية الزائفة أنه الحائط المتبقي من هيكلهم الثاني المزعوم…لماذا الآن بالذات؟!

لعل الإجابة جد بسيطة إذا ما ارتكزنا للفهم الصحيح لطبيعة كيانهم الاستعماري الإحلالي وعدوانيته، وبالمقابل ألقينا نظرةً متعجلةً للمشهد العربي وبالتالي الفلسطيني الذي هو جزء منه، لنخلص من ثم إلى أنهم يجدون اليوم في الراهنين العربي والفلسطيني الأبأسين، والدولي الأكثر صهينةً، فرصتهم التي عليهم اغتنامها لقفزةٍ تصفويةٍ للقضية يرونها متاحةً وإنها قد تقربهم من حسم الصراع نهائياً لصالحهم. هذا يعني أنه لا يمكن عزل هذه الخطوة التهويدية التصعيدية المتجلية في واقعة غير مسبوقة يعتبرها القانون الدولي تحدث في ارضٍ محتلةٍ، كعقد نتنياهو لجلسة متحديةٍ لمجلس وزرائه في ساحة البراق، أو الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف، عن الإعلان عن جملة من مخططات ومشاريع تهويدية إضافية لاحقةٍ من شأنها طمس هوية المدينة نهائياً، ولا هذه وتلك عن جملة خطوات أخرى من مثل:

مسح ما تبقى من حدود بين غرب المدينة المحتل العام 1948 وشرقها المحتل العام 1967، ومشروع قطار هوائي من محطة القطارات القديمة وحتى باب المغاربة، واستبدال مناهج التعليم الفلسطينية في مدارس المدينة بمناهج محتليها، لتكريس السردية الصهيونية المشار إليها ومحاولة شطب القضية من ذاكرة الأطفال الفلسطينيين، وبالتوازي مع قوننة كافة خطوات التهويد التي فرضت في الضفة الغربية خلال الخمسين عاماً الماضية، ونفي اختصاص ما نصت عليه وثائق جنيف الدولية المتعلقة بالاحتلال، والإعلان عن ازماع انشاء مستعمرة جديدة جنوبي نابلس. هذا دون أن ننسى أن عملية  توسيع وتسمين وتطوير المستعمرات القائمة أتظل الجارية على قدمٍ وساقٍ ولم تتوقف يوماً بخلاف ما يزعم أو يوحى به أحياناً… هذا على صعيد الثكنة الاستعمارية في بلادنا فما هو حال المركز الأم في الغرب الإمبريالي، الذي ما انفك يطالب أبا مازن برفع مستوى التنسيق الأمني معها؟

لن نتحدث عن متكرر محاولات الأنروا تغيير منا هج التعليم في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين استجابةً منها للضغوط الهادفة لاستخدامها في سياق المساعي متعددة الأوجه لتصفية القضية حتى من وجدان الناشئة، فهي مسألة قديمة ومعروفة، وليس من المهم كثيراً الإشارة إلى أن النرويج، على سبيل المثال لا الحصر، تزمع سحب تمويلها لمؤسسة مدنية تحمل أسم الشهيدة الفدائية دلال المغربي باعتبار أن المسمى يحمل اسم إرهابية، فهذه حالة أوروبية اعتدناها، تكفي الإشارة إلى مشروع القانون الأميركي المسمى “قانون تايلور بوريس”، المعروض على الكونغرس، والذي يسم مسألة دفع مخصصات أسر الشهداء والأسرى في سجون الاحتلال تمويلاً للإرهاب…أي أنهم لم يكتفوا بتصنيف مقاومة الفلسطينيين للمحتل الاستعماري لوطنهم ارهاباً فحسب، بل وما يوحي مستقبلاً بأنهم في سبيلهم لاعتبار كل فلسطيني، حتى لو كان أوسلوياً ينسِّق مع عدوه، إرهابياً!

لم يجرؤ نتنياهو على ترأُس جلسة حكومته في ساحة البراق، لو لم يسبقه إلى هناك ترامب حاجاً معتمراً القلنسوة وداسَّاً في شقوق الحائط ورقةً تتضمن أمنياته… ربما منها دعم صهاينة الكونغرس له بعد عودته في مواجهة تصاعد حملةً قد تصل حد إخراجه من البيت الأبيض، لذا حرص على أن يردد ذات السردية المزعومة التي تربط القدس زوراً بمحتليها.

ولم يكن ترامب ليجرؤ على هذا لولا اطمئنانه إلى انحدار الواقع العربي لدرجة عزَّ تخيُّلها، والفلسطيني لدرجة  أن تصف فيها وسائل اعلام المحتلين لقائه مع أبي مازن في بيت لحم ب”قمة الصراخ”، وشامتةً تروي أن الأول قد صرخ في وجه الثاني مُعنفاً مُتهما إياه “بتشجيع الإرهاب”، من خلال دفع مخصصات عائلات أسر الشهداء والأسرى… ولأن ترامب لم يجد جواباً عند أبي مازن سوى، إن ما تدفعها هي المنظمة وليست السلطة!