ثقافة وفن

“المؤرخون الجدد” وتبرير تهجير اللاجئين الفلسطينيين حسن صعب

 
لا تزال قضية اللاجئين الفلسطينيين من أبرز وأخطر القضايا التي تؤجّج الصراع بين الشعب الفلسطيني والكيان (الإسرائيلي)، برغم كلّ محاولات هذا الكيان، ومن ورائه الإدارات الأميركية المتعاقبة، طمس أو تغييب هذه القضية، سواء عبر المغريات المادية أو من خلال طاولة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

كتاب “مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” للمؤرخ (الإسرائيلي) بيني موريس

هذا الكتاب الضخم (جزءان)، الذي ألّفه المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في العام 1988، يكتسب أهميته كونه يعبّر عن مدرسة فكرية (إسرائيلية) جديدة من (المؤرخين الجدد)، ولأنه يمثّل محاولة لإعادة كتابة التاريخ فيما يتصل بقضية ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من جانب آخر، بعيداً عن كلٍ من الرؤيتين المتعارضتين (الإسرائيلية) والعربية حول هذه القضية.

ترجم الدكتور عماد عوّاد النسخة الثانية من الكتاب، والتي صدرت في العام 2004 عن منشورات جامعة كامبريدج البريطانية، والتي أضاف إليها المؤلّف تفاصيل ومعطيات كثيرة، مع ردود وإيضاحات على انتقادات عدّة تم توجيهها إلى النسخة الأولى، وليقدّم موريس في النتيجة صورة واضحة ومتكاملة لما جرى خلال الربع الأخير من العام 1947 وحتى ما بعد إعلان قيام «إسرائيل»، وأدّى إلى «الفرار» أو النزوح الجماعي لنحو 700 ألف فلسطيني عن ديارهم وأراضيهم باتجاه الضفة الغربية وقطاع غزّة ودول الجوار.

وقد أسهب الكاتب، في النسخة المنقّحة من كتابه في عرض فكرة «الترانسفير» (النقل أو التهجير القسري)، حيث تتبّع جذور هذه الفكرة في الأيديولوجية الصهيونية وكيفية ترجمة القيادات السياسية والعسكرية الصهيونية لها في تلك المرحلة. وبحسب المقدّمة التي أعدّها المترجم، فإن القارئ العربي سيكتشف في الكتاب نقاطاً غاية في الأهمية، من أبرزها :
 
1-يعيد الكتاب إلى الأذهان أسماء قرى فلسطينية تلاشت من الذاكرة إثر تسويتها بالأرض على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، ثم بناء مستوطنات جديدة على أنقاضها.
 
2-يُبرز الكتاب كيفية تعامل كلٍ من الطرفين العربي واليهودي مع أحداث مهمة في تاريخ المواجهات على أرض فلسطين، ومحطات تاريخية مهمة، من قبيل النزوح الجماعي من يافا وحيفا واللد والرملة والأسباب التي وقفت وراء سقوطها كقطع “الدومينو”.
 
3- يكشف الكتاب – من خلال الوثائق اليهودية والإسرائيلية – عن كيفية تعاطي كلٍ من القيادة السياسية والعسكرية اليهودية مع ظاهرة الفرار والنزوح الجماعي الفلسطيني، بهدف توسيع وتشجيع هذا النزوح.
 
4-يركّز المؤلّف الضوء على بعض الفظائع التي ارتكبتها التشكيلات العسكرية اليهودية منذ شهر تشرين الثاني – نوفمبر 1947، ويوضح كيفية تعامل القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية المتواطئ مع مُرتكبي مثل هذه الفظائع.
 
5-يكشف المؤلّف عن شخصية يوسف ويتز – مسؤول صندوق التمويل الوطني اليهودي – الذي ترك بصمات واضحة، سواء في ملف شراء الأراضي الفلسطينية، أو في تشكيل لجنة «ترانسفير» قامت لاحقاً بممارسة «عملها» على أرض الواقع.
 
6- يُفرد المؤلّف فصلاً كاملاً لعرض الجهود الدولية التي بُذلت خلال العام 1949 لحلّ مشكلة اللاجئين من خلال مؤتمر لوزان، وطريقة التفكير الإسرائيلية في التعامل مع هذا الملف ومحاولة استثماره آنذاك.
 
وفي ختام مقدّمته، يدعو المترجم المفكّرين والمؤرّخين العرب إلى بذل الجهود اللازمة بهدف تقديم الرواية العربية الصحيحة لما جرى في العامين 1947 و1948، ومن دون انتظار الآخر (المؤرّخون الجدد في إسرائيل) ليقوم بالتصحيح، الذي قد يكون منقوصاً أو لا يعكس بدقة حقيقة ما حصل في تلك المرحلة المشؤومة من تاريخ فلسطين.

أما مؤلّف الكتاب نفسه، بيني موريس، فيوضح في مقدّمته للنسخة المنقّحة من كتابه، رداً على الكثير من الغضب والجدل الذي أثاره نشر الطبعة الأولى من الكتاب عام 1988، بأنه لم يتبنَّ أياً من الرواية الرسمية الفلسطينية أو الإسرائيلية؛ بل إنه كان يميل حقاً إلى أن يقوّض كلتيهما.

ويؤكّد موريس أنه لم يبدأ بحثه في قضية اللاجئين الفلسطينيين بناءً على التزام إيديولوجي أو اهتمام سياسي؛ بل هو سعى ببساطة إلى معرفة ما حدث.

وبعد إظهاره لأهمية الوثائق الإسرائيلية والمراسلات الديبلوماسية البريطانية والأميركية المتصلة بالعالم العربي، وعلى وجه التحديد بمشكلة اللاجئين الناشئة، يُبدي أسفه لفشل الفلسطينيين والدول العربية في تقديم أو الحفاظ على «مستندات دولة» من العام 1947 حتى العام 1949، على قاعدة أن حرب العام 1948 تُعتبر كارثة مهينة لهم.

وفي تقدير المؤلّف، فإن النسخة المعدّلة من كتابه تضيف بشكل رئيسي إلى معرفة الجميع ما حدث في العام 1948، وكذلك لإدراك الجميع الجذور العميقة للعداوة الإسرائيلية – العربية في الوقت الحالي.
 
خلفية تاريخية مختصرة

 أرغم الصهاينة السكان الفلسطينيين على الفرار بسبب المجازر الصهيونية

في الفصل الأول، وعنوانه (خلفية تاريخية مختصرة)، يعرض بيني موريس لمسار تطوّر الأمور في فلسطين بين الطرفين الرئيسيين: المستوطنون الصهاينة والعرب الفلسطينيون، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، واندلاع حرب العام 1948 وما سبقها وتلاها من معارك وحروب بين المستوطنين اليهود و«الميليشيات العربية» حسب تسمية الكاتب، تخلّلتها مذابح رهيبة «متبادلة» بين اليهود والعرب، وتدخلات بريطانية وعربية (خارجية) أسهمت، بشكل أو بآخر، في «انتصار» الإسرائيليين الذين كانوا قد سيطروا في العام 1949 على أربعة أخماس فلسطين، في حين بقي الفلسطينيون، الذين خسروا، من دون دولة؛ وكانت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التعبير الرئيسي عن هذه الهزيمة.

والفكرة الأساسية التي قدّمها المؤلّف في هذا الفصل أن “التباين التنظيمي بين المجتمعين (العربي واليهودي) قبل العام 1948 كان واضحاً في المجال العسكري، شأنه شأن المجالات الأخرى، وربما بدرجة أكبر”.
 
“الترانسفير في الفكر الصهيوني قبل 1948” هو عنوان الفصل الثاني، وفيه يكشف بيني موريس عن جذور خطط «نقل» أو تهجير الفلسطينيين في الفكر الصهيوني، وفي الفكر البريطاني والأميركي حتى؛ هذه الأفكار التي وجدت في النهاية طريقها إلى التنفيذ بذريعة إنهاء النزاع المستفحل بين العرب واليهود، بعد تأمين إقامة دولة يهودية فيها أقليّة عربية لا تشكّل خطراً على «استقرار» هذه الدولة، بينما يذهب الفلسطينيون المبعدون («المذعورون» من سلطة اليهود) باتجاه «فلسطين العربية»، أي الأراضي التي احتُلّت من قِبل «إسرائيل» لاحقاً (في حرب حزيران 1967)، أو باتجاه الدول العربية المجاورة، باتباع أساليب الترغيب والترهيب معهم؛ وهذا ما حصل بالفعل في العام 1948 والعام 1949 على وجه التحديد.

ويستدلّ موريس في قراءته هذه بوجهات نظر أو طروحات قدّمها مسؤولون بريطانيون وأميركيون وصهاينة في تلك المرحلة، والتي تكشف، من دون لُبس، عمق تجذّر فكرة «الترانسفير» في العقل الصهيوني منذ بدايات القرن العشرين.

 والأمر الخطير الذي يشير إليه موريس هنا هو إضفاء تقرير «لجنة بيل»، التي أرسلها البريطانيون إلى فلسطين لتحديد أسباب «التمرّد» الفلسطيني (أي الثورة المسلّحة التي قادها أمين الحسيني)، واقتراح الحلول لوقف هذا «التمرّد»، إضفاءها (اللجنة) الشرعية أو القبول المعنوي الدولي بفكرة «الترانسفير» الصهيوني.

ومعروف أن لجنة «بيل» كانت قد أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية تضمّ 20 في المائة من البلاد، ودولة «شرق أردنية» على أغلب الجزء المتبقي. لكن حتى ذلك فشل في أن يحلّ المشكلة الديموغرافية المستمرة؛ حيث إنه حتى في نسبة الـ20 في المائة التي تمركز فيها اليهود، كان العرب يمثّلون ما يزيد على خمسي عدد السكان. ولذلك أوصى بيل بنقل كلّ أو معظم السكان العرب خارج هذه المناطق.

ويكشف المؤلّف أنه في منتصف أربعينيات القرن الماضي، لم يكن الناشطون الصهاينة والرسميون البريطانيون فقط هم من تتأرجح مواقفهم حول قبول التقسيم الذي يلازمه «نقل» للعرب خارج الدولة اليهودية المزمع إقامتها؛ بل تعلّق الأمر كذلك بسياسيين عرب كبار، مثل ملك الأردن الملك عبدالله، ونوري السعيد في العراق!

الموجة الأولى: النزوح العربي «ديسمبر 1947 – مارس 1948»

في الفصل الثالث (الموجة الأولى: النزوح العربي «ديسمبر 1947 – مارس 1948»)، يتحدّث بيني موريس عن «فرار» فلسطيني جماعي في تلك المرحلة، بسبب الهجمات اليهودية (من قِبل الهاغاناه، والإرغون، والهستدروت)، أو نتيجة للخوف من هجمات وشيكة؛ فضلاً عن سيادة الشعور بالضعف والعرضة للخطر. والمستغرب أن المؤلّف جهد في هذا الفصل لإثبات أن النسبة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين قد غادرت المدن والقرى نتيجة أوامر ونصائح من القادة العسكريين أو المسؤولين العرب، في مقابل نسبة صغيرة للغاية منهم غادرت بناءً على أوامر طرد أو «نصيحة» قهرية من قِبل عصابات الهاغاناه أو الإرغون أو الهستدروت.

ويزعم موريس أن العرب في تلك المرحلة (1947 – 1948) كانوا المبادرين بالهجوم على اليهود، الذين اقتصرت ردودهم «الدفاعية» على مهاجمة «الإرهابيين المعتدين» فقط، في إطار ما سمّاه المؤلّف «الأسلوب الراقي»، لتنتقل العصابات اليهودية لاحقاً إلى أسلوب استهداف القرى والطرق الفلسطينية من دون تمييز.

(الموجة الثانية: النزوح الجماعي الضخم: إبريل  نيسان – يونيو حزيران 1948)، هو عنوان الفصل الرابع والأخير، وفيه يكشف المؤلّف تفاصيل مثيرة حول العمليات العسكرية للعصابات اليهودية الإرهابية، والتي أدّت في النهاية إلى نزوح فلسطيني جماعي ضخم من الأراضي التي «منحها» قرار التقسيم (الأممي) لـ«الدولة اليهودية»، حيث «مثّلت عملية نحشون حداً فاصلاً من الناحية الاستراتيجية، وتميّزت بتوافر النيّة وبذل الجهد لتطهير منطقة كاملة بشكل دائم من القرى المعادية، أو التي يمكن أن تكون معادية»، بحسب توصيف موريس.

ويعتبر المؤلّف أن “اليشوف 2” في تلك المرحلة وجد نفسه في وضع حرج على كلّ الأصعدة. فسياسياً، بدت الولايات المتحدة كأنها تسحب التزامها بالتقسيم وتضغط في اتجاه «الوصاية» – بمعنى تمديد فترة الإدارة الأجنبية إلى ما بعد تاريخ الخامس عشر من مايو أيار 1948؛ وعسكرياً، كانت الهجمات الفلسطينية على الطرق، التي تعيق القوافل اليهودية، تخنق القدس الغربية ببطء وتهدّد بقاء تجمعات المستوطنات النائية.

ومن هنا، فقد أعدّ قادة عصابة «الهاغاناه»، في بدايات شهر مارس آذار، «الخطة دالت» (أو الخطة د»)، التي كانت بمنزلة برنامج عمل لتأمين «الدولة اليهودية»، فضلاً عن الكتل الاستيطانية الواقعة خارج حدود هذه «الدولة»، ضدّ ما سمّاه الكاتب «الغزو» العربي المتوقّع في الخامس عشر من مايو أيار (تاريخ بدء انسحاب القوات البريطانية من فلسطين)، أو بعد ذلك.

ويدّعي موريس أن «الخطة دالت» لم تكن برنامجاً سياسياً لطرد عرب فلسطين؛ لكنها كانت محكومة باعتبارات عسكرية، وتهدف إلى تحقيق أهداف عسكرية. لكنه يذكر لاحقاً أنه «كان للتغيّر الاستراتيجي خلال عملية نحشون مغزى أوسع. فإذا كان اليشوف في بداية الحرب قبل (على مضض) بالإقرار بدولة يهودية ذات أقليّة عربية ضخمة ولكن مسالمة، فقد تغيّر تفكير الهاغاناه بحلول أبريل (نيسان) بشكل جذري: إن الضريبة الفادحة من أرواح اليهود والأمن خلال معركة الطرق، والمشهد الأليم لغزو عربي محتمل، كلّها عوامل وضعت اليشوف في موقف لا يتوافر فيه سوى هامش ضئيل للأمن». وهذا ما أجبره على البعد عن “الأساليب الرقيقة في التعامل مع العرب، كونه بات يواجه معركة حياة أو موت معهم”، يقول موريس.

وهو ربما قصد هنا تبرير العمليات الإرهابية الوحشية (عمليات تنظيف القرى والمدن الفلسطينية)، والتي سبقت أو ترافقت أو تبعت الانسحاب البريطاني من فلسطين في الخامس عشر من مايو 1948.

ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين

 
مخيمات للاجئين الفلسطينيين

في الجزء الثاني من كتاب بيني موريس (ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين)، يستمرّ المؤلّف في تحليل التطوّرات التي أعقبت حرب 1948، بين العرب واليهود.

وهو يتحدث في الفصل الخامس (اتخاذ قرار ضدّ عودة اللاجئين – أبريل/ نيسان 1948)، عن مشكلة رئيسية وجد «اليشوف» نفسه أمامها، وتتعلق بالسماح لأولئك الذين فرّوا أو طرِدوا بالعودة أو رفض عودتهم.

فمنذ ربيع عام 1948 بدأ اللاجئون من مناطق مختلفة يتعجلون بالعودة، وهو ما فرض على القادة المحلّيين من المدنيين والهاغاناه اتخاذ قرارات في غياب توجّهات عامة على المستوى العام.

والفكرة الأساسية التي أوردها المؤلّف في هذا الفصل هي حول “تزايد تصميم قادة إسرائيل والرأي العام داخلها على معارضة عودة اللاجئين بشكل مطّرد. ومع ذلك أدرك القادة أنه في الوقت الذي يشكّل فيه هذا التصميم عاملاً رئيسياً في تشكيل النتيجة، فإن المحصّلة النهائية ستعتمد أيضاً على عوامل خارجية تتصل بحجم وطبيعة الضغط الدولي، وخاصة الأميركي”.

لكن، وبرغم الوساطات الأممية والدور الأميركي آنذاك، لتسهيل إعادة بعض اللاجئين الفلسطينيين إلى حيفا أو إلى الجليل والنقب، فإن القرار السياسي (الصهيوني) كان قد «نضج» بمنع عودة اللاجئين خلال الفترة من أبريل نيسان إلى يونيو حزيران 1948، ليصبح سياسة رسمية في شهر يوليو تموز.

وخلال النصف الثاني من العام 1948 والنصف الأول من العام 1949 أدّت التطورات على الأرض إلى تثبيت الوضع القائم وتكريس وضعية اللجوء لعرب فلسطين.

إعاقة عودة اللاجئين

في الفصل السادس (إعاقة العودة)، يكشف المؤلّف أنه خلال العام 1948 والنصف الأول من العام 1949، تضافرت مجموعة من التطورات لتغيّر بشكل حاسم من التشكيل الطبيعي والسكاني في فلسطين. وهي ساهمت معاً بشكل مطّرد في إقصاء إمكان العودة الجماعية، إلى أن أصبح هذا الإمكان بحلول منتصف العام 1949 أمراً لا يمكن تصوّره. وقد تمثّلت تلك التطورات في التدمير التدريجي للقرى العربية المهجورة؛ زراعة أو تدمير الحقول العربية؛ تقاسم الأراضي العربية بين المستوطنات اليهودية؛ توطين المهاجرين اليهود في منازل العرب الخالية في القرى والأحياء بالمدن.

وإجمالاً، فإن تلك العمليات ضمنت أن اللاجئين لن يكون لديهم شيء أو مكان يعودون إليه.

ويستنتج المؤلّف أن “عملية تدمير القرى مسّت لبّ المعضلة السياسية التي واجهها اليساريون في اليشوف، والذين كانوا يؤمنون – أو على الأقل يأملون – بإمكان تعايش سلمي يهودي عربي”.

وهنا يشير المؤلّف إلى سياسة بن غوريون المراوغة فيما يتعلّق بتدمير القرى العربية، عبر تجنّبه أيّ موقف علني بخصوصها، مدفوعاً باهتمامه بصورته أمام التاريخ وصورة «الدولة الوليدة» أكثر من مخاوفه على تحالف “الوحدة الوطنية”.

وفي واقع الأمر، بدا وكأن بن غوريون حاول بشكل متعمد تضليل المؤرّخين في المستقبل عن تعقب آثاره وسياساته.

(الموجة الثالثة: الأيام العشرة (9 – 18 يوليو) والهدنة الثانية (18 يوليو تموز – 15 أكتوبر تشرين الأول)، هو عنوان الفصل السابع، وفيه يروي المؤلّف بعض وقائع ما جرى في تلك المرحلة، مع انتهاء الهدنة الأولى في الثامن من يوليو تموز من العام 1948، حين بدأ الجيش المصري القتال على الجبهة الجنوبية؛ لتنتقل القوات الإسرائيلية إلى وضعية الهجوم على كلٍ من الجبهتين الشمالية والوسطى.

وقد استولت هذه القوات على أجزاء من الجليل، بما في ذلك مدينتا شفا عمر والناصرة (شمالاً)، وعلى اللد والرملة واللطرون ورام الله (في الوسط)، بعد عمليات عسكرية كبيرة تخلّلتها ممارسات إسرائيلية وحشية بهدف طرد أكبر عدد من السكان الفلسطينيين في المدن والقرى المستهدفة، مع محاولة المؤلّف تلطيف أو الحدّ من بشاعة الجرائم التي ارتكبتها القوات الغازية، من خلال ادّعاء وجود تجاوزات أو خلافات أو ظروف موضوعية أو قاهرة، أدّت في النهاية إلى تهجير تام لقاطني المدن والقرى الفلسطينية.

ويلفت المؤلّف في هذا السياق إلى محافظة جيش الاحتلال الإسرائيلي على الوجود الدرزي والمسيحي في المناطق التي تم تهجير سكانها، مع تكراره لعبارات «الفرار» و«الرعب» و«الهروب الجماعي» في توصيفه لحالة العرب (الفلسطينيين) الذين غادروا المدن والقرى المستهدفة منذ بداية المعارك. وإجمالاً، ترتّب على الهجمات الإسرائيلية خلال «الأيام العشرة» وعمليات «التطهير» التي أعقبتها، إرسال ما يقرب من 100 ألف فلسطيني إلى المنفى، سواء في الأراضي الفلسطينية تحت السيطرة الأردنية، أو قطاع غزّة، أو لبنان والجيب المتبقي تحت سيطرة “جيش الإنقاذ” في الجليل الأعلى.

 تنظيف الحدود: طرد السكان ونقلهم

في الفصل الثامن (الموجة الرابعة: المعارك والنزوح الجماعي – أكتوبر تشرين الأول/ نوفمبر تشرين الثاني 1948)، يتحدث بيني موريس عن الفظائع التي ارتكبها الجنود الصهاينة، والتي كشفتها وثائق وشهادات تابعها بدقّة، برغم بقاء أغلب الوثائق المتصلة بما جرى آنذاك، سريّة، سواء لدى ما سمّاها (قوات الدفاع الإسرائيلية) أو (وزارة العدل).

لقد ارتكب الجنود الإسرائيليون مذابح بحقّ النساء والرجال والأطفال في أغلب المدن والقرى التي هاجموها، ضمن عمليتي يوآف وأحيرام، حيث استولت القوات الإسرائيلية على بئر السبع (عاصمة النقب) وأسدود ومجدل وبيت جبرين، وعلى قطاع الجليل في الشمال، وليفرّ بسبب تلك الهجمات الوحشية المنسّقة عشرات آلاف الفلسطينيين باتجاه مدن وقرى داخل فلسطين كانت لا تزال آمنة (مثل قطاع غزّة)، أو باتجاه لبنان.

وقد تمثّلت الأهداف الرئيسية لعمليتي يوآف وحيرام في تدمير تشكيلات الجيش المصري (في الجنوب) وجيش الإنقاذ بقيادة القاوقجي في الجليل الأوسط، والاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، مما يوفّر لـ«الدولة اليهودية» عمقاً إستراتيجياً أكبر؛ وهذا ما حصل بالفعل، لكن على حساب مئات آلاف الفلسطينيين، الذين تلاعب بمصائرهم وأرواحهم قادة الألوية الصهيونية وصانعو القرار السياسي والعسكري في الكيان الإسرائيلي، كما يبرز المؤلّف في العديد من صفحات كتابه.
 
تنظيف الحدود: طرد السكان ونقلهم (نوفمبر 1948 – 1950)، هو عنوان الفصل التاسع، وفيه يكشف بيني موريس أن عدد الذين طُردوا أو أُقنعوا بمغادرة فلسطين، في أثناء عمليات «تطهير الحدود» والحملات العسكرية الموجّهة ضدّ التسلل، خلال الفترة من 1948 حتى 1950، بلغ (مع بدو شمال النقب)، نحو 40 ألف شخص فلسطيني.

ويدّعي المؤلّف أن الاعتبارات العسكرية كانت الدافع الأساس لإنضاج سياسة «تنظيف الحدود» الجديدة، والتي تبنّتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعيد انتهاء «القتال» في العام 1948. وهو يتحدث عن قرارات اتخِذت على مستويات عليا، سياسية وعسكرية وأمنية، لتهجير ما أمكن من «العرب»، وحتى الذين عادوا منهم فيما بعد إلى قراهم أو إلى مناطق أخرى، حيث جرّدت القوات الإسرائيلية حملات منسّقة وعنيفة لإجلائهم وإبقاء تلك القرى مهجورة.

ويتوقف الباحث هنا عند وضع البدو في شمالي النقب، والذين أعلنوا الولاء للكيان الإسرائيلي في مقابل إبقائهم في قراهم ومناطقهم؛ وهذا ما حصل بالفعل، على قاعدة أن هؤلاء (الجيّدين منهم) سيسخّرون لخدمة “الدولة”.

ووفقاً للقوات الإسرائيلية، كان هناك في منتصف العام 1950 نحو 35 ألف بدوي في النقب، منهم 20 ألفاً ظلّوا تحت الحماية الإسرائيلية، والكثير منهم مُنِحوا لاحقاً “المواطنة الإسرائيلية وبطاقات الهوية”.
 
تسوية مشكلة اللاجئين

 ترك اللاجئون الفلسطينيون منازلهم وأراضيهم وفروا باتجاه الدول العربية المجاورة

 في الفصل العاشر (تسوية مشكلة اللاجئين: ديسمبر كانون الأول 1948 – سبتمبر أيلول 1949)، يقول الباحث إن التدفق الضخم لـ«المهاجرين اليهود» على الكيان الإسرائيلي أدّى إلى الاستبعاد المتزايد لأيّ إمكان لعودة اللاجئين (المقتلعين) الفلسطينيين. ويضيف: لن تكون العودة الحقيقية والضخمة للاّجئين أمراً ممكناً إلاّ بتدمير «الدولة اليهودية» وموت أو طرد سكانها. وهو كان يعلّق بذلك على القرار الدولي ذي الرقم 194، الذي قضى بعودة غير مشروطة لكلّ لاجئ إلى قريته ومنطقته، كما أوصى الوسيط الأممي الذي اغتالته العصابات الصهيونية، الكونت برنادوت (مع أن الباحث تجاهل هذه الجريمة بحديثه عن وفاته).

ومن ثم يتحدث موريس عن فشل الوساطات الأممية والأميركية لحلّ هذه القضية، بسبب رفض القادة الإسرائيليين (مثل ديفيد بن غوريون) لأية حلول وسط، بزعم “أن الحرب على إسرائيل هي التي أدت إلى النزوح الجماعي للعرب.. فاللاجئون هم أعضاء في مجموعة عدوانية لحقت بها الهزيمة في حرب قامت هي بصناعتها. ولم يسجّل التاريخ أي حالة لعودة على نطاق واسع بعد خبرة مماثلة”.

هذا هو الردّ الذي أطلقه موشيه شاريت، على لسان بن غوريون بخصوص الموقف الأميركي الذي دعا إلى «عودة جوهرية» للاّجئين تتيح التقدّم في عملية السلام (كما دعا الرئيس الأميركي ترومان آنذاك).

وهكذا سقطت الأفكار والخطط التي طُرحت لاحقاً، بهدف كسب الوقت أساساً، مثل (خطة غزة) التي تضمّنت نقل قطاع غزة الذي احتلّه الجيش المصري منذ مايو 1948 – إلى «السيادة الإسرائيلية»، بما يشمله من عدد ضخم نسبياً من سكان محليين ولاجئين!

وهكذا كانت حال مؤتمر لوزان الذي انعقد في العام 1949، لتطبيق خطة غزة، الأساسية أو بعد إدخال تعديلات عليها، حيث يعتبر المؤلّف أن فشل هذا المؤتمر أدّى إلى إغلاق ملف اللاجئين بشكل محكم.

في الخاتمة، يستنتج بيني موريس، بأن ذكريات العام 1948 والعقود التالية من الإذلال والحرمان في مخيّمات اللاجئين، ستقود في نهاية المطاف إلى تحويل أجيال من الفلسطينيين إلى «إرهابيين» ناشطين أو محتملين. وهو بذلك يتساوق مع قناعته التي لم يُخفها في ثنايا كتابه حول حق «إسرائيل» في الوجود، وأن «الحرب التي شنّها العرب الفلسطينيون في العام 1948 هي التي ولّدت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين»، وليس أيّ مشروع يهودي أو عربي؛ وذلك على خلفية رفض الفلسطينيين قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة.

ومهما يكن، فإن ما كشفه الباحث من ارتكابات وفظائع نفّذتها العصابات الصهيونية، قبل وبعد قيام «الدولة اليهودية»، وفي إطار خطط ممنهجة وأفكار عنصرية مسبقة، يدين الكيان الإسرائيلي أولاً، وبريطانيا والولايات المتحدة ثانياً، لما جرى على الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة السوداء من تاريخ العرب والمسلمين، والتي لا تزال تداعياتها الخطيرة تتوالد كلّ يوم في غير بلدٍ عربي، بانتظار إسقاط المشروع الصهيوني العنصري الذي خلق هذه المأساة الكبرى في منتصف القرن الماضي.

 
باحث لبناني.

المصدر : الميادين نت