ثقافة وفن

المثقف واحد وإذا تعدد …خان – عادل سمارة

سمعت حلقة الميادين عن المثقف، وسأكتب في حلقة أخرى عن بعض ما ورد وما يجب أن يرد فيها، لكنني أقدم للقراء أي مثقف نحتاج اليوم. هو المثقف المشتبك وليس الذي يُدوِّر الزوايا.

(من كتابي عن الربيع العربي بعنوان (ثورة مضادة، إرهضات أم ثورة) منشورات دار فضاءات، عمان 2012. ومنشورات بيسان رام الله 2013)
شكرا للذين استفزوني لأكتب: هشام غصيب، رسمي الجابري وحسين مطاوع العايدي)

 
المثقف المشتبك
 

كل فكرة وليدة الواقع، والواقع هو الوجود المادي الذي واجهنا بل تحدانا لنبلغ نحن البشر لحظة الوعي الأولى لينطلق هذا الوعي في جدلية أبدية مع الواقع ذاهبين معاً في ارتقاء لا حدود له يتطور بين تحدٍ ووعي مضاد أو مقاوم وصولاً لما هو أعلى وأوعى. وهكذا يظل الإنسان حاضنة أو رحم الوعي التي تتوسط الوجود والوعي وبدون هذا الإنسان الذي يصبح واعياً لا يكتسب الواقع معناه ولا يرتقي الوعي إلى ما نرى ومن ثم نحلم.

ليس المثقفون فريقاً واحداً، هناك تنويع هائل من المثقفين لأن لكل بيئة تحدياتها ولكل عقل قدرته على الاستجابة والرد والتأثير في البيئة.

أما هذه الكلمة ففي حق المثقف المشتبك. هو مشتبك لأن ما يفهمه هو ذخيرة لإطلاق نور التفكير مما ينفي عنه صفة السِجِل، فهو حالة سجال حتى مع من يتقاطع معهم، يبحث عن ما هو أبعد من النص، مأخوذ بالرؤية فليس مجرد مُقرئ. يبحث عن النقاش والجدل، بل هو وليد الجدل والتناقض. كل فكرة فيها معنى ولكن لا بد أن فيها ضعفاً ما، جميل أن نفهم المعنى وجميل أن نرى عدم اكتمال المعنى لنصل إلى ما هو أعلى. وعي المثقف المشتبك لا يساوم ولا يهدأ هو يمتطي حصان الجسد حتى يكبو.

المثقف المشتبك مهموم مشغول بالناس بنقل ما لديه إلى الآخرين لأنهم أولاً أعطوه، هو تراكم المعرفة من أجل الثورة، لذا هو  الوجه الإنساني النقيض لتراكم الثروة التي هي دعامة الثورة المضادة. تراكمان يقفان كضدين لا يجمعهما سوى مواصلة البحث: تراكم المعرفة بحثاً عن تغيير العالم وتراكم الثروة بحثاً عن استغلال الإنسان. هذا قلق في اتجاه وذاك قلق في اتجاه نقيض. هذا يقوم على القيمة الاستعمالية للوعي مجسداً في فكرة، وذاك يقوم على القيمة التبادلية للمعرفة مجسدة في سلعة وصولاً بالربح اللامحدود إلى التراكم اللامحدود. أما القيمة التبادلية هذه فهي التي “سلَّعت- من سلعة” الكثير من المثقفين فصاروا بضاعة تمشي على قدمين عارية من الأخلاق تعرض نفسها في السوق وتفاخر بعُريها من المعنى الأساس، معنى الوجود الإنساني. كان من أقدم هموم الإنسان البدائي ستر عريه، أما عصر ما بعد الحداثة، ففيه مفاخرة بالوعي العاري.

يفتح هذا لنا على الضرورة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية الطبقية في التحليل الأخير التي ولَّدت المثقف المشتبك. وهذه الضروررة هي تجسيد الحق، هي التحدي في الرد والصدِّ للزيف وامتهان وعي الناس وبيعه واستخدامه.

فالمثقف المشتبك بما هو وليد روح المجتمع، روح الإنسان عامة، يتجاوز كونه تجميع معارف بل يتجاوز كونه ثورياً ونقدياً ذاهباً حيث الاشتباك، لأن الوعي اللاإنساني هناك يقاتل البشرية. لذا يبحث المثقف المشتبك عن بؤر الصراع ويكون فيها. من هنا ليس مجرد سجل، بل حالة مقاومة مبنية على كون الحياة مقاومةً او صراعاً. ولولا عدوانية مثقف السوق والقيمة التبادلية والاستغلال والاضطهاد وانتهاؤه بالإنسان إلى الاغتراب بتنوعاته، ومنها الاغتراب الجسدي الوجودي عن الوطن، حالة فلسطين، لولا هذه لكان المثقف المشتبك رساماً أو شاعر غزل تحبه كل النساء لأنه يحبهن جميعاً.

في حالتنا العربية يشتبك المثقف مع مختلف أنظمة الحكم، ليس فقط لأن لها جرائمها وانحرافاتها بل حتى لمجرد كونها أنظمة بل طالما في مجتمع طبقي فهي نقيضة وعيه بلا مواربة. ويشتبك مع مثقفي السلطان، ويشتبك بلا توقف مع المثقفين في خدمة الآخر، أي مثقفون في خدمة عدو الأمة.

ويشتبك مع مثقفي الاستدعاء الذين استدعوا احتلال العراق الذي ما زال لحم نسائه وأطفاله شواءً يُقدم للغرب الرأسمالي وخاصة قادته وشركاته الكبرى، وتُرسل أطباق كثيرة من هذا اللحم الإنساني المشوي إلى تل ابيب ليأكل شيلوخ اللحم شواءً. لا يُشوى لحم الإنسان بوعي سوى في عصر رأس المال وريع النفط المفخخ في الخليج، يُقدم مغلَّفاً بلفافات الحرية والدمقرطة وحقوق الإنسان. وحين يوضع الطبق على طاولات أوباما وساركوزي وهولاند وأحفاد بلفور ونتنياهو، يقهقهون وهم ينزعون لفائف الحرية لتوزع لهم هيلاري ذلك اللحم في أطباق من ذهب صُقلت من مصاغ بلقيس ملكة اليمن السعيد في الماضي. توزع هيلاري الأطباق بعد أن تنعكف سيقان أبناء سعود وآل ثاني وهم وقوفٌ يحملون الأطباق على رؤوسهم خدماً للحفل الماسوني ووراءهم سيل من الحكام العرب بين حامل الماء أو الصابون أو عود الند والرند لتسويك أنيابهم/ن.

يشتبك المثقف المشتبك مع مثقفي الصدى الذين يلهجون بترديد ما يُكتب في الغرب الرأسمالي، يلهجون ويلهثون لأنهم لم يتمثلوا ما يرددون كمن ابتلع الحصى.
المثقف المشتبك لا يقبل الحياد، فمصير البشرية لا يحتمل مثقفاً محايداً يجيد التلطي خلف المجرد والرمزي والفلسفي الذي يُباعد بينه وبين الواقع المرّ. هذا المثقف يأخذ دوره في الصف وينفق عمره مشتبكاً، لذا لا يعرف في عمره الردة ولا التخاذل ولا التقاعد. وفي النهاية لهذا المثقف دور دائم في النقد والتصدي.

دوره دائم لأنه مثقف تاريخي ليس يوميا ولا لحظياً، هو حالة تأسيس، حالة تناضل لتصحيح مسار التاريخ الذي اختطفته الملكية الخاصة والطبقات المستغِلة ومؤخراً رأس المال بتنوعاته: الإنجلو ساكسوني، والفاشي والنازي والصهيوني والريعي النفطي..الخ. وهزيمة هؤلاء ليست مسألة وقت قصير، لذا، لا ينتظر المثقف/ة المشتبك/ة أكاليل الغار على رأسه/ها، لكنه يعلم أن النصر آت وأن أحداً في يوم قد يكون قريباً سوف يُتوَّج بإكليل الغار، واحد أو واحدة. هذا المثقف مقاوم، ومن يقاوم هو في طريق الانتصار كمشروع وليس كفرد.

اترك تعليقاً