الأرشيفبساط الريح

المطرودون من جنّة الطوائف: حال العمّال الفلسطينيين في لبنان جابر سليمان

المطرودون من جنّة الطوائف: حال العمّال الفلسطينيين في لبنان

جابر سليمان

أعادت خطّةُ وزير العمل اللبنانيّ كميل أبو سليمان، الرامية إلى “مكافحة العمالة الأجنبيّة غير الشرعيّة على الأراضي اللبنانيّة،” نكْءَ الجراح الفلسطينيّة.

فعلى صعيد التطبيق، طالت الإجراءاتُ الميدانيّة للخطّة العمّالَ وأربابَ العمل الفلسطينيّين في وصفهم “أجانبَ” بحسب التشريعات اللبنانيّة. وعلى إثر ذلك، عمّت المخيّماتِ والتجمّعاتِ الفلسطينيّةَ في لبنان موجاتٌ من الاحتجاج والغضب العارميْن، اتّخذتْ سمةَ الهبّة الشعبيّة العفويّة، التي أعادت إلى الأذهان انتفاضةَ المخيّمات سنة 1969 (مع اختلاف السياق والدوافع). بيد أنّ هذه الهبّة ما لبثتْ أن بدأتْ في تنظيم صفوفها، وفي تطوير أشكال من التنظيم الذاتيّ مستوحاةٍ من تجربة الانتفاضة الأولى في فلسطين عام 1987. كما أنّها نجحتْ، إلى حدّ كبير، في توحيد شعاراتها خلف شعارٍ أساس: “لا تهجير، ولا توطين، بدّنا نرجعْ لفلسطين.”

سبقتْ هذه الهبّةُ الفصائلَ الفلسطينيّةَ مجتمعةً، وأجبرت المتردّدين منها على اللحاق بركْبها، واستعصت على رياح التطويع القادمة من كلّ حدبٍ وصوب. وقد قدّم مخيّمُ عين الحلوة – الموسومُ بـ”الخروج عن القانون” في الخطاب الإعلاميّ اليوميّ – أنموذجًا لهذه الهبّة الشعبيّة، أو لهذا الحَراك الشعبيّ السلميّ الذي نجح في تحاشي تعكير أمن الجوار الصيداويّ الداعمِ لمطالبه، بل المشاركِ في فعاليّاته (مسيرة يوم الإثنين 30 تمّوز/ يوليو). وكانت مسيرةُ يوم الجمعة 26 تمّوز/يوليو في مخيّم عين الحلوة – وقد شاركتْ فيها مختلفُ الفصائل ومنظّمات المجتمع الأهليّ، واستقطبت الأطفالَ والشيوخ والنساءَ وطلّاب المدارس – أنصعَ تعبيرٍ عن هذا النموذج.

I – القطرة التي أفاضت الكأسَ

 

فاجأتْ موجةُ الاحتجاجات، في زخمها وعنفوانها وتواصلها، جميعَ مؤيّدي الحقوق الأساسيّة لفلسطينييّ لبنان ومعارضيها. وذهب بعضُ المعارضين الطائفيّين إلى حدّ وصفها بـ”أعمال شغب” مدفوعةٍ من جهاتٍ حزبيّةٍ وفصائليّة، لبنانيّةٍ أو فلسطينيّة، “لأسبابٍ لا علاقة لها بخطّة عمل الوزارة.” وقد فات هذه الجوقةَ من العنصريين أنّ الخطّة المذكورة لم تكن سوى القطرة التي أفاضت الكأس؛ فموجةُ الاحتجاج والغضب “المُستغربَة” هذه لم تأتِ ردَّ فعلٍ على الخطّة وحسب، بل إنّها أيضًا نتاجُ إحساسٍ عميقٍ ومتأصّل بالظلم والقهر والتمييز وغير ذلك ممّا تعرّض ويتعرّض له الفلسطينيّون في لبنان.
فالفلسطينيّون في لبنان يعانون، منذ أكثر من سبعة عقود، التهميشَ الاقتصاديَّ والاجتماعيّ. كما يتعرّضون للتهميش المكانيّ (spatial marginalization)، الذي حوّل بعضَ مخيّماتهم، وخصوصًا في الجنوب، إلى جُزُرٍ معزولةٍ عن محيطها اللبنانيّ، تحيط بها الجدرانُ الإسمنتيّةُ وأبراجُ المراقبة والبوّاباتُ المحروسة (نموذج عين الحلوة). والحقّ أنّ الجدران من أيّ نوع كانت، اسمنتيّةً أو مجتمعيّةً أو حقوقيّة، لا تصنع أمنًا، ولا تخلق “جيرانًا طيّبين” – – هذا إذا خالفنا المقولةَ الشهيرة: “السياجات الجيّدة تصنع جيرانًا جيدّين.”[1] ولقد حان الوقتُ لكي يدرك أصحابُ الجدران أنّ الأمنَ الحقيقيّ، الراسخَ والقابلَ للديمومة، هو الأمن البشريّ (human security)، الذي يحرّر الإنسانَ من الخوف والحاجة، لكونه جزءًا لا يتجزّأ من منظومة حقوق الإنسان.

 

(لوحة للفنّانة البولنديّة دومينيكا روجانسكا من وحي مخيّمات لبنان)

فماذا كان يتوقّع دعاةُ الطائفيّة والعنصريّة أن يفعل شبابُ الجيل الثاني والثالث للنكبة حين يُهدَّدون في لقمة عيشهم، المغمَّسةِ بالتعب والمعاناة؟ هل كان عليهم أن يشكروا الوزير على خطّته العتيدة، أو أن يقبِّلوا رأسَه؟

II – تشريعات مُلتبسة

 

يتعامل القانونُ اللبنانيّ مع اللاجئين الفلسطينيّين بوصفهم أجانب، كما قلنا، على الرغم من إقامتهم المديدة في لبنان؛ وأحيانًا يعتبرهم “فئةً خاصّةً من الأجانب.” هذا الوضع الملتبسُ يَحْرم اللاجئين الفلسطينيين بعضَ الحقوق التي يتمتّع بها الأجانبُ بموجب القانون اللبنانيّ، مثل حقّ التملّك (قانون تملّك الأجانب الجديد رقم 296 سنة 2001). كما يجرّدهم من الحقوق الأساسيّة المُعترف بها للاجئين في القانون الدوليّ. ومن المعلوم أنّ هناك هوّةً شاسعةً بين الأعراف والمعايير المتّبعة بشأن اللاجئين في القانون الدوليّ، وتلك المعمول بها في القانون اللبنانيّ. فالتشريعات اللبنانيّة لا تمنح اللاجئين عامّةً وضعًا قانونيًّا مميّزًا ومستقلًّا عن الأجانب، بل هي لا تعرّف مصطلحَ “اللاجئ” نفسه.

يخضع حقُّ الفلسطينيين في العمل والضمان الاجتماعيّ للمرسوم رقم 17561، الصادر بتاريخ 18/9/1964، وهو الذي ينظّم عملَ الأجانب في لبنان. ويتضمّن هذا المرسوم ثلاثَ قواعد، يشكّل كلٌّ منها قيدًا على حقّهم في العمل والضمان الاجتماعيّ: القاعدة الأولى: (أ) شرط الحصول على إجازة عمل. القاعدة الثانية: (ب) الأفضليّة الوطنيّة. القاعدة الثالثة: (ج) مبدأ المعاملة بالمثل.

وتنصّ المادّة 9 من المرسوم المذكور أنّ على وزير العمل أنْ يحدّد، خلال كانون الأوّل من كلّ عام، الأعمالَ والمهنَ التي ترى الوزارةُ ضرورةَ حصرها باللبنانيين فقط. وقد تراوح عددُ هذه المهن من 50 إلى 70 مهنة، وذلك بحسب قرار كلِّ وزير. وتمنح المادّة 8 من المرسوم عينه وزيرَ العمل صلاحيّةَ استثناء بعض الأجانب من هذا الحظر؛ وعلى هذا الأساس أصدر أكثرُ من وزير عمل سابق (كان آخرهم الوزير محمد كبّارة) قراراتٍ استثنت الفلسطينيين المولودين على الأراضي اللبنانيّة، والمسجّلين بشكل رسميّ في سجلّات وزارة الداخليّة، من ممارسة المِهن المحظورة على الأجانب.[2]

 

وفي 17/8/2010، صادق البرلمانُ اللبنانيّ على قانونٍ يعدّل المادّة 59 من قانون العمل، والمادّة 9 من قانون الضمان، وأقرّ القانونيْن 129 و128 المتعلّقيْن بحقّ العمل والضمان الاجتماعيّ على التوالي:

– فالتعديلات على قانون العمل ألغت مبدأ “المعاملة بالمثل،” الذي نصّ عليه المرسوم رقم 17561 بتاريخ 18/9/1964؛ وهذه نقطة إيجابيّة. لكنّها أبقتْ على شرط حصول العامل الفلسطينيّ، لكونه أجنبيًّا، على إجازة العمل، بينما أعفتْه من رسوم الإجازة.

كما أبقت هذه التعديلاتُ على شرط تقديم مستندات محدّدة إلى وزارة العمل من أجل الحصول على الإجازة. أيْ إنّها حافظتْ على الآليّة السابقة التي تجعل العاملَ الفلسطينيّ يدور في حلقة مفرغة بين وزارة العمل وأرباب العمل، وتعرِّضه لابتزاز هؤلاء الأخيرين الذين يفضّلون تشغيلَه في السوق السوداء، من دون عقد عمل، أو من دون تسجيلٍ في صندوق الضمان.

– أمّا بالنسبة إلى الضمان الاجتماعيّ، فقد سمحتْ تلك التعديلاتُ للعامل الفلسطينيّ بالانتساب إلى الصندوق شرط حصوله على إجازة العمل، على أن يدفع مساهمتَه كاملةً في الصندوق بنسبة 23.5% من الأجر (يتشارك فيها العاملُ وربُّ العمل)، بحيث يستفيد من فرع تعويضات نهاية الخدمة فقط (%8)، من دون أن يستفيد من فرعَي الصندوق الآخريْن (التعويض العائليّ والأمومة والمرض).

لكنْ، نظرًا إلى التعقيدات التي تواجه حصولَ الفلسطينيّ على إجازة العمل، فإنّ عمّالًا فلسطينيين كثيرين يُحْجمون عن التقدّم لطلبها. كما يفضِّل أصحابُ العمل اللبنانيون تشغيلَ العامل الفلسطينيّ من دون عقد عمل، ومن دون تسجيله في صندوق الضمان ودفع نسبة الـ %23.5. وهذا ما يفسّر انخفاضَ عدد إجازات العمل التي يحصل عليها الفلسطينيّون سنويًّا. فبحسب التقرير السنويّ لوزارة العمل عام 2015، بلغ عددُ العمّال الأجانب الحاصلين على إجازات عمل 209674 (60814 إجازة عمل جديدة، و148860 مجدّدة من سنوات سابقة). وهذا العدد يقترب من إجماليّ عدد اللاجئين الفلسطينييين المقيمين فعليًّا في لبنان (220 ألفًا)،[3] بينما يزيد عن ضعفيْ قوّة العمل الفلسطينيّة (أيْ من هم في سنّ العمل) المقدّرة بـ 90 ألفًا.[4] وبناءً عليه، فإنّ نسبة الفلسطينيين الحاصلين على إجازات العمل لا تتعدّى 0.4% من إجماليّ إجازات العمل الممنوحة للأجانب في لبنان. وبحسب التقرير السنويّ لوزارة العمل للعام 2016، فإنّ عدد إجازات العمل الممنوحة للفلسطينيين لم يزد عن 729 إجازةً ( 113 أعطيت لأوّل مرّة، و616 مجدّدة من الأعوام السابقة)!

وبذلك تحوّل العمّال الفلسطينيّون إلى عبيدٍ في سوق العمل اللبنانيّة، أيْ إلى Kunta Kintes، بأجور متدنّية، وشروط مجحفة، ومن دون أيّ ضمانات.[5]

III – خطّة الوزير

لقد فاجأنا وزيرُ العمل، كميل أبو سليمان، بالإعلان عن خطّته لمكافحة العمالة الأجنبيّة. فهو لم يميّز العامل الفلسطينيّ المقيم في لبنان من العامل الأجنبيّ الوافد؛ ولم يأخذ في الاعتبار أنّ “مبدأ المعاملة بالمثل،” المطبّق على الأجانب، لم يعد ينطبق على الفلسطينيين بموجب التعديلات التي أقرّها البرلمانُ اللبنانيّ (آب/أغسطس 2010) على قانون العمل وأصدر بموجبها القانون رقم 129 (المتعلّق بحقّ العمل) والقانون 128 (المتعلّق بالضمان الاجتماعيّ)، على الرغم من أنّ هذين القانونين لا يزالان في حاجة إلى مراسيم تطبيقيّة لإنفاذهما.

تجدر الإشارة إلى أنّ إصدار هذه المراسيم كان، ولا يزال، أحدَ المطالب الرئيسة التي تقدَّمتْ بها “لجنةُ الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ” إلى وزراء العمل السابقين، وإلى وزير العمل الحاليّ بطبيعة الحال. وكانت هذه إحدى التوصيات الموجودة في الرؤية اللبنانيّة الموحّدة التي أصدرتْها مجموعةُ العمل حول قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان – – وهي مجموعةٌ شكّلتْها اللجنةُ المذكورة، وضمَّت ممثّلين عن الكتل النيابيّة الرئيسة في البرلمان، بما فيها “القوّاتُ اللبنانيّة.”[6]

 

الجدير ذكرُه أنّ الوزير لم يُصدرْ، قبل إعلان الخطّة، أيَّ قرار يحدّد المهنَ التي تُحصر ممارستُها باللبنانيين، وفقًا للمادّة 9 من المرسوم المذكور، وذلك جريًا على عادة نظرائه السابقين. ومن ثمّ فإنّه لم يستخدمْ صلاحيّاتِه، وفق المادّة 8 من المرسوم نفسه، باستثناء الفلسطينيين من الحظر المفروض على ممارسة تلك المهن، كما فعل وزراءُ عملٍ سابقون.

 

 

(لوحة للفنّانة البولنديّة دومينيكا روجانسكا من وحي مخيّمات لبنان)

 

خلال المفاوضات الفلسطينيّة الرسميّة مع وزارة العمل، ومع “لجنة الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ،” وخلال المشاورات اللبنانيّة الداخليّة على مستوى الحكومة والبرلمان، برزتْ عدّةُ مطالب فلسطينيّة، أبرزُها:

– إصدارُ مراسيم تطبيقيّة للقانونيْن 129 و128 في أقرب وقتٍ تجتمع فيه الحكومة، وتعديلُهما لاحقًا من قبل البرلمان عند الضرورة.

– تسهيلُ إجراءات حصول العامل الفلسطينيّ على إجازة العمل من خلال تقليص المستندات الواجب تقديمها، ليصبح المستندُ الأساس هو “البطاقةَ الزرقاء.”[7]

– فكُّ الارتباط بين إجازة العمل وعقد العمل من جهة، وبينها وبين إلزاميّة التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعيّ من جهةٍ أخرى. وهذا يعني الاكتفاءَ بحصول العامل الفلسطينيّ على “تعهّدٍ” مِن ربّ العمل بقبول تشغيله، من دون إلزامه بالحصول على “عقد عمل” مسجّل لدى كاتب العدل. ويستتبع ذلك عدمَ إلزامه بالتسجيل لدى صندوق الضمان الاجتماعيّ.

– السماحُ لربّ العمل الفلسطينيّ بتشغيل فلسطينيين من دون إلزامه بتشغيل عمّال لبنانيين وفق نسبة 3 إلى 1.

– إلغاءُ المبلغ المطلوب من أرباب العمل الفلسطينيين إيداعُه ضمانةً لدى البنك من أجل الحصول على إجازة العمل (100 مليون ليرة لبنانيّة)، علمًا أنّ وزير العمل اقترح تخفيض هذا المبلغ إلى 25 مليونًا.

– ترجمة إلغاء “مبدأ المعاملة بالمثل” (الذي كرَّسه القانون 129) من خلال إلغاء إجازة العمل مرّةً واحدة، باعتبار أنّ الفلسطينيين مقيمون، لا أجانبُ يتوجّب عليهم الحصولُ على الإجازة.

IV – جَنّة الطوائف وجِنّة (جنون) الطائفيّة؟

 

لقد أُطلقتْ في وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ، حملةٌ عنصريّةٌ بغيضة في حقّ الفلسطينيين. وفي هذا الصدد يكفي أن نشير إلى تغريدات إتيان صقر (أبو أرز)، قائد ميليشيا “حرّاس الأرز،” التي شاركتْ في مجازر صبرا وشاتيلا.[8] ومن المؤسف أنْ ينجرَّ وزيرُ العمل أبو سليمان إلى هذه الحملة، مشكِّكًا في عنفوان الوطنيّة الفلسطينيّة وحيويّتها، حين ادّعى أنّ الفلسطينيين لم يُبدوا مثلَ ردّة الفعل هذه عندما أُعلنت القدسُ عاصمةً للدولة العبريّة. وقبل ذلك كان الوزير نفسه قد أعلن في برنامج صار الوقت (على قناة MTV)، وبملء الفم، رفضَه منْحَ الفلسطينيين في لبنان الحقوقَ الإنسانيّة (الاقتصاديّة والاجتماعيّة). الجدير ذكرُه أنّ الوزير محامٍ لامع، وهو خرّيج جامعة هارفارد، ويعمل في أشهر مكاتب المحاماة في لندن، وعاش في بيئة حقوقيّة غربيّة تحترم حقوق الإنسان.[9] ولا أدري إنْ كان في وسعه أنْ يُفصح عن مثل هذا الموقف في الغرب، حيث تعلّم وعمل، من دون مساءلةٍ أو محاسبة!

ولا يزال الوزير، على ما يتضح من أحاديثه إلى وسائل الإعلام، متشبّثًا بتطبيق الخطّة بشكل حرْفيّ، من دون مراعاة خصوصيّة اللجوء الفلسطينيّ (على الرغم من بعض المرونة التي أبداها خلال المفاوضات في ما يتعلّق ببعض المسائل الإجرائيّة). وهذا ما دفع اللجنةَ السباعيّة، التي يتكوّن منها الوفدُ الفلسطينيُّ المفاوض، إلى مقاطعة جلسة التفاوض التي دعا إليها رئيسُ لجنة الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ، الدكتور حسن منيمنة، في السراي الحكوميّ يوم الإثنين (29/7/2019) – وهو ما يعني تعليقَ الحوار لا مقاطعتَه كما فهم البعض. فقد علم الوفد، من خلال مختلف قنوات الاتصال والتواصل، أنّ الوزير ما يزال متمسّكًا بموقفه، وأنّه يعمل على كسب الوقت، إذ لم يتخلّ عن ازدواجيّة اللغة التي يمارسها في جلسات التفاوض من جهة، وفي العلن من جهة أخرى.

الوزير إذًا متصلّب في العلن، لكنه في الغرف المغلقة يؤكّد أنّ الخطّة لا تستهدف الفلسطينيين، ولا خلفيّات سياسيّة لها تتعلّق بـ”صفقة القرن” أو بغيرها من مخطّطات لتصفية قضيّة اللاجئين الفلسطينيين. ويعزو بعضُ المحلّلين ذلك التصلّب إلى حسابات سياسيّة داخليّة تتعلّق بالتنافس بين حزبه (القوّات اللبنانيّة) والتيّار الوطنيّ الحرّ على “تمثيل مصالح المسيحيين” و”الدفاع عن حقوقهم” ضمن صيغة ما بعد الطائف. ويندرج ذلك كلُّه في الصراع على حجم التمثيل في النظام السياسيّ اللبنانيّ الطائفيّ، وفي حسابات معركة الرئاسة القادمة. وتتّضح هذه الصورة بجلاء إذا ما راجعنا مواقفَ التيّار الوطني الحرّ “المتربصّة،” وبخاصّةٍ موقف وزير الخارجيّة جبران باسيل من هذه المسألة.

وفي المحصّلة، أُقحمتْ مسألةُ حقوق اللاجئين الفلسطينيين الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومنها حقّ العمل، في متاهة الخلافات والحسابات والتوازنات الداخليّة، واتّخذتْ بعدًا طائفيًّا، خصوصًا في ظلّ الدعم الذي لاقتْه مطالبُ الحراك الشعبيّ الفلسطينيّ من أحزابٍ وقوًى ونُخبٍ لبنانيّةٍ أخرى من لون طائفيّ مختلف.

الفلسطينيّون في لبنان لا يرغبون في إقحام ملفّ “الوجود الفلسطينيّ في لبنان،” بكلّ مندرجاته، في متاهة الصيغة اللبنانيّة الطائفيّة والمذهبيّة، بل هم يريدون دعمَ كلّ الطوائف اللبنانيّة. ويريدونها أن تتفهّم أنّ نضالَهم اليوميّ من أجل تحصيل حقوقهم الأساسيّة في لبنان، وكسبِ لقمة عيشهم بكرامة، إنّما هو رصيدٌ ثمينٌ في نضالهم العنيد من أجل العودة، وهو ما يمكّنهم من التمسّك بكامل حقوقهم الوطنيّة غير القابلة للتصرّف، وفي مقدّمها حقُّ العودة وحقُّ تقرير المصير.

وفي هذا السياق يرى الفلسطينيّون أنّ “توقيت” خطّة عمل الوزير يَخدم موضوعيًّا – ومن دون الحكم على النوايا – المخطَّطاتِ الأمريكيّة/الإسرائيليّة، الرامية إلى تصفية قضيّة اللاجئين من خلال العمل على إلغاء تفويض الأونروا، وإعادة تعريف اللاجئ في سياق “صفقة القرن” المشؤومة.
إذن، نرجوكم ثمّ نرجوكم؛ أخرجونا من ” جَنّة” الطوائف وجِنّة (جنون) الطائفيّة.

صيدا

 

[1] ضمّن روبرت فروست هذه المقولة (Good fences make good neighbors) في أحد أبيات قصيدته “ترميم الجدار” (Mending Wall)، التي كتبها سنة 1914. واللافت أنّ أرئيل شارون، وقيل نتنياهو في روايةٍ أخرى، استشهد ببيت الشعر هذا لتبرير بناء جدار الفصل العنصريّ في الضفّة الغربيّة.

[2] لا يشمل هذا الاستثناء المهنَ الحرّةَ المنظّمةَ بقوانين النقابات.

[3] هناك تقديرات مختلفة لأعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ووفق التعداد العامّ للسكّان والمساكن الذي أجرته إدارةُ الإحصاء المركزيّ في لبنان، بالشراكة مع الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، فقد بلغ عدد الفلسطينيين المقيمين فعليًّا في لبنان وقت إجراء التعداد (17-30 تمّوز 2017) نحو 174422 شخص. ويُعتقد أنّ العدد أكبر من ذلك بعدة آلاف، لذلك يُعتمد التقدير المذكور باعتبارة تقديرًا واقعيًّا. والجدير ذكره أنّ أعداد اللاجئين حسب التعداد المذكور ينبغي ألّا تتناقض مع أعداد اللاجئين المسجّلين فعليًّا لدى الأونروا (459292 حتى آذار 2016)، وفي سجلّات وزارة الداخليّة (592711 حتى كانون الأول 2016).

[4] يقدّر حجم قوّة العمل الفلسطينيّة في لبنان (من هم في سنّ العمل) بحوالي 90 ألف شخص، بناءً على تقديرعدد الفلسطينيين المقيمين فعليًّا في لبنان بـ220 ألف شخص. حوالي نصف العاملين الذين يشكّلون قوّة العمل الفلسطينيّة يعملون لدى ربّ عمل فلسطينيّ في المخيّمات أو في محيطها، بينما يعمل النصف الآخر لدى ربّ عمل لبنانيّ. وذلك يعني أنّ الحجم الأقصى لقوة العمل الفلسطينيّة التي يمكن أن تدخل في منافسة مباشرة مع قوّة العمل اللبنانيّة هو 45 ألف عامل فقط.

[5] كونتا كينتي (1750- 1810)، هو الشخصيّة الرئيسة في رواية الجذور، للروائيّ الأمريكيّ أليكس هيلي.

[6] لجنة الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ، رؤية لبنانيّة موحّدة لقضايا اللجوء الفلسطينيّ في لبنان (كانون الأوّل/يناير 2017).

[7] صدرتْ عن المديريّة العامة للشؤون السياسيّة واللاجئين/ وزارة الداخليّة، وتُعتبر بمثابة إقامة دائمة.

[8] غردّ إتيان صقر (25/7/2019) تحت عنوان: “ملاحظات على تحرّكات الللاجئين الفلسطينيين المشبوهة في الإسبوع الفائت.” وممّا جاء في تلك التغريدات: “ظاهرُها [أي التحرّكات] احتجاجٌ على قانون العمل. وباطنُها حقدٌ دفينٌ على بلدٍ استضافهم عشراتِ السنين، فغدروا به، وارتكبوا بحقّ شعبه أبشع المجازر. بعد خطيئة الجحود هذه، ونكرانِ الجميل، لم يعد لهم أيُّ حقوق عندنا سوى الإقامة المؤقّتة بانتظار الترحيل… نحذّرهم من اللعب بنار الفتنة مرّةً ثانية لأنّ الدرس الثاني سيكون أقسى من الأوّل، ونذكّرهم بأنّ شعار” لن يبقى فلسطينيّ على أرض لبنان” ما زال ساري المفعول.”

 

 

أبو أرز- اتيان صقر: ملاحظات على تحركات اللاجئين الفلسطينيين المشبوهة الاسبوع الفائت

 

[9] برنامج صار الوقت، حلقة يوم 18/7/2019 التي استضاف فيها مارسيل غانم كلًّا من وزير العمل كميل أبو سليمان، ورئيس لجنة الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ الدكتور حسن منيمنة.

 

 

 

 

 

المصدر مجلة الآداب اللبنانية

04.08.19