الأرشيفمن هنا وهناك

المنهج الدراسي في العراق وصناعة الكراهية – د.عامر صالح

 

 

قطاع التربية والتعليم في العراق كغيره من القطاعات الاجتماعية يعاني من التدهور المستمر والتخلف في الأداء وكذلك من تفشي الفساد الاداري والمالي والعجز في في تحقيق المعايير الكمية والكيفية ليست فقط استنادا الى المعايير الدولية بل استنادا الى ما حققه العراق في عقود سابقة, والتي بلغت في بعض منها الى الاقتراب الكامل من محو الأمية وتحقيق ألزامية التعليم ومحاولات التطوير المستمر للمناهج الدراسي, ولكن عبثية النظام السابق وأنشغاله بالحروب الخارجية والداخلية أدت الى ما أدت أليه من استنزاف للموارد البشرية والمادية ووضع البلاد تحت رهينة المجتمع الدولي الذي تقوده امريكا وتفرض اجندتها عليه, وكان العراق ضحية من ضحايا الصفقات والمصالح الدولية التي لم يستطيع النظام السابق من تجاوزها بفعل عنجهيته الهمجية المتخلفة ومحدودية ذكائه. 

 

واليوم العراق وبعد مرور خمسة عشر عاما على الاحتلال الامريكي واسقاط النظام الدكتاتوري السابق وتسليم مقاليد الحكم للقوى الاسلاموية والاثنية يعاني النظام التعليمي والتربوي من تفشي الفساد وغياب الرقابة وتدهور كبير فيه وارتفاع نسبة الامية الى مستويات كارثية, وبعد ان صنفته اليونسكو في عقود سابقة ضمن نظم التعليم المتطورة في الأداء الكمي والكيفي, عادت لتصنفه اليوم  من ضمن البلدان التي تعاني ارتفاعا في نسب الامية يتجاوز 47% للفئة العمرية بين 6 ـ 55 عاما. 

 

وفي مسار خطير على مستوى محتوى المناهج الدراسية سواء الاجتماعية منها أم الطبيعية تعاني مفردات المنهج من الارتجال في الصياغة وعدم ملائمتها لقدرات الطلبة في المراحل الدراسية المختلفة وخاصة المرحلة الابتدائية والمتوسطة, ففي مجال مادة الرياضيات هناك غموض وتشدد وارتباك بواجهات تربوية غير معروفة وغامضة لا تستجيب لمستلزمات النمو العقلي والمعرفي المتدرج لمدارك الاطفال كانت محصلته هو العزوف عن التعليم وترك مقاعد الدراسة والرسوب المتكرر والانظمام الى جيش الأميين المتزايد دون انقطاع, ولحد الآن لا تعرف دوافع ذلك ومن هي الجهات التي تقف وراء ذلك وماهي الخبرات العالمية التي تم الاستناد أليها في بناء المنهج المذكور.  

 

على مستوى المواد الاجتماعية, وعلى سبيل المثال في كتابي التربية الاسلامية للصف الاول الابتدائي والخامس الاعدادي عبارات لا تليق بالعراق كونه شعب متعدد الاديان والمذاهب والثقافات, ولا تليق بقيم التسامح والعيش المشترك, ومنها ما يحرض ضمنا على المسيحين باعتبارهم قوم او ديانة ضالة ” حسب ما ورد “, أو التحريض على النساء غير المحجبات بعبارات: “حجابي فريضة واني الصحيحة وغيري المريضة”, انها دعوة ضمنية للأساءة الى التنوع العراقي في ثقافته ودياناته, بل هي خطوة مبيتة لتصفية الآخر والانتقام منه. كما وردت في امكنة اخرى من العلوم الاجتماعية بعض من النصوص والحوارات ما يؤدي الى تفكيك النسيج الاجتماعي وتعزيز ثقافة الريبة والشكوك الاخلاقي في التعاملات اليومية بين الكبار والصغار بديلا عن ثقافة الثقة المتبادلة والتنشئة الاجتماعية السوية بين افراد المجتمع من مختلف الاعمار وفي مختلف مناسبات الاتصال والتواصل خارج دائرة المنزل.   

 

 ويلعب هنا الخطاب الديني المتطرف بشقيه التكفيري والسياسي دورا خطيرا في زرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع, سواء من ذات الدين الواحد عبر إشاعة الفرقة بين طوائفه ومذاهبه المتنوعة, وكذلك بين المجتمع المتعدد الديانات عبر فرض أجندة دينية وسياسية ـ دينية وحيدة الرؤى, مما يحرم الآخرين من حق التمتع بممارسة حقوقهم الدينية وحريتهم في المعتقد, و يخلق بيئة مواتية للعنف والعنف المضاد تراق فيه دماء الملايين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة. وبما أن الكراهية والعنف منبوذ ومدان في كل القيم والأديان السماوية وغير السماوية فأن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة ومزاجية بل ومصلحيه للنص المقدس وللأحداث التاريخية والافتراضات العبثية لنيات الآخرين المغايرين في الدين أو المذهب واستحضار الجانب المؤلم والمشكل في التاريخ, ويجري هذا متزامنا مع الفتاوى التي تصدر يوميا في الخفاء والعلن من دعاة الدين لأيقاظ وإلهاب روح الكراهية والتحريض والعنف بين الناس وضرب وحدتهم الوطنية في الصميم, وهكذا يتحول العنف من قيمة منبوذة في الدين والسياسة إلى واجب ديني ” الهي ” وسياسي له الأولوية في عقول المتطرفين على بناء الوطن ونهضته, وهنا يتكالب الاسلامويين والمتطرفيين لتجسيد ثقافة الكراهية وتجذيرها في المناهج الدراسية.

 

 

ومن منطلق شمولية المنهج لأغلب جوانب الحياة, فأن الدول الديمقراطية تسعى بكل جهودها لتطوير المناهج في مختلف المجالات, والتركيز على فكرة بناء المواطن الصالح من خلال توعيته بفكرة المواطنة,  من خلال تعريف الدارس المواطن بالمفاهيم الأساسية للمواطنة وخصائصها, مثل : مفهوم الوطن, والحكومة, والنظام السياسي, والمجتمع ومؤسساته المدنية, ومفهوم الديمقراطية الحق, والمشاركة السياسية وأهميتها, والمسؤولية الاجتماعية ومظاهرها, وضرورة الاحتماء بالقانون, واحترام الدستور, وضرورة الوعي بالحقوق والواجبات اتجاه الدولة والمجتمع, وغيرها من المفاهيم المعاصرة للمواطنة الصالحة وأسسها.وبالضد من ذلك فأن الحكومات القمعية والاستحواذية والطائفية والعرقية تسعى لتشويه فكرة المواطن والمواطنة, من خلال غرس قيم الولاء للحزب الحاكم, أو الولاء للطائفة أو للدين أو للقومية دون الوطن الذي يجمع كل هذه المكونات في بوتقة واحدة, فالوطن هو الحامي والحارس الأمين لكل هذه المكونات عبر تعزيز ثقافة التسامح والولاء للقانون وللدولة صاحبة الشأن في المجتمعات الديمقراطية, دون العبث بجغرافية وسياسة واثنية وأديان الوطن الكبير. وتشمل فكرة المواطنة من خلال المنهج الدراسي الحديث الأبعاد الآتية :

 

البعد المعرفي ـ الثقافي : حيث تمثل المعرفة عنصرا أساسيا وجوهريا في نوعية المواطن الذي تسعى إلى بناءه مؤسسات المجتمع السليم والمعافى, وهذا لا يعني أن المواطن الأمي ليس مواطنا يتحمل مسؤولياته ويدين بالولاء للوطن, ولكن المعرفة والثقافة والتعليم وسائل توفر للمواطن فرص لبناء مهاراته وكفاءاته التي يحتاجها في معترك الحياة, كما أن التربية الوطنية والتعليم تنطلق من ثقافة الناس مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات في التنوع الثقافي للمجتمع.

 

2ـ البعد ألمهاراتي : ويقصد به المهارات الفكرية والعقلية مثل : التفكير النقدي والقدرة على ممارسة النقد والنقد الذاتي, والتحليل الموضوعي لمختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية, والقدرة في المحاولة على حل المشكلات أو إدراك أولي لماهية الحلول, حيث أن المواطن الذي يتمتع بهذه المقدرة يستطيع التميز بين الطالح والصالح من الأمور ويكون أكثر عقلانية ومنطقية فيما يفعل أو يقول دون الانسياق وراء التجمعات أو الشلل التي تحول فردية الإنسان إلى حشد قطيعي, اقرب جدا إلى الحيوان منه إلى الإنسان .

 

3ـ البعد الاجتماعي : ويقصد به خلق الكفاءة الاجتماعية لدى الدارسين ـ المواطنين في التعايش مع الآخرين من مختلف الفئات الاجتماعية وتنمية روح التسامح ولغة التواصل مع مختلف المكونات القومية والاثنية في الوطن الواحد والتعايش معهم بسلام, بعيدا عن استخدام لغة الإكراه والتميز والإقصاء والفرقة والكراهية .

 

4 ـ البعد ألانتمائي : ويقصد به البعد الوطني وما يترتب عليه من غرس انتماء الدارسين لثقافتهم ولمجتمعهم ولوطنهم, وتعزيز ثقافة المصلحة العليا للوطن بعيدا عن التشرذم الجغرافي ـ الطائفي والقومي والديني, وإحلال ثقافة المسؤولية العليا اتجاه الوطني ومصيره, وحمايته من التدخلات الخارجية وأخلاق التفكك الداخلي.

 

5ـ البعد ألقيمي والديني, مثل : إشاعة قيم التسامح والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية بين مختلف الأديان السماوية وغير السماوية, وتكريس مبادئ عدم المساس بمقدسات الأقلية الدينية وتوفير الفرص اللازمة للتعبير عن نفسها في إطار وجودها الجغرافي دون إرهاب أو ابتزاز أو ارتهان أو عمليات إرهابية جبانة تطال هؤلاء بفعل ضعف إمكانيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

 

6 ـ البعد الجغرافي ـ المكاني : وهو الإطار المادي والإنساني  الذي يعيش فيه المواطن, أي البيئة المحلية يتعلم فيها ويتعامل مع أفرادها, وليست فقط من خلال النصائح والمواعظ  داخل غرفة الصف, بل من خلال المشاركة التي تحصل في البيئة المحلية والتطوع في العمل البيئي, ومن خلال ربط هذه النشاطات بالبيئة الأكبر ” الوطن ” من ناحية القيم والأهداف المرجوة من كل نشاط , وعدم الاعتكاف فقط في البيئة الأصغر التي تحجر عقل الدارس وتسهل مراوحته كالصنم في محل إقامته.

 

ان الابتعاد عن اقحام العملية التربوية وبشكل خاص المناهج الدراسية بثقافة الكراهية  وإعادة بناء نظام التعليم على أسس من الحداثة ومعطيات العلم والتقدم التقني,  وإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة بما يؤمن احترام الدين وعدم استخدامه في السياسية التربوية والتعليمية كمحفز للعدوان وكذلك إعلان القطيعة مع كل موروث مسبب للفتنة ويسئ للمبادئ العامة للدين ووظيفته الفطرية… إنها مهمات ليست سهلة ولكن يتوقف عليها مستقبل العراق بأسره ومستقبل اجياله القادمة.