عربي وعالمي

انتفاضة تموز العراقية 2018 وسيكولوجيا الغضب – د.عامر صالح

 

دخلت المرجعية الدينية في خطبتها في 2018ـ08ـ03 على خط استخدام المصطلحات السيكولوجية في استخدامها لمفردة الغضب المسيطر عليه في محاولة منها لأحتواء الأزمة في البلاد منذ عقد ونصف من الزمن, وكما نعلم فأن المرجعية الدينية تتدخل في الأزمات بخطاب توفيقي بين اطراف الأزمة المستعصية في البلاد, وقد رفعت المرجعية يدها عن تزكية الحكم ورموزه نسبيا بعد إن كانت الداعم الأساسي للنظام وأركانه منذ نشأته الأولى, بل وكانت المرجعية احد الأطراف الأساسية لهندسة النظام المحصصاتي بكل بنيته المؤسساتية, والأمر هنا ليست من باب ألقاء التهم على المرجعية, بل من باب خلط الدين في السياسة واعطاء النظام قدسية وشرعية في عقول العراقين ما لا يستحقها مطلقا, فالنظام الفاسد يفترض ان لا يلقي الاستحسان أو الحديث عنه بلغة رمزية من قبل المرجعية الدينية, وطبعا هذا غير معزول عن تشوهات الوعي العراقي وأزمته في عدم ادراك ضرورة فصل الدين عن السياسية, مما ترك المجال لمزيد من تعقيد دور المرجعية في الشأن العام, حتى باتت شرائح اجتماعية واسعة تتطالب المرجعية بموقف سياسي واضح من النظام كي تترجمه على شكل افعال ميدانية, قد يقع ذلك خارج اختصاص المرجعية نفسها.

إن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية التي تعم الشارع العراقي اليوم هي من نوع المعارك التاريخية الفاصلة والحاسمة بين فريقين متناقضين, هما فريق السلطات الحاكمة التي فقدت شرعية وجودها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخانقة والمتراكمة عبر عقود من الزمن, ويمثل هذا الفريق قوى السلطة الفاسدة والقمعية المستبدة والقوى التي تسير ورائها وتدعمها من ميليشيات مسلحة وعصابات ومجاميع اجرامية منفلتة ترى في في ضعف الدولة مرتع خصب لها, والفريق الثاني هو قوى الانتفاضات الشعبية ذات المصلحة الأساسية في عملية التغير التقدمي, والمطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكل فريق ” جمهوره ” الخاص والذي يتشكل في سياقات الغضب المتراكم في اتجاهين متنافرين: غضب السلطة وسدنتها وأعوانها, وغضب الثوار. ما هي طبيعة الغضب الجمعي لدى الفريقين, وما هي دلالاته, وكيف ينشأ لدى الفريقين, وما هي تداعياته, ذلك ما نطمح إلى تبيان اتجاهاته الرئيسية في هذه المحاولة المتواضعة !!!.

إن الانفعالات بصورة عامة هي من أهم الخصائص والمقومات التي تجعل لحياة الإنسان معنى. وبدون القدرة أو الطاقة على الانفعال تصبح الحياة غير ذات معنى, شبيهة بحياة الجماد الذي لا يحس ولا يشعر ولا ينفعل. إن الحياة بدون انفعالات تصبح لاهي محزنة ولاهي سارة. ولا نستطيع أن نتصور حياة بدون انفعالات. فالحياة والانفعال شيئان متلازمان لا وجود لأحدهما دون الآخر.

والغاية من الانفعالات هو تحقيق السعادة الشخصية والتكيف مع النفس ومع البيئة المحيطة. ويعتبر الانفعال من العناصر المهمة في تفاعلنا مع البيئة المحيطة بنا, وله تأثير قوي في وظائف جسمنا, وفي إدراكنا للعالم المحيط بنا, وفي قدرتنا على التفكير والتعلم والتفاعل مع الآخرين وفي كافة مظاهر حياتنا. وكون الانفعال ضروريا لحياة الإنسان لا ينافي أنه لا بد للإنسان أن يعمل على ضبط انفعالاته والتحكم فيها, لأن عجزه عن ضبطها والتحكم فيها من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من الاضطرابات النفسية والعقلية والجسمية ويعرقل عملية التكيف السليم للبيئة الاجتماعية. وحديثنا هنا هو مكرس فقط للغضب باعتباره احد مظاهر الانفعالات التي تبدو واضحة في السلوك الفردي والجمعي للمجتمعات.

الغضب في اللغة: غضب يغضب غضبا, قال ابن فارس: ” الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة. يقال إن الغضبة: الصخرة, ومنه اشتق الغضب, لأنه اشتداد السخط”. وفي الاصطلاح: عرفه الجرجاني بأنه: ” تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر”, وعرفه الغزالي: ” غليان دم القلب بطلب الانتقام”, وفي المعجم الوسيط: ” غضب عليه غضبا سخط عليه وأراد الانتقام منه…. “.

والغضب من الناحية السيكولوجية: هو سلوك متعلم تختلف حدته من الاستثارة الخفيفة وانتهاء إلى الثورة الحادة, وقد يعرف الغضب بأنه حالة انفعال عاطفي حادة طبيعية وصحية وإنسانية, ولكن عندما يخرج الفرد من قدرة السيطرة والتحكم فيه فانه يتحول إلى مشكلة هدامة تؤدي إلى شرخ في العلاقات الاجتماعية والأسرية وحتى الثقافية والاقتصادية, ولكن لكل فعل ردة فعل كما هي فيزياء السلوك الانساني.

وللغضب أعراض مختلفة تظهر واضحة في السلوك الظاهر, والتغيرات الفسيولوجية للجسم وكذلك في المشاعر والادراكات الداخلية, ويمكن تلخيصها عموما بالأعراض التالية: ضربات القلب السريعة, تغير لون البشرة, ضغط الدم المرتفع, زيادة توتر العضلات, اتساق حدقة العين, التنفس السطحي غير العميق, انكماش الجلد, الاتجاه العام للجسم والاستعداد للحركة كالجري والهجوم, تغير الصوت في الطبقة والشدة,التصرفات العشوائية, التدفق الكلامي, طبيعة حكم الشخص على مشاعره وشدتها ونوعيتها, كما يتسم السلوك العام بالتكثيف, والاعتباطية, والاندفاع وعدم التبصر, التناقض وعدم الاتساق, وعدم إقامة أي اعتبار للنتائج.

والغضب على المستوى الفردي ينشأ بفعل عوامل الإرهاق, والجوع, والألم, والمرض, والإحباط, والقلق, والتفسير السلبي للمواقف, وجود قناعات مسبقة عن بعض الأشخاص أو الأحداث أو القضايا, العجز عن الحوار أو عدم الرغبة فيه, استعصاء حل المشكلات واستمرارها, الاستعجال, التغيرات الهرمونية المرتبطة بالدورة الشهرية بالنسبة للمرأة أو الوصول إلى سن انقطاع الطمث, الفشل في ممارسة الجنس, الاعتماد على عقاقير بعينها أو الانسحاب من تأثير مخدر, الاضطرابات النفسية مثل الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب ” الهوس والاكتئاب “, الجينات الوراثية ودورها في تحديد السمات الشخصية ورسم ملامح الطباع والخطوط الأولية لمظاهر السلوك الإنساني, الشعور بالدونية, تباين القيم والتقاليد الاجتماعية, الضغط النفسي, المشاكل الزوجية والأسرية, الخلافات الفكرية والصراعات الطبقية, الصراعات السياسية, الإحساس بالظلم, الإحساس بأن الطريق مسدود أمام الشخص, تقييد الحريات الفردية والتجاوز عليها, النقاط الحساسة بالشخصية, الحرمان من إشباع بعض الحاجات, البطالة, الفقر, الاستغلال, الرفض الاجتماعي للشخصية, والمعاناة من الفساد بمختلف مظاهره في البيئة المحيطة !!!!.

أما الغضب الجمعي و” الثائر ” منه بشكل خاص فيتشكل من خلال حالة الوعي الجمعي بالمشكلات المشتركة بين أفراد المجتمع والمستعصية على الحل, كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي تبدو بشكل واضح في انتشار الفقر والتفاوت المريع للدخول, وخاصة القائم منه على خلفية الفساد الإداري والمالي والسياسي, والمتمثل بالرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة والابتزاز والتزوير وسرقة المال العام وغيرها, وخاصة عندما يكون الفساد اكبر حجما من المحاسبة ويصبح ثقافة شائعة تنهك أفراد المجتمع, ويدخل ضمن التركيبية السياسية للدولة, إلى جانب انعدام أو ضعف الخدمات العامة, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات اجتماعية مختلفة,وعدم تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وانعدام فرص العمل للمواطنين, يقابل ذلك في الطرف الآخر ثراء فاحشا وغير نزيه لشرائح اجتماعية وسياسية وقيادات في الدولة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي يترك انطباعا غير قابل للطعن بأن الدولة وقياداتها وأحزابها هي مصدر الظلم الاجتماعي ومسببه الرئيسي, وهي مصدر اهانة أفراد المجتمع وإذلالهم وتميزهم وتأليبهم على بعضهم سياسيا ومذهبيا وطائفيا واثنيا.

وتولد هذه السياسات بمجملها حالات من الكبت والقمع والحرمان المتواصل, وكلما زادت فترة الكبت للمشاعر المصاحبة فهي تشكل أرضا خصبة لغضبا جمعيا ثائرا وهو محمود ومطلوب حيث الحاجة إليه لإثبات ذات الفرد والمجتمع ووجودهما, واخذ الحقوق ممن ظلموه وسلبوا إرادته في الحرية الحقيقية والعيش الكريم, فالغضب الجمعي الثائر هنا هو حالة صحية وسوية للتعبير عن كبت المشاعر التي خنقت داخل الذات المجتمعية بفعل عوامل القمع والحرمان وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية, وهكذا جاءت الاحتجاجات المطلبية العراقية تعبيرا حيا وصادقا عن عمق أزمة الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لا نلتمس فيه أفقا للحل, وهو نذير بمزيد من الاحتقانات والإعمال الاحتجاجية الناتجة عنه, وبالتالي هنا لا يوجد مقياسا مقننا للغضب كما ارادته المرجعية, ولعل ذلك يذكرنا بالغضب المنفلت بعد سقوط نطام صدام حسين والذي باركته كل القوى السياسية, بل وسكتت عن كل ما جرى من تخريب لمؤسسات الدولة العراقية.

أما غضب السلطة الحاكمة وأجهزتها وأعوانها والذي أطلقت عليه بالغضب الجمعي ” الجائر ” فهو غضب الردة المضادة, والتي تحاول بكل ما أتت به من بقايا القوة لعرقلة وتأخير اختمار الغضب الجمعي ” الثائر “, وغضب السلطة الجمعي الجائر هو من نوع غضب ” القطيع ” نسبة إلى قطيع الأغنام الذي تتحرك جموعه بإشارة من الراعي الكبير ومن الدكتاتور الأوحد, فهذه الجموع لا تتحرك على خلفية عوامل موضوعية مفهومة في الفكر والسياسة والممارسة, وإنما تتحرك على خلفية العداء لمطالب الجماهير المشروعة, يحركها خطاب قائد الضرورة السياسي أو الديني ذو المسحة الانفعالية الضارة بمصالح الناس, فسلوكها هو سلوك هستيري تجسده حالة الخوف من كل جديد, فهي لا تميز بين الصديق والعدو الحقيقي, ولا بين النافع والضار, ولا بين الخطر الحقيقي وما يشبهه, فسلوكها يخلو دوما من التميز, فهي تندفع تحت وطأة التعصب لإرضاء غريزة القطيع ” الحيواني “, دون وعي وتنتشر في صفوف المجتمع كالنار في الهشيم لتخرب كل شيء دون حسبان لتصرفاتها وعواقبه, يحرك سلوكها ” فوبيا ” هستيرية, فهي لا تمتلك قدرة على التخطيط والحكمة في اللحظات الحرجة, وإنما يحرك سلوكها منطق القطيع الذي يتجمع على شكل حظائر بانتظار إشارة من ” القائد” أو ” الراعي ” أو ” المرشد الديني ” أو ” المفتي “. أن الغضب الجمعي الجائر مجردا من كل الصفات الإنسانية فهو يتحرك فقط على خلفية حاسة الشم القوية التي يمتلكها ” القطيع ” ويندفع حيثما توجه له الإشارة من فوق, وهذا ما يتعارض مع خصوصية الإنسان وعقله المتفرد, فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائنا بيولوجيا اجتماعيا, فردا منتميا للمجتمع أو الجماعة البشرية, يطورها وتطوره, يقدرها وتقدره, يسمعها وتسمعه, يتفق معها ويختلف, ويبقى القضاء والحكم العادل هو الفيصل.

وعلى خلفية ذلك اندفعت بعض من الأجهزة المخابراتية والأمنية وأعوان النظام والمستفيدين منه من خلال الإذعان الأعمى لمشيئة قيادات سياسية مفلسه او مليشيات دموية أو تكتلات عصاباتية أو زعيم ديني مرتكبة أبشع جرائم القتل والتصفيات بحق الجماهير الثائرة,  مستخدمة بذلك سياسة العصا والجزره واطلاق مبادرات بائسة في ظل نظام فاسد لا تنجح فيه افضل المبادرات بسبب من انعدام القوى الخيرة والمؤمنة في التغير من داخل النظام, أنه نظام مافيوي عصي على التغير, وليست من المقبول ان تضع شعب منتفض في بارومتري الغضب وتحدد له سياقات فوقية عبر شعارات وهمية قوامها : غضب مسيطر عليه وغضب غير مسيطر عليه, فالأنتفاضة إن امتلكت قيادة حكيمة مع تطور الاحداث فهي وحدها التي تقرر جرعات الغضب استنادا الى قربها او بعدها من بلوغ اهدافها !!!.