وقفة عز

تغلبت مصلحة فتح على مصلحة فلسطين

نضال حمد

بعد أن أمضوا الليل ينتفون بلحاهم فسروا الماء بالماء وأضاعوا وصفة العلاج من الداء، وأتلفوا ما كان تجمع لديهم من دواء صالح لصالح الأدوية الفاسدة. فلم يشخصوا المرض بشخصه ولم يدققوا في نوعية الدم وفئته وكثرة البياض فيه وتغلبها على الحمار، حتى غدت من كثرة راياتها البيضاء تشكل غيمه سوداء تحجب عن الجسد كاملا  الضوء والنور والضياء.

كنا ننتظر من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني أن يكونوا فلسطينيين أكثر منهم فتحاويين. وكنا نأمل في نهاية المطاف أن تتغلب المصلحة الوطنية العليا على مصلحة الحركة، لأن في صحة الوطن صحة للحركة وللوطن معا. لكن أعضاء المجلس الفتحاويين ومعهم بعض المتفتحنين من بقايا شراذم الجبهات المتناثرة وما يسمون بالمستقلين وهم أبعد ما يكونون عن تلك التسمية. لأنهم بلا استقلالية فعلية، وهم جزء من لعبة جديدة قديمة عرفتها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وتألمت بسببها طويلا وكثيرا. وفي النهاية كانت من الأسباب التي قادت المنظمة إلى الرف الذي وضعت عليه بكافة تاريخها ومؤسساتها، لتصبح مجرد مشرع مريض يمرر الصفقات المشؤومة والأخرى التي تعج بالتنازلات المصيرية، والتي لا تخدم المصلحة الوطنية الفلسطينية بشيء.

ففي أيام العمل السياسي والتنظيمي والنقابي في ظل مؤسسات المنظمة كانت تتم الصفقات قبل عقد المؤتمرات. فتوزع المقاعد والمناصب وتحدد الأعداد، فتأخذ حركة فتح حصة الأسد وفي أضعف الإيمان النصف زائد واحد. وكان من شبه المستحيلات أن ترضى فتح بأقل من النصف زائد واحد في حالة عقد الصفقات مع الفصائل الأخرى. وكان من المستبعد خسارتها في الانتخابات لأنها كانت تملك كافة عوامل الهيمنة على البشر وبعض الفصائل والرموز والمؤسسات. ففتح المالية والمالية فتح، وهي حركة مفتوحة لكل الناس، وبإمكان أي إنسان مرضي عنه من فوق، أو يعرف كيف يدخل عقولهم ولديه  قدر من المعرفة بكيفية التقرب والطبطبة والأستزلام: وكذلك طواعية العمل كنادل أو كخادم لفلن أو فلان … وما أكثر هؤلاء الذين يتحكمون بالمال والقرار… بعد فترة يصبح فلن خادم أو مملوك فلان قائدا ورجل مال وأعمال يصول ويجول، ويَأمُر ولا يُؤمَر، و يمثل شعبنا في المحافل العربية والدولية وغيرها. ويصرف في الليلة الواحدة مالا يكفي لحل مشاكل عشرات عائلات الشهداء والجرحى والأسرى. والأمثلة على ذلك مليئة ووفيرة إذ لازال بعضهم يعيش في قصوره الجديدة على أرض الوطن أو في الخارج. حتى أن منهم من يملك قصورا داخلية في البلاد وأخرى خارجها. هؤلاء لن يحرروا فلسطين ولن يصلحوا الفساد لأنهم جزءا هاما من الفساد ومن مشروع التنازل عما تبقى من أرض فلسطين وحقوق شعب فلسطين.

قبل أسابيع قليلة كان العالم كله على موعد مع الحكومة الفلسطينية الجديدة ووجوهها الجديدة وبرنامجها الجديد. لكن الجديد الذي جاء هو عدم وجود جديد جدي في تشكيلة الحكومة الفلسطينية باستثناء الأربعة وزراء الجدد، والذين يُعد السيد هاني الحسن المعروف بموقفه المعارض لمحمود عباس أبو مازن ومعسكره، الذي يعتبر أكثر معسكرات السلطة تفريطا بالقضية الوطنية الفلسطينية. لكن هذا لا يعني أن هاني الحسن سوف يحيد عن القاعدة التي أتاحت له العودة إلى أراضى السلطة الفلسطينية التي أعيدت بفعل اتفاقية أوسلو قبل إعادة احتلالها من جديد من قبل الجيش الصهيوني. فالخطوط العريضة لسياسة الحكومة الجديدة لا تختلف عن سابقاتها من الحكومات الفلسطينية التي التزمت بأوسلو بغض النظر عن كل المتغيرات والعواصف التي هبت ودمرت عملية أوسلو العتيدة. وما يعزز هذا الكلام خطاب الرئيس عرفات أمام المجلس التشريعي حيث قال كلاما لا يوجد فيه أي جديد للشعب الفلسطيني. هذا الذي طالما أنتظر من رئيسه موقفا واضحا يتمسك بخيار الشعب الفلسطيني الملتف حول الانتفاضة والمقاومة والوحدة الوطنية الفاعلة والحقيقية. ومن أجل تنظيف السلطة والبيت الفلسطيني من الفساد والمفسدين وممن أساءوا لشعبنا.

نقتطف من كلام الرئيس عرفات ما يلي :

“لقد اعترفنا لكم بدولتكم على 78 بالمائة من ارض فلسطين، قبلنا أن نقيم دولتنا على 22 بالمائة من هذه البلاد، فلماذا تريدون أن تلاحقونا حتى على هذه الرقعة الصغيرة”..

وأضاف : ” الأهداف الرئيسية للحكومة الجديدة هي إنشاء دولة فلسطينية تكون القدس الشرقية عاصمة لها، والبدء بعملية إصلاح المؤسسات الفلسطينية، وصيانة الوحدة الوطنية. إن الحكومة الجديدة ستعمل ب”شفافية” وتضمن “التعددية، أدانة كل الأعمال الإرهابية التي تستهدف مدنيين في كل مكان في العالم. الحكومة الفلسطينية ستبذل قصارى جهدها لوقف العمليات التي تستهدف “مدنيين” إسرائيليين. العمل على تعزيز صمودنا الوطني والعمل على تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني… وبذل الجهود لحماية القدس ومقدساتها والتصدي للاستيطان وحماية الأسرى وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. هذا الوضع الصعب هو ربع الساعة الأخير، هو عنق الزجاجة، وليس دليلا على فشلنا بل على نهوضنا وبأسنا وارادتنا وبطولتنا”.

يوجد في هذا الكلام إقرار بتنازل وتخلي السلطة وفريق أوسلو الحاكم والمتحكم عن 78% من أرض فلسطين. وهناك إمكانية كبيرة بأن يتخلى عن 78% من ال 22% من أرض فلسطين التي أعادها للسلطة سلام الشجعان أو الجدعان كما تريدون.

وما حكاية الموقع الاستيطاني حفات غلعاد إلا خير دليل على تمسك الحكومات الصهيونية المتعاقبة بالمستوطنات وبتوسيعها وتطويرها. كل هذا من أجل بقاءها وليس لأجل تفكيكها. فإن كان الهدف النهائي هو إعادة الأراضي تلك للسلطة الفلسطينية وترحيل الاستيطان لما كنا نرى اليوم الصراع في الكنيست الصهيوني على إقرار الميزانية والتي للمستوطنين الذين يمثلون 3% من مجموع السكان نسبة 8% من الميزانية. وهذه النسبة عالية جدا وإن دلت على شيء، إنما تدل على مدى تمسك الحكومة بالاستيطان والمستوطنين وسياسة ضم الأراضي الفلسطينية ومصادرتها واستيطانها.

أما ما تبقى من خطوط عبر عنها بيان الرئيس عرفات فكانت أشبه بالشعارات العامة التي طالما رددتها السلطة في المرحلة السابقة. فالوحدة الوطنية مرت في البيان مرور الكرام والقدس كذلك والمقاومة بقيت شيئا غامضا أما الانتفاضة فلم يرد ذكرها لا من قريب ولا من بعيد.

والفساد عبر عبور الكرام ولا ندري كيف سيصلح الأربعة عشر وزيرا سابقا ولاحقا في الحكومة الحالية ما أفسدوه سابقا. فهم يشكلون جزءا هاما وهاما جدا من الفساد والخراب الذي دمر المجتمع الفلسطيني. حيث شطبت الشفافية والمحاسبة والإخلاص والتفاني من شعارات العمل الوطني. والصحيح أنه لم يعد هناك عند هؤلاء عمل وطني بل تحول إلى مقاولة وتجارة في عهد هؤلاء وأمثالهم.

لا ندري كيف سيصلحون ما أفسدوه وهل هم على قدر أهل العزائم ويتمتعون بالنية الصافية واليد النظيفة والعقول والقلوب المعافية حتى يقوموا بالإصلاح.

إذ لا يمكن لأشخاص نخرهم سوس الخراب أن ينهضوا فجأة ويتبدلوا ويتحولوا من مفسدين إلى مصلحين في ليلة وضحاها. بصراحة تامة نقول أن التصويت في المجلس التشريعي على منح الثقة بالحكومة الجديدة جاء تصويتا على بقاء فتح وتوابعها مهيمنة على القرار الفلسطيني والمقدرات الفلسطينية. وعندما تبين للأعضاء التشريعيين من الفتحاويين والمحسوبين عليهم أو المنضويين تحت عباءاتهم، بأن في القضية ضرر قد يلحق بالحركة لأن معظم وزراء السلطة المتهمين بالفساد هم من الحركة وتوابعها وقد تمس وتطال رأس السلطة ورؤوس شابة وشائبة في الحركة… بَدَلَ معظم هؤلاء مواقفهم التي كانت تنادي بالإصلاح والتغيير والتجديد. ورفعوا الفيتو عن أسماء الوزراء الذين كانوا على رأس لائحة المطلوب شطبهم من الحكومة وطردهم من مناصبهم ومن ثم محاسبتهم.

الحقيقة أنهم تمسكوا بمنطق الفتحاوية وأناتهم التي ظلوا لفترة طويلة يتغنون بها ويشهرونها على الملأ في أوقات الأزمات والشدائد مثلما حصل في استعراضات غزة الأخيرة بعد عملية اغتيال العقيد الفتحاوي أبو لحية على يدي عماد عقل أحد أعضاء حماس، الذي تصرف بشكل فردي وشخصي، قام على أثره باغتيال أبو لحية لأسباب عشائرية وقبلية ثأرية مرفوضة وغير مبررة.

لكن أبو لحية الذي كان مسؤولا عن قتل وجرح عشرات الفلسطينيين في قطاع غزة نال عقابه جزاء على أفعاله مع اننا كنا نتمنى أن يأخذ عقابه في محكمة السلطة الفلسطينية هو ومن أعطاه الأوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين.

هنا تكمن أهمية سلطة القانون التي كانت تطبق على البعض ولا تطبق على البعض الآخر، خاصة عناصر وضباط الأمن والشرطة من السلطة. هذه مهمة هامة ومركزية تنتظر السيد هاني الحسن وزير الداخلية الجديد الذي أكد حرصه الشديد على الوحدة الوطنية وعلى سيادة منطق القانون الواحد الذي تديره سلطة واحدة هي المسؤولة عن القانون في مناطق السلطة الفلسطينية.

أن تكون وزيرا للجميع وتعمل من أجل الجميع هذا يتطلب التخلي عن الأناة التي تحكمت بطرق عمل وتفكير الوزراء. ففلسطين ليست قضية فتح فقط وفتح ليست قدر الفلسطينيين فلكل فلسطيني آراءه وهمومه ومواقفه وقناعته وحزبه وحركته وجبهته واستقلاليته. وللفلسطينيين كلهم إطارهم السياسي العريض الذي لا بد أن يجمعهم ويوحدهم حول برنامج وطني موحد يكون واضح الشعارات والمعالم والأهداف والوسائل. ما عدا ذلك سوف يزول لأن قضية فلسطين أكبر من احتكارها في حركة واحدة أو مجموعة من الناس الذين يريدون الآخرين مجرد ديكور يزين الحكومة ذات اللون الواحد والسياسة الواحدة.

الحكومة الفلسطينية الجديدة ليست جديدة ولن تأتي بأي جديد لأنها تكريس فعلي للقديم تم تطعيمه ببعض الوجوه الجديدة والتي هي بالأصل من نتاج السياسة القديمة التي أوصلت القضية إلى الحضيض. وميزان الربح والخسارة هو الميزان الشعبي الفلسطيني الذي يزين بميزان الولاء للوطن أولا ولاستمرار نهج الانتفاضة والمقاومة أولا وأخيرا وحتى استعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة.  

 

30-10-2002

تغلبت مصلحة فتح على مصلحة فلسطين