ثقافة وفن

جذور فالنتين ” عيد الحب ” بين الحضارة والدين – د. عامر صالح

 

فالنتين أو عيد الحب أو عيد العشاق أو ” يوم القديس فالنتين ” هو احنفال مسيحي يحتفل به كثير من التاس في العالم في 14 فبراير حسب الكنيسة الغربية أو في 6 يوليو حسب الكنيسة الشرقية من كل عام, حيث يحتفلون بذكرى القديس فالنتين ويحتفلون بالحب والعاطفة حيث يعبر فيه المحبون عن حبهم لبعضهم عن طريق ارسال بطاقة معايدة أو اهداء باقة من الزهور أو غيرها لأحبائهم, الى جانب البعد الأقتصادي أسوة ببقية الأعياد وفي كل الأديان كمناسبة لتنشيط السوق الأقتصادية لتصريف الكثير من البضائع وخاصة الورود في هذه المناسبة, فهو مناسبة لحركة تجارية واسعة لتحقيق مزيدا من الأرباح. وتحمل هذه المناسبة أسم أثنين من الأشخاص لهما نفس الأسم ” فالنتين ” ويعتبرهم المسيحيون شهداء في سبيل المسيحية في بداية ظهورها, بعد ذلك أصبح هذا اليوم مرتبطا بمفهوم الحب الرومانسي في الكثير من بقاع العالم. لاتوجد رواية ثابته لهذا القديس, وهو قديس روماني من القرن الثالث الميلادي, ولكن الرواية الأكثر حضورا هي ان فالنتين هو كاهن مسيحي كان يزوج العشاق المسيحيين وفق التقاليد المسيحية سرا, وبسبب أن المسيحية كانت ممنوعة في الأمبراطورية الرومانية, وكان يعاقب كل من يمارس أسرار الكنيسة, وبسبب ذلك اعتقلته السلطات الرومانية وحكمت عليه بالاعدام, فأشتهر منذ ذلك الوقت بأنه شهيد الحب والعشاق, ومنه اخذت المناسبة في الاحتفال بعيد الحب أو يوم فالنتين !!!.

لقد توارثت الحضارة الإنسانية الحب من أسلافها الحيوانية في سلم التطور البيولوجي وأعادت إنتاجه على نطاق واسع  وبتعقيد لا مثيل له يكاد يغطي كل ثنايا الحياة الإنسانية وتفاصيلها الدقيقة متأثرا بالثقافة واللغة في أشكال التعبير عنه وحدة الإحساس به, حتى باتت مفردة الحب من أكثر المفردات إلهاما في الشعر والموسيقى والغناء والأدب ومختلف الفنون, وحتى في الخطابات السياسية, وان كانت في الأخيرة غير مباشرة وغامضة, ولكنها أيضا تدعي ” الحب ” لتضفي على السياسة بعدا أكثر آنسنه من المصالح الضيقة, بل حتى حروب الحضارات كلها كانت تحت شعارات إشاعة العدل والحق والمحبة بين الناس, وأصبح الحب شعار معلن في الحرب والسلم وكل حسب طريقته, حتى باتت مفردة ” أكرهك ” في سلة المهملات, بل أصبح من العيب في اغلب الثقافات استخدامها على الإطلاق حتى مع الأعداء أو مع من تختلف معهم, فكانت كلمة ” أكرهك ” من العيب أن تنطق في أكثر المناسبات كراهية بين البشر, وكانت تحل محلها في مناسبات الخصام كلمات مثل ” لا أرغبك “, أو ليست لدينا ” لغة مشتركة “, أو ” لا أستطيع التفاهم معك ” أو ” أشكرك نلتقي مرة ثانية ” في محاولات لإعادة بناء الحب من جديد !!!!!.  

وإذا كان الحب لدى الحيوانات الدنيا بدائيا بملامحه وطبيعته البسيطة فأنه لدى الإنسان أكثر تعقيدا, بل هو احد السمات البشرية, أو السمة التي تجعل من الفرد إنسان بشري عاقل, بل هو أكثر العوامل سببا في ديمومة الإنسان وبقاءه على وجه الكرة الأرضية, فيأخذ الحب هنا مظاهرا مختلفة وثيقة الصلة ببقائه واستمراره وتحسين ظروف عيشه, فهناك حب النفس أو العقل ـ حب العمل ـ حب الجسد ـ حب الطبيعة ـ حب الطعام ـ حب المال ـ  حب العلم ـ  حب القوة ـ الحب الجنسي ـ حب الحيوان وتربيته ـ حب احترام الآخرين ـ حب الأطفال ـ حب الوطن ـ حب الفريق الرياضي ـ حب العلم وغيره من مظاهر الحب المختلفة, والحب هنا هو قوة الجذب الايجابية التي تربط أفراد الجنس البشري, بل هو الحافز الايجابي الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش, وتسودها المتعة والسعادة ودقة الانجاز والسعي للحصول على أرقى المعارف الإنسانية وفهم العالم من حولنا كما هو الحال في فهم ذواتنا. وهذا لا يتم إلا من خلال المشاركة مع إنسان آخر نرى فيه شريكا لمختلف أوجه الحب !!!!!.

أما في الأديان السماوية وغير السماوية فقد ورد الحب ودلالته ومجالاته بتفصيلات كثيرة في أطار التوصية به في التعاملات اليومية, أو في ممارسة الطقوس الدينية, أو بالتلويح بعقوبة الحرمان منه. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ورد ذكر الحب صريحا في القرآن مباشرة في ( 76 ) آية, عدا الحالات الضمنية الغير مباشرة والتي تشير إلى معنى الحب. وأذكر هنا فقط نماذج منتقاة من بعض الآيات: في سورة البقرة, الآية ( 305) ” والله لا يحب الفساد “, وفي سورة آل عمران, الآية ( 32 ) ” قل أطيعوا الله والرسول فأن تولوا فأن الله لا يحب الكافرين “, وفي سورة النساء, الآية ( 107 ) ” أن الله لا يحب من كان خوانا أثيما “, وغيرها من النصوص الكثيرة التي تشير إلى التعامل بالمحبة والرحمة مع الأولاد والزوجة وذوي القربى., وكره الإسلام فكرة الانفصال بين الزوجين ووضع لذلك شروطا محدد.

وفي المسيحية شكلت رابطة الحب من الروابط القوية في الكتاب المقدس, ولعل من مؤشرات ذلك هو عدم جواز الطلاق والقسم بإبقاء العلاقة بين الزوجين إلى النهاية, وعدم السماح بتعدد الزوجات, والحب في المسيحية من أجمل الروابط البشرية التي تجمع الرجل والمرأة بمباركة من الله, ونجد نظير ذلك في الكثير من الأديان والشرائع السماوية.

وقد ربطت الأديان السماوية ربطا محكما بين الحب والزواج, ولم تسمح بممارسة الحب أو الحب الجنسي خارج أطار شروط المؤسسة الدينية وفي أطار العلاقات الزوجية حصرا, وبهذا اعتبر الحب وممارسته من المحرمات قبل العلاقة الزوجية. يقول النبي محمد ” لم يرى للمتحابين مثل التزوج “, وبالتالي فالحب هنا هو حب بين الزوجين والمتزوجين فقط. ومن هنا أيضا اعتبر الامتناع عن الحب قبل الزواج احد مصادر العفة للرجل والمرأة, كما ورد في حديث آخر للنبي محمد بقوله ” يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء “. ومن هنا دخل الحب في مجتمعنا في دهاليز السرية شبه التامة خوفا من العقاب الديني والاجتماعي !!!.

وتبقى هنا مسألة العفة والطهارة من أكثر الموضوعات حساسية في ضوء ارتباطها بمفهوم إشباع الدوافع الإنسانية ومنها دافع الحب. ففي المجتمعات الأوربية تفهم العفة والطهارة ليست بعدم الإشباع لدافع الحب والجنس, بل في إعادة صياغة هذه العلاقة بين الذكر والأنثى على أسس مقبولة اجتماعيا تنسجم مع جوهر التغيرات الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والحضارية, وقد قطعت هذه المجتمعات شوطا في إيجاد علاقات بين الجنسين تتمتع بزخم وقبول اجتماعي, وإيجاد معايير أخرى للعفة والطهارة خارج أطار الدافعية للحب, كالصدق والأمانة والوفاء واحترام القوانين وعم التجاوز على حقوق الغير وحريتهم والحكم بالعدل والنزاهة الشخصية من الفساد بمختلف مظاهره الضارة للمصلحة العامة !!!.

أما العفة والطهارة في المجتمعات العربية والإسلامية عموما فظلت متأثرة بالمؤسسة الدينية أكثر مما تتأثر بظروف الحياة العامة والتغيرات الجارية وتأثيراتها على إعادة صياغة العلاقة بين الجنسين, ولا يزال النظر إلى الحب و ممارسته من مؤشرات السمعة غير الطيبة, وإفساد للمجتمع وللعلاقات الاجتماعية, ويبعد الفرد عن طريق الصواب ويضيع وقته سدا, وجهل للدين وقلة الحياء من الله باعتباره هو المحبوب الأعظم ومنه تتفرع أنواع المحبة الأخرى ” حسب التفسير الديني “. وهكذا يعيش الشباب اليوم في مجتمعاتنا وسط موجات من الصراع والضغوطات النفسية الهائلة في عالم منفتح على مصراعيه, وفي ظل تغيرات عارمة تعيشها, تجرف مجتمعات بكاملها, مع بقاء الكثير من مؤسساتنا الاجتماعية عاجزة عن احتواء هذه التغيرات والإلحاق بها بما فيها المؤسسة الدينية المتشددة, والتي تغذي الإرهاب ولا تغذي الحب !!!!

اترك تعليقاً