من هنا وهناك

رسالة من الغرب إلى بوتين- منير شفيق

ما حدث من رد دبلوماسي من أغلب الدول الغربية ضد روسيا، بسبب التسميم الذي تعرض له الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب، شكل مؤشرا لدخول معادلة الوضع الدولي في مرحلة جديدة.
 
اتهمت بريطانيا روسيا بارتكاب ذلك التسميم، واعتبرته اعتداء بسلاح كيماوي ضد بلادها. في المقابل كان الرد الروسي حازما برفض هذا الاتهام واعتبره مفبركاً، وبلا دليل قاطع، وقد استبق نهاية ما يجري من تحقيق.
 
ولكن بريطانيا اعتبرته ثابتا ومؤكدا، مستندة إلى ما يتعلق بالسم نفسه دون أن تصل إلى حكم قضائي، ولا حتى إلى اتهام استوفى التحقيق. 

إلى هنا، كان يمكن أن تبقى المشكلة منحسرة في العلاقة بين بريطانيا وروسيا.
 
ولكن ما أن أخذت بريطانيا إجراءات طرد لدبلوماسيين روس فيها، إذا بالولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا تأخذ إجراءات مماثلة ضد دبلوماسيين روس في بلادها. 

وأعلنت الولايات المتحدة طرد ستين ديبلوماسيا وإغلاق القنصلية الروسية في سياتل. ثم تبين أن قرار طرد، أو إبعاد دبلوماسيين روس كان قرارا أوروبيا بموازاة القرار الأمريكي، وليس تابعا له، أو بضغط منه. 

وما يؤكد هذا الاستنتاج، أن المناخ السابق لأخذ هذا القرار بين أوروبا وأمريكا لم يكن على أحسن ما يرام. بل كان مُقبِلاً على حرب تجارية، وعلاقات سياسية أقرب إلى الجفاء منها إلى التحالف. 

ولهذا، فالسؤال كيف يجب أن يُقرأ هذا الإجماع، أو شبه الإجماع الغربي، في تأزيم العلاقات بروسيا إلى حد شن حرب ديبلوماسية لا مثيل لها حتى في مرحلة الحرب الباردة وانقسام العلاقات بين معسكرين وحلفين: وارسو والأطلسي؟ 

اتسم الوضع الدولي منذ سنوات عدة، ولنقل منذ نهاية القرن العشرين، لا سيما في السنوات السبع الأخيرة، بتفكك العلاقات التي كانت تتسم بالمحاور والأحلاف والمعسكرات. 

وهو ما دعا إلى وصفه (الوضع الدولي) بالفوضى واللا نظام، وبفقدان أمريكا وأوروبا سيطرتهما على النظام الدولي، إلاّ بحدود متراجعة يوما بعد يوم، فيما راحت تنمو أقطاب دولية وإقليمية هامة.
 
وأدت السنة الماضية التي ترأس فيها دونالد ترامب الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفاقم ما أشير إليه من فوضى عالمية. وقد وصل الأمر به إلى تأزيم العلاقات الأمريكية- الأوروبية كما لم يحدث منذ قرن من الزمان. 

ويكفي أن يلحظ الموقف الأوروبي من قرار ترامب بالنسبة إلى اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، والتصويت في مجلس الأمن ضده. 

ثم ما كادت نُذر اندلاع حرب تجارية بين الطرفين تلوح حتى انتقل الوضع إلى توافق أوروبي- أمريكي ضد روسيا، كما عبرت عنه الحرب الديبلوماسية التي تشن اليوم على روسيا.

طبعا هذا الحدث- الحجة لشن تلك الحرب الديبلوماسية لا يقوم على دليل قاطع يسنده. 

ولكن حتى لو كانت التهمة ثابتة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهي لا تستأهل كل هذه الحرب وهذا الإجماع أو شبه الإجماع الغربي. 

فهذا الحدث له سوابق كثيرة مشابهة حتى بين روسيا وبريطانيا، وهو ليس بالشاذ في العلاقات بين مخابرات الدول الكبرى، فلماذا تحوّل اليوم إلى هذا المستوى العالي من التوتر بين الغرب وروسيا؟ 

الجواب ببساطة: “ليس رمانة بل قلوب ملآنة” كما يقول المثل العربي. فهذه الحرب الديبلوماسية لا يمكن أن تقرأ باعتبارها ردة فعل طبيعية لهذه التهمة المدعاة. 

وإنما لا بد من البحث عن سبب رئيسي يشكل الدافع رقم واحد في هذه الخطوة التي أعادت للغرب وحدة غابت عنه منذ بضع سنين في الأقل. الأمر الذي يوجب اعتبارها انعطافة هامة جدا قد تشكل تغييرا في الوضع الدولي الذي ساد في السنوات الأخيرة. 

إذا كان الوضع الدولي الراهن اتسم بتراجع السيطرة الأمريكية- الأوروبية عليه، أو اتسم بتراجع متواصل لتلك السيطرة التي تعززت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أخذ يتسم أيضاً بتصاعد للقوة الروسية ودورها في السياسة الدولية ولا سيما خلال السنتين الماضيتين. 

وهو ما عبرت عنه في ضم القرم، والعلاقة بالصين، وفي الدور الذي راحت تلعبه في سورية والعراق، وتطوير علاقاتها بتركيا وإيران والهند وبكل الدول العربية. 

ولكن الأهم ما أعلنه بوتين الذي خرج من الانتخابات الرئاسية الروسية قويا جدا، عن امتلاك أسلحة صاروخية تغير في ميزان القوى العسكري العالمي. الأمر الذي دق ناقوس الخطر في العواصم الغربية عامة وليس في أمريكا وحدها. 

هذا التطور الروسي الذي يعد من الناحية الاستراتيجية مرعبا بالنسبة إلى دول كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا هو الذي جعل الدول الغربية الكبرى تتحرك في آن واحد لتجعل من حادث اغتيال الجاسوس المزدوج وابنته “قميص عثمان” لشن حرب ديبلوماسية، بكل هذه الضخامة والاستفزاز ضد روسيا. 

وهو ما جعلها تتخطى الحالة السائدة في السياسات الدولية خلال العقدين السابقين ولا سيما العقد الأخير، لتحدِث هذه الانعطافة التي تعبر عن إنذار باستعادة الغرب وحدته في مواجهة روسيا. إنها انعطافة تعبر عن رسالة من الغرب إلى بوتين.
 
عندما يقال أن شبه الإجماع الأوروبي- الأمريكي (الغربي) على شن حرب ديبلوماسية (التقاء 23 دولة وطرد 130 ديبلوماسياً روسياً منها)، قد شكل نقطة انعطاف في معادلة الوضع الدولي الراهن يجب ألاّ يُفهم بأن السمات الأساسية التي سادت الوضع الدولي في السنوات الأخيرة ستتغير بضربة واحدة، هي هذه الانعطافة. 

لأن ترميم ما حدث من فوضى ولا نظام في الوضع الدولي يحتاج إلى خطوات أخرى. بل يحتاج إلى تغيير في كل الاستراتيجيات الدولية. وليس هذا بالأمر الذي يحدث بين ليلة وضحاها. فالوضع الدولي دخل بداية جديدة مع هذه الحرب الديبلوماسية. ولكن إلى أين؟  

طبعا الجواب سيتوقف على الرد الروسي من جهة كما يتوقف على كيفية تعامل إدارة ترامب مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا بما يخالف ما سار عليه ترامب من نهج حتى الآن. 

وذلك إذا ما أريد ترميم ما حدث من تصدع لحلف الناتو، ومن اختلافات أمريكية- أوروبية من جهة أخرى.