الأرشيف

سماح ادريس: مقاطعة “إسرائيل”: الأشكال، المنجزات، المعوّقات

نصّ الكلمة التي ألقيتُها قبل ساعات في نادي الشقيف في النبطيّة، جنوب لبنان، وهي بعنوان ” مقاطعة إسرائيل: الأشكال، المنجزات، المعوّقات”.

****

مساء الخير وشكرًا لجمعيّة نادي الشقيف في النبطيّة، ولرابطة المتقاعدين المدنيين. وشكرًا للأستاذ خليل سلامي، وللرفيق العزيز الدكتور رامي سلامي الذي اعتزّ كثيرًا بانضمامه قبل شهور إلى حملة المقاطعة، كما أفتخر بأدائه الباهر الذي يقدِّم قيمةً مضافةً إلى مجمل عمل الحملة ـ تحليلًا وكتابةً وتوثيقًا. كما يسعدني، بشكل خاصّ، أن أكون في هذه المدينة البطلة، ذاتِ التاريخ الناصع والطليعيّ في مقاومة العدوّ الصهيوني بكلّ الوسائل المتاحة والمجترحة.

حديثُنا اليوم بعيدٌ عن السجال الداخليّ المحموم. المفارقة أنّ حديثنا ذاتَه لو جرى قبل أسبوع فقط لكان في قلب السجال الداخليّ المحموم آنذاك! وهذه مفارقة مؤلمة لأنّها تبيّن أنّ قضيّة التطبيع مع “إسرائيل” هي، لدى البعض، موسميّة في أحسن الأحوال، إنْ لم نقل إنّها تخضع للتناتش والمزايدات بين أطراف الطبقة الحاكمة وممثِّليها في صفوف “النُّخَب”.

***

قد يعلم بعضُكم أنّ حملتنا تأسّستْ أثناء المجزرة التي ارتُكبتْ في مخيّم جنين ربيعَ العام 2002. فقد شعر عدد منّا، أساتذةً وطلّابًا وحزبيين بشكل خاصّ، أنّ البيانات والتظاهرات لم تعد كافيةً للتعبير عن رفض الاستباحة الصهيونيّة لفلسطين، شعبًا وقرَى ومدنًا ومدارسَ ومخيّمات. الأهمّ أنّ التعبير “التقليديّ” عن الرفض بات، في حدّ ذاته، موضعَ شكٍّ لدينا، لأنّه لن يؤدّي إلى أكثر من “فشّة خلق”، نعود بعدها إلى بيوتنا وقد أرضيْنا شيئًا من ضميرنا المعذَّب. وفكّرْنا: ما معنى أن نتظاهرَ ونصرخَ ونكتبَ البيانات ضدّ العدوّ، ثم نستلقيَ جانبًا ونستهلكَ منتوجاتٍ داعمةً لهذا العدوّ نفسه؟!

هكذا رحنا ننقّب في المخازن والدكاكين عن أبرز الشركات الداعمة لعدوّنا. وتخبّطنا كثيرًا في المراحل الأولى: بين مَن يقول بـ”مقاطعة البضائع الأميركيّة”، ومَن يقول بـ”مقاطعة البضائع الأميركيّة والأوروبيّة”، قبل أن نهتدي إلى شعار “مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل أيًّا كانت جنسيّتُها”. وما لبثنا أن أضفنا مبدئيْن حرصُا على سلاسة التنفيذ والبعدِ عن التعجيز: “قاطِعوا ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا،” و”قاطعوا الأسوأَ قبل السيّئ”. ثم عكفنا على وضع معايير تشرح أسبابَ مقاطعة هذه الشركة دون تلك، فحدّدناها بثمانية، أبرزُها:

1) بناءُ مصانع و”مراكز بحثٍ وتطوير” في أراضٍ “طُهّرتْ” من الفلسطينيين.

2) شراءُ شركاتٍ إسرائيليّة أو أسهمٍ فيها.

3) تقديمُ دعمٍ ماليٍّ مباشر إلى جمعيّات “خيريّة” وصهيونيّة.

4) الإسهامُ في الحرب الإسرائيليّة المباشرة على شعبنا وأمّتنا.

5) رعايةُ نشاطاتٍ أو معاهد فنيّة ورياضيّة وثقافيّة وتربويّة إسرائيليّة.

ثم أعددْنا دليلًا بأبرز هذه الشركات، ووثّقنا كيفيّةَ دعمها للعدوّ بحسب المعايير السابقة. ورحنا نجدّد هذا الدليلَ عبر سنواتنا الطويلة. إلى أن أصدرنا تطبيقًا هاتفيًّا بهذه الشركات قبل عام ونصف العام. غير أنّ شركة “آبل” امتنعتْ عن إنزاله. وأما “غوغل” فأزالته بعد السماح به بضعة أسابيع، وذلك بعد أن زعمت اشتمالَه على “خطاب كراهية” (hate speech). ثم عدنا ووفّرناه للجمهور بإجراءٍ بسيطٍ آخر.

***

في صيف العام 2005، أيْ بعد نشوء حملتنا اللبنانيّة بثلاث سنوات، نشأتْ حركةُ مقاطعةٍ عالميّة، اسمُها “حركة مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها” (BDS)، وذلك بناءً على نداءٍ صدر عن 170 هيئةً من هيئات المجتمع الأهليّ والسياسيّ الفلسطينيّ. فنسّقْنا مع هذه الحركة العالميّة بشكلٍ كبير، وخصوصًا على صعيد تبادل المعلومات المتعلّقة بالفنّانين والمثقّفين العالميين، وعلى صعيد إعلامهم بتاريخ الإجرام الصهيونيّ من أجل حثّهم على سحب مشاركتهم في نشاطات داخل “إسرائيل”.

مع السنوات تعاظمَ تأثيرُ حركة المقاطعة العالميّة إلى حدِّ أنها باتت تشكّل، بكلمات قادة العدوّ، خطرًا استراتيجيًّا عليها. فقد خسرتْ عشراتُ الشركات الضالعة في دعم الاحتلال والاستيطان (مثلًا: ألستوم وفيوليا) عقودًا مجزيةً في العالم. كما تراجع عشراتُ الفنّانين والمثقّفين والأكاديميين عن المشاركة في أيّ نشاطٍ داخل الكيان، الأمرُ الذي قوّض شيئًا مهمًّا من “سمعته الحضاريّة” ومن “شرعيّته الأخلاقيّة” التي بناها في عيون العالم بزعمِ كونِه “سليلَ ضحايا المحرقة النازيّة”.

تدريجيًّا رحنا نركّز في حملتنا اللبنانيّة على التطبيع الفنّيّ والثقافيّ في لبنان والعالم. فصرنا نلاحق ـ ما استطعنا ـ المهرجانات الفنيّة والأفلامَ في لبنان، فننكبّ على دراسة احتمال صلتها بدعم عدوّنا. فبالنسبة إلى المهرجانات الفنيّة، كمهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل، اعتمدنا معاييرَ الحملة العالميّة (BDS) نفسها، وهي معاييرُ سارت فيه هذه الأخيرةُ ـ بدورها ـ على منوال الحركة العالميّة لمقاطعة نظام الفصل العنصريّ (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا، ولاسيّما لجهة ضرورة مقاطعة أيّ فرقة تقدّم عروضًا في الكيان الصهيونيّ لأنّها بذلك تُسهم في التعمية على جرائم العدوّ تحت غطاء “الفنّ” و”انفصاله عن السياسة”. على أنّنا ميّزنا أيضًا بين مَن يكتفي بالعرض في الكيان، وبين مَن يضيف إلى ذلك تأييدًا واضحًا له: من قبيل دعمه اللفظيّ المباشر، أو مشاركته في مناسباته “الوطنيّة”، أو إهدائه معزوفاتٍ “عربونَ وفاءٍ وحبٍّ” له.

أمّا بالنسبة إلى الأفلام فقد ركّزنا على الأفلام التي ترد إلى لبنان وتتضمّن مُخرجًا إسرائيليًّا، أو ممثلًا إسرائيليًّا رئيسًا، أو منتِجًا منفِّذًا إسرائيليًّا، أو شخصًا من هؤلاء يدعم عدوَّنا بشكلٍ مباشر ولو لم يكن إسرائيليًّا. وقد نجحنا في الحَؤول، أو الإسهام في الحؤول، دون بعض هذه العروض الفنيّة أو السينمائيّة في لبنان، مثل عروض: الكوميديّ جاد المالح، والفنّانة هندي زهرة، والفنّانة لارا فابيان، وفرقة تريو وانديرير (بالتعاون مع حلفائنا في بعلبك)، وبعض أفلام الجنديّة الإسرائيليّة غال غادوت.

***

على أنّ مقاطعتنا لم تقتصر على الجانبين الاستهلاكيّ والفنّيّ، بل واجهْنا أيضًا أشكالًا أخرى تتّخذ من الرياضة أو الدين أو العلم ستارًا للتطبيع مع المجرم الإسرائيليّ. فحاربناها بقدر إمكاناتنا المتواضعة، واستطعنا أن نخلق “حالةً” لا بأسَ بها من الوعي رغم المعوِّقات الكثيرة. وهنا نأتي إلى القسم الأخير من كلمتي، وهو عن معوِّقات المقاطعة في لبنان، وأبرزُها:

ـ أوّلًا، تضعضعُ سرديّات التحرير الكبرى في المجتمع اللبنانيّ (وخارجه) لصالح بهارج العولمة والاستهلاك، ولصالح شعارات من قبيل “بدْنا نعيش”.

ـ ثانيًا، تراجعُ عمل المقاومة الفلسطينيّة بشكلٍ عامّ، بل خضوعُ أقسامٍ أساسيّةٍ منها لمنطق المفاوضات وأوهامِ السلطة، وضلوع قسمٍ آخر منها في “التنسيق الأمنيّ” مع العدوّ. وهذا دفع بفئاتٍ من مجتمعنا اللبنانيّ إلى تبرير الامتناع عن المقاطعة والسخرية من مناهضة التطبيع بالقول: “لن نكون ملكيّين أكثرَ من الملك!”

ـ ثالثًا، خضوعُ مؤسّسة جامعة الدول العربيّة لأوامر أنظمة النفط والغاز وإملاءاتها، على حساب مبادئها الأولى التي نصّت على المقاطعة بشكلٍ واضح، وطبّقتْها بدرجات متفاوتة من النجاح بين نهاية الأربعينيّات وبداية التسعينيّات من القرن المنصرم.

ـ رابعًا، تفاقمُ النزعات الليبراليّة المزعومة داخل المجتمع اللبنانيّ (وداخل غيره من المجتمعات)، وخصوصًا لناحية الاحتفاء بـ”وجهات النظر المتعدّدة” من أجل معرفة “الحقيقة”، وكأنّ احتلالَ فلسطين وجهةُ نظر تستلزم معرفةَ وجهات النظر الأخرى (الصهيونيّة مثلًا!). وهذه النزعات تُعْلي، كذلك، من شأن الفنّ والشخص والقطْر، على حساب القضيّة والمجموع والأمّة.

ـ خامسًا، عدمُ قيام الدولة اللبنانيّة بتفعيل “قانون مقاطعة إسرائيل” الصادر سنة 1955، ناهيكم بتعديله لكي يَلْحظ الجوانبَ المستجدّةَ من التطبيع الثقافيّ والفنّيّ، وأوجهَ التواصل الإلكترونيّ والنشريّ والتدريبيّ والرياضيّ مع العدوّ… علمًا أنّ القانون لم يُلغَ بعد، وهو ينصّ حرفيًّا على الآتي: “يحظَّر على كلّ شخصٍ، طبيعيٍّ أو معنويّ، أن يَعْقدَ، بالذات أو بالواسطة، اتّفاقًا مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ، مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيّتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوعُ الاتفاق صفقاتٍ تجاريّةً أو عمليّاتٍ ماليّةً أو أيَّ تعاملٍ آخرَ مهما كانت طبيعتُه”.

ـ سادسًا، تقاعسُ عدد كبير من الإعلاميين اللبنانيّين عن أداء دورهم التوجيهيّ، لا بل استخفافُهم أحيانًا بالمقاطعة بحجّة أنها تنتمي إلى عهود “الاستبداد والظلام”، أو بذريعة استحالة استقصاء كلّ الخروق المعادية.

ـ سابعًا، اقتصارُ النظام التعليميّ اللبنانيّ، عامّةً، على التدريس بهدف النجاح في المدرسة ونيلِ الشهادات لا غير، وابتعادُه ـ بشكلٍ واضحٍ ومتعمّد ـ عن تدريس القضيّة الفلسطينيّة والعقيدة الصهيونيّة وتاريح الصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ. وهكذا بتنا أمام أجيالٍ “صاعدةٍ” عمريًّا، ولكنّها “هابطةٌ” من حيث المعرفة بعدوّها.

ـ ثامنًا، تضعضعُ الأحزاب الوطنيّة والقوميّة والتقدميّة عمومًا، وتراجعُ المستوى التثقيفيّ فيها، ولاسيّما في ما يخصّ المسألة الفلسطينيّة (بالمناسبة: كم حزبًا لبنانيًّا يَفرض على قواعده قراءةَ روايات غسان كنفاني؟).

ـ تاسعًا، غرقُ “النُّخَب” المثقّفة في همومها اليوميّة أو الذاتيّة، بل تحوّلُ بعضهم إلى خدمة الطوائف والسلطات، بدلًا من ممارسة دورٍ أساسٍ في عمليّة التحرير الوطنيّ والقوميّ والاجتماعيّ. والأهمّ أنّ بعض هذه النخب راح يروِّج كذبةً تقول إنّ مقاطعة إسرائيل ضدّ الحريّة وضدّ الفنّ وضدّ الثقافة وضدّ التطوّر العلميّ.

ـ عاشرًا، تحوّلُ قسم من الشباب الجامعيّ المتخرّج والكُفْؤ إلى المنظّمات غير الحكوميّة (NGOs)، التي تخلو أجنداتُها من فكرة تحرير فلسطين والقضاءِ على الصهيونيّة.

***

شكرًا لاستماعكم وأهلًا بالنقاش الذي آمل أن يكون مفيدًا لي ولكم.

(النبطية، جنوب لبنان، 30 كانون الثاني 2018)

 

Zdjęcie użytkownika Samah Idriss.