ثقافة وفن

صورة نقش “بيرغ 1860” في معبد باخوس – عماد الدين رائف

نيقولاي فاسيليفيتش بيرغ (1823-1884)، شاعر ومترجم وصحافي ومؤرّخ روسي، كتب عدداً من المقالات فيها انطباعات غزيرة ومشاهدات عديدة. ويظهر منها أنّه أقام بين بيروت ودمشق لأكثر من سنتين، وكتب مقالاته تحت تأثير أحداث العام 1860، وتطرق في بعضها إلى المعارك الدامية وأسباب التناقضات، وهو يعيدها إلى الصراع بين البريطانيين والفرنسيين، الذين يؤججون الخصومات القبلية القديمة. ويرى أن الدول الأوروبية تعمّدت جعلها أكثر تعقيداً.

 يوم كانت أفلام الكاميرات الفوتوغرافيّة 36 صورة، صوّرتُ نقشاً بالأحرف السيريليّة أعلى الجدار الداخلي لمعبد باخوس في مدينة بعلبك اللبنانية، وفيه “بيرغ 1860”. كان النقش واضحاً محشوراً بين عشرات الأسماء المحفورة على صخر باخوس بالعربية واللاتينية. وعند تحميض الفيلم وتظهير الصور وطباعتها لم يظهر النقشُ جلياً، فقد كانت قاعدة تلك الأيام مع التصوير “أنت ونصيبك”. ثم مرّت السنوات، وشاءت الصدفة أن تتزامن زيارتي إلى مدينة الشمس مع ورشة للصيانة والترميم. كانت الورشة على أشدها وملأت الأعمدة المعدنيّة بهو الصرح وسدّت الطريق، ومُنع زائرو القلعة من الولوج إلى المعبد، فضاعت فرصة الوقوف على النقش من جديد. لكن بين الزمنين، كنت قد تعرّفت إلى بيرغ الذي عاش في بيروت ونقش اسمه في بعلبك، وقرأت جانباً من أعماله المكتوبة التي يصف فيها رحلته إلى لبنان وسوريا وفلسطين ومصر بين العامين 1860 و1862. ثم أتحفتني الزميلة شيرين الشمالي بصورة رقميّة للنقش أخيراً، لكن بعدما برتُه يد الترميم.

 نيقولاي بيرغ

 جدار معبد باخوس حيث في أعلاه نقش “بيرغ 1860”

من هو بيرغ؟ وما الذي أتى به إلى بلادنا؟

نيقولاي فاسيليفيتش بيرغ (1823-1884)، شاعر ومترجم وصحافي ومؤرّخ روسي، لديه عدد كبير من الكتب والمقالات والترجمات الشعريّة من اللغات السلافية والأوروبية والعربية. راسل عدداً من المجلات الروسية المعروفة ومنها “موسكفيتيانين” (المسكوبي)، و”سوفريمينّيك” (المُعاصر)، و”روسكي فيستنيك” (البشير الروسي).

بعد حرب القرم، التي دوّن يومياتها وأخرجها في كتابين: “حصار سيفاستوبل”، و”ألبوم سيفاستوبل” سنة 1858، تابع عمله في القوقاز، ثم جال في سوريا وفلسطين ومصر بين 1860 و1862، قبل أن يعمل مراسلاً لدى جريدة “فيدوموستي” في وارسو. ذلك وتصعب الإحاطة بكل ما كتبه بيرغ عن بلادنا، وقد حظيتُ بالاطلاع على بعض المذكّرات التي تركها، ودليل تفصيلي عن مدينة القدس، وستة أعداد من مجلة “سوفريمينّيك” (المُعاصِر) الشهرية بين العامين 1862 و1864، حيث نشر على صفحاتها سلسلة من المقالات والتحقيقات الصحافية تحدّث فيها عن بيروت، صيدا، صور، بعلبك، دمشق، جون، دير القمر، الأمير بشير الثاني، النبيلة الإنكليزية ليدي ستانهوب،… وعدد من الشخصيات الأوروبية والدبلوماسيين الروس.

وحملت تلك المقالات والتحقيقات عنواناً موحّداً هو “جولاتي في العالم”. وفي المقالات انطباعات غزيرة ومشاهدات عديدة. ويظهر منها أنّه أقام بين بيروت ودمشق لأكثر من سنتين، وكتب مقالاته تحت تأثير أحداث العام 1860، وتطرق في بعضها إلى المعارك الدامية وأسباب التناقضات، وهو يعيدها إلى الصراع بين البريطانيين والفرنسيين، الذين يؤججون الخصومات القبلية القديمة. ويرى أن الدول الأوروبية تعمّدت جعلها أكثر تعقيداً.  

وصول فؤاد باشا

 مشهد عام لمدينة بيروت سنة 1860

في أحد المقالات يصف بيرغ حال استقبال بيروت لفؤاد باشا، يقول: يوم الثلاثاء الواقع فيه السادس من أيار/ مايو 1862، عند الخامسة بعد انتصاف النهار، شهدنا وصول الأمير [محمد فؤاد باشا] إلى مدينة بيروت، وقد كان وافداً إليها من دمشق (الشام). تجمهر أهل المدينة كلها لاستقباله على طريق الشام، كما تجمّعوا في المقاهي وعلى جانبي الطريق، وفي الحدائق وعلى سطوح المنازل. هنا، كان بإمكانك مشاهدة كل نساء بيروت ذوات الأصول العربية على تنوّعهن، كنّ في أردية بيض (نحن اعتدنا أن نسمّيها شوادر) تسمّى إزارات (واحدها إزار)، جمعهنّ اللون الأبيض، وتنافرت ألوان أغطية رؤوسهنّ فوق الإزارات، وكنّ يثرن جلبة، ويثرثرن في ما بينهنّ عن الحدث المنتظر.

ولأنّ حدثاً كهذا يمكن أن يُحدث المعجزات، كانت جميع وجوه النساء مكشوفة تماماً، على عكس العادة. أما الرجال فكانوا يتحلقون في مجموعات، بعيداً عن النساء، يدخّنون النراجيل. هنا كان بإمكانك أن تشاهد جميع أهل المدينة، ومن غير الممكن أن تتحقق متى خرجوا من منازلهم، وتجمهروا على هذا الشكل فوق سطوح المنازل وعلى جانبي الطريق وفي المقاهي، فعندما وصلتُ كانوا على تلك الحال، أما أنا فلم أخرج من الفندق إلا في الساعة الثالثة بعدما وصلتني معلومة مؤكدة أنّ الأمير بات على مسافة ساعة واحدة من المدينة، وهو في محلّة الشيّاس [ربّما يقصد “الشيّاح”]… ولم يخل الأمر من هرج ومرج، فالضبّاط الأتراك كانوا متوجّسين من العرب المبتهجين، الذين حوّلوا استقبال الأمير إلى عيد، فقد كانوا يجوبون الطرق مبتهجين، فيما كان الضباط يرسلون الجنود إليهم بين الحين والآخر لزجرهم.
وبدا المشهد يشبه إلى حدّ بعيد تصرف رجال الجندرمة لدينا مع الحوذيين المتجمعين أمام المسارح قبيل انتهاء العروض.

بيروت عن قرب

 
غلاف مجلة “سوفريمينّيك” الصادرة في سان بطرسبورغ، عدد 1-2 سنة 1863.

وعن مشاهداته اليومية ومقارنته بيروت بباقي المدن السورية، يقول بيرغ: إخترتُ أن تكون بيروت مكان إقامتي الرئيس في الشرق، ففيها الكثير من الأوروبيين، حيث يمكنك الحصول على أي شيء ترغب فيه.

هنا، الكتب والمجلات والصحف على أنواعها متوفّرة، تحملها يومياً إلى بيروت السفن المختلفة، أما السفينة الروسيّة فتصل إلى بيروت مرّة واحدة كل أسبوعين. ويبدو أنّه لا توجد قيود رقابية على المطبوعات. أما في المدن الأخرى فالحال مختلفة، فهناك حتى أنهم لا يعرفون ما هو جواز السفر، ويعيشون اليوم كما كانت الحياة أيام يسوع المسيح، هناك يمكنك أن تسير بين الحشود أينما أردت بدون أيّ أوراق رسميّة.

هكذا هي الحال في الشام والقدس وفي الكثير من المدن الصغيرة في سوريا وفلسطين. هذه البلاد الشاسعة كانت قد اجتاحتها موجات عارمة من الاضطرابات الرهيبة وأعمال العنف الجماهيرية، ومن لطف الله أنك لم تكن – كأوروبي – أثناء تلك الأحداث هنا.

وفجأة، بعد تلك الأحداث، ها هي بيروت تنعم بحريّة غير اعتيادية، حيث اختفت كل المظاهر التي كانت سائدة (التي ساوتها في السابق مع المدن الأخرى)، فتتساءل:

كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ لكنّك لا تجد إجابات وافية على أسئلتك.

نعم، في المدن الأخرى لا وجود لجوازات سفر أو مطبوعات أو رجال شرطة أو محققين… أما هنا فالأمن مستتب، يمكنك أن تلحظ شرطيّاً واحداً في ساحة كبيرة، تعج بمئات بل بآلاف الناس منذ الصباح الباكر. لا مشاجرات ولا معارك، بل مجرّد صراخ يصمّ الآذان، وهذا عاديّ، فهذه هي الطريقة المألوفة للحوار بين أهل الشرق.

وقد شغلني خلال إقامتي في بيروت سؤال محدّد: أين ذهب فقراء المدينة؟ هل من المعقول ألا تجد متسوّلاً واحداً بين نحو 200 ألف نسمة؟ لم أجد حلاً لهذه المعضلة. أما في القدس، مثلاً، وبين مجموعات المصلين الأوروبيين (تشكل النساء الروسيَّات العدد الأكبر منهم)، تمتد إليهم أيدي المتسوّلين والشحّاذين، ومعظم المتسوّلين شبّان ذوو هندام حسن وبصحّة جيدة، ينوحون بالقرب من المصلّين بكلمة “بخشيش!” (أي أعطني أيّ شيء)، وفي بعض الأحيان يتألف المتسوّلون مجموعات كيفما تجوّلت في الشوارع وهم ينشدون كجوقة متجانسة “بخشيييش!”.

في بيروت، كذلك، إن أردت أن تبيت في فندق، فاعلم أنّه لا توجد مفاتيح للغرف، ولن تسمع هنا عن حادثة سرقة واحدة. ولا وجود للنقود الورقية بين أيدي الناس، فهم يتعاملون بالذهب والفضّة، وكل شيء رخيص، فمقابل قضاء يوم وليلة في أحد أفضل فنادق بيروت دفعت نحو سبعة أو ثمانية فرانكات، مقابل كل شيء: غرفة واسعة على الطابق الأول، سرير وأغطية وبياضات، خدمة الغرف وطعام الغداء، قهوة وشاي، وقنينة من النبيذ المحليّ الأبيض أو الأحمر، حسب الرغبة.

المصدر : الميادين نت

عماد الدين رائف

صحافي وكاتب لبناني

“بيرغ 1860” … قصة روسي عاش بيروت ونقش اسمه في بعلبك