عربي وعالمي

غزة…بين منجزات الدماء وشراك المفاوضات – عبداللطيف مهنا

غزة…بين منجزات الدماء وشراك المفاوضات  –  عبداللطيف مهنا

توقفت، إلى حين، رحى الحرب العدوانية على الفلسطينيين في غزة، لكنما صيحاتها ظلت تتردد، وقبل أن ينجلي غبار المعارك، انتهت هدنة ال72 ساعة، وتعثرت، حتى الآن، محاولات تجديدها. رفضته المقاومة الفلسطينية قبل أن يستجاب لمطالبها، وكم كان حصيفاً أن ظلت اصابعها لصيقةً بالزناد، وكم هو المحق ان تعود صواريخها لزيارة تجمعات عدوها. هاهم يريدون أن يأخذوا منها في مفاوضات القاهرة ما عجزوا عن أخذه في الشجاعية وخزاعة والقرارة. وإذ لازالت المفاوضات، أو حربهم الرديفة جارية، عادوا لإلقاء حممهم عليها…وفي كل الأحوال، وقبل توقف رحى حربهم وبعد  عودتها للدوران ، فهناك أمر واحد يمكن الجزم به، وهو أن هذه الأيقونة النضالية الإعجازية العنيدة، قد ظلت هى هى، العصية على الإنكسار، الآية في العطاء، الأسطورة في الصمود…وأن الدم الفلسطيني المقاوم فيها قد قاتل فيها وحده نيابةً عن كامل أمة وسال غزيراً ولم يستسلم ولن يستسلم. وإنه ليس ثمة من أحد من كل اولئك المتفرجين على آخر المشاهد في متوالى حلقات مسلسل الملاحم النضالية الفلسطينية المتواصلة، وكل منهم من موقعه، لن يشهد، راغباً أو كارهاً، بأن الإرادة الفدائية العزلاء المستفرد بها قد فلَّت جبروت آلة الموت الغربية الهائلة في عاتي نسختها الصهيونية الفاجرة…انتصرت غزة لأنها لم تهزم، وهزمت عدوها لأنه لم ينتصر عليها، ولم تتوقف هذه الحرب عليها لتعود، إلا لأن إنتصارها كان أول ما اسفرعنه بعض ما انجلى من غبار معاركها الذي ما انقشع إلا ليعد إلى التلبد…

فعلت القدرة الهمجية العدوانية مابوسعها فعله بغية قهرها وكسر ارادتها المقاومة دون جدوى. القى حقدهم المعتق عليها، ووفق مصادرهم، ستة آلاف طن من متفجراتهم، ولغ غلهم المتوحش في الدم الفلسطيني ودمروا ماستطاعوا تدميره، لكنهم لم يحققوا هدفاً واحداً من استهدافات حربهم الإستعمارية الفاجرة. لم “يحسموها” لصالحهم، ولم “يردعوا” مقاومة اذهل أداؤها في الميدان العدو والصديق وفاجأ حتى شعبها، ولم يحققوا طمأنينة لمستعمريهم في مغتصباتهم المحيطة، وهم الذين هجروها ويخشون العودة اليها…صدتهم غزة فانكفئوا عنها خشية استنزاف وتجنباً لاحتكاك مباشر باهظ الكلفة جربوه، واعترفوا بفشلهم، طوراً مواربةً وآخر بالقطارة، وغالباً حاولوا مكابرةً تغطيته …لم ينجحوا إلا في فظائع التقتيل باستهداف الأطفال والنساء والشيوخ، ولم يفلحوا إلا في افتنان ضروب التدمير الممنهج المجنون…ألم يفاخر أحد جنودهم بقتله لثلاثة عشر طفلاً فلسطينياً؟! أولم لم يستثنِ تدميرهم المدارس والمساجد والمشافي والجامعات وبيوت الآمنين بمن فيها وهدمها على رؤوسهم، ناهيك عن ما ازالوه من احياءً بكاملها.؟!

لكنهم ، ويشهد على هذا كل المتفرجين على محرقتهم في غزة وملحمة صمودها البطولي، اقليميين ودوليين، قد فشلوا…وقضت غزة، ناطقةً بحكمها المبرم، مستندةً الى ادلة مانجزه دمها المقاوم، معطوفاً على نتائج  ماسبق من حروبهم الفاشلة على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ومنذ العام الفين، بأنه لا من انتصار لهذا الجيش الصهيوني على مقاومة بعد اليوم… فماهو أهم ما انجزه الدم الفلسطيني المقاوم في غزة؟

إن اهم منجز في هذه الجولة من صراع لن ينته مادام هذا الكيان الغاصب قائماً، هو إعادة الدم الفلسطيني المنتصر الاعتبار لقضية أمة كادت، قبل سواها، أن تنساها، وبعثه لشحنة من عنفوان انعشت حلم التحرير في مرحلة انحدار يجهد للانفلات منها، وإذ اعلت من شأن ثقافة المقاومة، عززت منطق الممانعة وانعشت كوامن روح المواجهة لدى أمة مقهورة مغيَّبة  كم نزفت كرامتها وانثلم كبرياؤها وانتُهك وجدانها… تصوَّروا، لوكان لغزة من ظهير عربي كم ستختلف المسألة، أو كم هو الأكثر الأكثر مما كانت سوف تحققه؟! هذا الذي يصعب على الإنهزاميين والمتواطئين على دمها تصوُّره…ومعهم كل هؤلاء المتباكين لاحقاً، على ضحاياها، أوالمدبجي متأخراً اسفاراً من الشجب والإدانة لغزاتها، بعد أن صمتوا صمت القبور طيلة شهر من المحرقة التي واجهتها، فكانوا موضوعياً المشاركين في سفك الدم الذي يتباكون ألآن عليه… غزة ليست في حاجة لمن يلعق جراحها وإنما لمن يساعدها على تضميدها…

والآن، وقد ربحت غزة جولة بما انجزته وما لم يربحه عدوها، فإن أول الخاسرين هم جبهة اعدائها، امريكان وغربهم وعربهم، وعليه، كان انتقال رحى الحرب من ميادينها الغزية العسكرية إلى حيث نسختها السياسية الدائرة الآن رحاها، والتي يحتشد في ساحها كل هؤلاء بغية انتزاع ما أمكن مما فشل الصهاينة في تحقيقه في تلك الميادين، وافراغ ما انجزته التضحيات الفلسطينية من مضامينه، عبر ما ينصبونه من شراك في حقول المفاوضات حول مطالب الحد الأدنى التي اجمع الفلسطينيون عليها وحملوها معهم الى القاهرة، والتي لم تكن الأكثر من وقف للعدوان، ورفع للحصار، واعادة للإعمار، واطلاق الأسرى والمعتقلين، لاسيما وإن رعاة ومتعهدي هذه المفاوضات هم هم، أي ذات رعاة ومتعهدي تلك التنازلية البائسة التي عرفت كارثيتها الساحة لعقدين خليا، ولم يتغيروا…وهنا نلفت إلى دعوة كيري إلى إحياء سالفتها المتوقفة، و”اغتنام وقف اطلاق النار والمحادثات المقررة في القاهرة للبحث في حل الدولتين”!!!

…وعليه، فالملِّح فلسطينياً الآن هو عدم السماح بأن تتحول عملية رفع الحصار واعادة الإعمار إلى احبولة لتصفية القضية بالتحايل لتصفية المقاومة، وكسر ارادة المواجة التي اجبرت أعداء غزة على قبول مبدأ رفعه. وإذ ما بعد ملحمة غزة بات الآن المختلف عما هو قبلها، فاقله، وجوب الإرتقاء إلى مستوى ما بُذلت فيها من تضحيات، والأقل منه، هو عدم القبول بأقل مما حمله الوفد الفلسطيني معه إلى القاهرة من المطالب…

اترك تعليقاً