الأخبارالأرشيف

غزة: في استانبول بايعوا ترامب – د. عادل سمارة


فلتكن أمثولة إ.أ.ع.إس على الأقل

مررنا حتى 15 أيار الجاري بحلقة من النضال الشعبي السلمي بالمطلق ورد العدو بالحقد والنار المطلقين وهو محق تماما لأنه ليس جاراً. فهو  يفهم قانون التناقض بيننا وبينه على أنه تناحري. هذا جدل الحياة مع الغاصب. لذا، لا معنى لوصفه بالعنصري واليمين المتطرف والتوسعي. كل هذا كلام، لغة خفيفة مفرغة مثل “بطاطا الشيبس”  مَضَرّة تامة لكن تسلية خادعة، ذلك لأن العدو نقيض مطلق.

كان لا باس بوصف هذا النظام المفروض على العرب أو ذاك بالخائن والمتواطىء والقُطري والطائفي والتابع. لكن انتفاضة غزة بشكل خاص، وسلميتها بشكل أخص أوصلتنا جميعا، ما لم نكن تافهين وبعقول خداجا، إلى أن هذه الأنظمة وأولئك المثقفين ورجال  وأهل الفتاوى  من الدين السياسي هم أعداء بل الأعداء. يجب أن  نأخذهم هكذا، لأنهم أخذوا الوطن إلى هناك. إنه الطلاق الواعي بين الشعبي والرسمي بمختلف تمفصلاته وبدونه لا خطوة واحدة إلى الأمام. 

ولكن، ألا يجب ان نتدارك الأمر ونؤكد أن هذه الأنظمة التي شاركت في مذابح ضد العراق وليبيا وسوريا واليمن ولم ولن تتوقف هي العدو الحقيقي من داخل الوطن؟

ما جرى في غزة، وكان مؤلماً ومكلفاً ولنا تحفظ على قرار دفع الثمن بهذا القدر العالي. ولكن، إذا كان المقصود به إحراج العالم الرسمي والشعبي، فها قد وصلتنا رسالة العالم التي لا تجيد البكاء، فما بالك بالإسناد. لنقل فهمنا رسالة العالم. وأبلغها رسالة مؤتمر استانبول.

وربما كانت النتيجة الأهم من هذا الحدث أن شعبنا قد قطع إحدى أهم الطرق الاستسلامية الخبيثة التي طالما أهلكت حواسنا وعقلنا بالانحصار في “المقاومة السلمية”. فقد كان شعبنا سلمياً بالمطلق وكان العدو دمويا بالمطلق. وعليه، فإن الحدث قد نجح في تجليس المقاومة السلمية في موقعها الصحيح. وهذا شديد الأهمية كي لا يستمر البعض في خصي الوعي الجمعي المقاوم مقاومة حقيقية ، متنوعة نعم، ولكن تاجها الكفاح المسلح، وليس المهم متى.

قد ينهض عقل حاد وحَدِّي وجارح ليقول: ها قد أغلقت علينا الأبواب فما المخرج، أو ما العمل.

مخطىء من يعتقد أن بوسعه صياغة خطة عمل لشعب، بل لأمة. ولكن مخطىء أكثر بل ومقصِّر  من لا يضع معالماً ما ولو كاجتهاد. 

وصل الوقت للقول بوضوح بأن حربنا هي مع النظام الرأسمالي العالمي، وبان الكيان الصهيوني الذي يُروِّعه  أُناسٌ عُزَّلاً هو نمر من ورق، وبأنه يتصرف كاللص الذي كي يخفي جريمته يقتل كل من رآه. تناقضنا التناحري ليس مع الكيان فقط. فقد كشفت الأحداث لكي ذي بصر وبصيرة  أن تناقضنا تناحري مع الثورة المضادة وبنفس النسبة (الثلاثي الإمبريالي، الصهيونية ومعظم الأنظمة العربية). لقد اتضح اصطفاف هؤلاء جميعا معاً. وليس من باب التعقيد القول، إننا في حرب مع رأس المال سواء المركزي أو التابع.

لذا، على العقول الخداج أن تسحب السيولة التي تختلط بدماغها وتدرك،  بأن الصراع ليس بسبب الله. وليس بسبب الأديان السماوية ولا حتى الأرضية. الصراع هو جشع راس المال لاستغلال كل نقطة دم في جسد عامل أو فلاح مُنتج. الصراع مع الأنظمة العربية كامن في انتمائها لصانعيها الخارجيين، وفي تجويف وعي الطبقات الشعبية لتسهيل تجريف الثروة. تجويف عبر إعلام وخطاب ثلاثي من الثورة المضادة، وتجريف ثلاثي ايضا، ولكن التوزيع مختلف. فحصة أنظمة التبعية بما هي عدو للأمة، ضئيلة مقابل حصة السادة، ومع ذلك يعود الرئيس الأمريكي ليأخذ ما ابقته بأيدي هذه الأنظمة الشركات التي تحكم العالم. والشركات ليست معاهد فلسفة وفكر وأخلاق  ولا مساجد ولا كنائسا ولا كُنُسا، إنها بنادق قتل وبواليع جهد.

وإذا كان من فائدة للإغارة الوحشية للرئيس الأمريكي على العالم اليوم، فهي أنه يفغر فاه ويُطيل أنيابه لنهب او قتل كل من تبقى في جيبه درهماً. لعله أدق من يشرح عصر الشركات.(انظر سؤال حامض رقم  1392)
إذن نحن أمام عالم رأس المال المتفق على عقيدة الربح والمختلف على تقاسم تجلياته الثلاثة: المنهوب تقشيطا والمسلوخ بالقيمة الزائدة أو بالتبادل اللامكتافىء.

أما وهذه التحديات ماثلة هكذا، فهل هي نفسها تتضمن الإجابة على ما العمل؟ بمعنى أنها هي مقتل الشعب والحائل دون حراكه؟ فليس ممكنا مواجهة هذا بشارع مفكك تماماً. شارع تم استلاب وعيه لذاته سواء بالإفقار أو بالشحن التكفيري أو بالتجمد أمام الشاشات أو طبعا إن لم تنفع هذه فبالقتل. شارع تخلينا عنه فتخلى عنا لنقيضنا.

قد يكون مدخلنا إلى ما العمل عبر محورين من المقاومة:

المقاومة الشخصية/الذاتية. مقاومة الذات. وهي تشغيل القوة السالبة لكنها هائلة. فكل شخص هو/هي قادر على ضبط ذاته بحيث يرد على الأعداء بمقاطعة منتجاتهم. أن يرد على الوحش الاستهلاكي برفض منتجات الأعداء، فما الذي يتبقى لرأس المال إذا لم تقدم له التمويل!

إذا كنت على قناعة بأن الأعداء يدمرون اوطاننا وشعبنا من أجل المال، فلماذا تقدمه لهم؟

سيقول البعض، إن هذا مدخل تربوي مدرسي، استذة…الخ. إنه مدخل طويل النفس والأمد. نعم تماماً. فمن الذي بوسعه إنكار أن الحرب مديدة وبان كنس قرن من الخراب هو أمر ممكن في بضع سنوات! كيف لا ونحن لم نتخلص اصلا من اربعة قرون عثمانية أهلكت التراب ولا يزال بيننا من يدعو للسلطان عبد الحميد.

وعلى الصعيد الجمعي، هناك محور المقاومة في مستواه الجماعي القتالي الذي يتصدى للثورة المضادة في معارك قاسية ولكن لا بديل عن المواجهة. ولن يحقق محور المقاومة الجمعية نتائج تصمد على الأرض إذا لم يكن الشعب قد انتظم في حرب الشعب طويلة الأمد. المقاومة الشعبية والتنمية بالحماية الشعبية والمقاطعة الشعبية والرفض الشعبي للتطبيع وهذه قرارات بين المرء أو الجماعة ونفسها.
لا بد من فكر يقوم على تجاوز الاستهلاكية، وتخطي التبعية لفكر العدو وخطابه.

وفي سيرورة كهذه ندخل مرحلة ما بعد المقاطعة ورفض التطبيع، أي الانتقال إلى درجة من الهجوم الشعبي بعبورنا إلى  مرحلة تفكيك مفاصل الدولة/السلطة القطرية. إرهاق مخابراتها وأمنها وشرطتها . وهذا أول الرد على الحرب الأهلية التي تقوم بها هذه الأنظمة ضد الشعب.

ومن أهم ما يجب تفكيكه هو خطاب الدين السياسي الذي قام عليه “الربيع العربي”. هذا الخطاب كان التجلي الأعلى لتجويف الوعي للتغطية على تجريف الثروة إما:

·       لتدمير الجمهوريات

·       و/أو لتمويل الإمبريالية في أزمتها الجارية.

 لقد أثبتت الحروب على الجمهوريات بأن قوى وأنظمة الدين السياسي هي الأداة المتقدمة للثورة المضادة كالكيان الصهيوني  تماماً، وأمام انكشافها هكذا، اصبح تفكيك خطابها وأنظمتها أمر يجب السير فيه حيث الجاهزية الجماهيرية لفهم معركتنا هذه، هي جاهزية جيدة يجب ان لا تضيع أي ان لا نضيعها.

ورغم فداحة التضحية في تجربة قطاع غزة ضد الكيان الصهيوني وصفقة القرن ونقل سفارة العدو إلى القدس، فإن استسلام الأنظمة العربية والإسلامية وتخاذلها إلى حد الجبن عن استدعاء سفير تؤكد أن هذه الأنظمة لا هي إسلامية ولا عروبية ولا وطنية، بل هي دُمى تعيش على حماية المركز الإمبريالي لها لكنها وحشية بالمطلق ضد الشعب، فينطبق عليها القول :

“أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ….ربداء تُجفل من صفير الصافرِ”

يكفي المرء أن يستمع لثرثترهم في مؤتمر استابول ليتذكر ويقارن بين تبجحهم داخل بلدانهم وتسليط جلاوزتهم على الشعب، ونهب ثرواته والغرق في الفساد، والإنفاق على أجهزة الأمن الدموية. خطابات وضخ كلام مهلهل المضمون، مفكك الأحرف لأن الحقيقة صادمة والتحدي أعلى من قامات التابعين. في هؤلاء يصح قول لينين: “يدور حول الحقيقة كما يدور القط حول صحن من المرق الساخن”.

يفتح هذا الموضع على دور مثقفي الطابور السادس الذين تخصصوا في تزويق وتلميع خطابات ومواقف هؤلاء، سواء تلميع بالدين أو بالواقعية أو بالدبلوماسية أو بالهروب إلى الأمام.

وهنا نصل مسألة مركزية، وهي إن على المثقف المشتبك أن لا يسقط في كارثة سقوط القوى القومية والشيوعية بعد هزيمة 1967 حيث اخلى الساحة للخطاب الغيبي والتابع والمهزوم واليائس. اي يجب التصدي لهؤلاء بقوة واقتدار. ومهما كانت لهم من أجهزة وآلات الإعلام، فإن قوة الموقف أقوى، وإن كان الموقف اصعب.

لقد كان سقف رجال استانبول متطابق مع بل ومنطبق على سقف رجال التسوية والتصفية. فلم يكن غريباً أن احدهم قال قولا “جميلا” عن جميع خطابات هؤلاء. فالاستسلام تطريب للاستسلام!

وبعيدا عن خطباتهم المطولة حيث يعتقدون ان كثرة الكلام تغطي على هشاشة المعنى والموقف، فإن مؤتمر استانبول هو مبايعة لترامب على كل من نقل السفارة وصفقة القرن. ولا أدل على ذلك من أن كل العالم العربي والإسلامي يطالب الأمم المتحدة بحماية غزة .

واضح إذن. الشعب يضحي من أجل العودة وحكام مليار ونصف يبيعون الوطن والعودة وينحط موقفهم لطلب شرطة دولية تكون عبئا وكرباجاً على غزة والضفة الغربية ليصبح الاحتلال معولماً.

ورغم ان خديوي مصر لم يحضر المؤتمر فقد كان اوضحهم حين قال :”دي قدرتنا” أي فتح المعابر من غزة إلى مصر في رمضان فقط. طيب الله النفاس.

كلنا مطالب رغم الدماء بتفكير عميق ومتزن. وهذا يعني ان نُتابع إيقاع الجريمة وفي الوقت نفسه أن نفكر وكأن كل شيء هادىء. هكذا فقط يمكن إبصار الحقيقة وتبصير الآخرين. وبغير هذا لا يمكن أخذ العبرة والبدء كما يقول المثل “على نظاف”.

أكدت غزة أنه حين  يهب الشعب ويقاتل ويُواجه العدو بل الأعداء، يصمت أعداؤه الذين ينتشرون تحت جلده وفوق كتفيه. حين يتكلم الشعب من الذي يصمت؟ ومن الذي يكذب؟وبالمقابل من الذي يضع يده على الزناد؟

وبكلمة: نصبت قطاع غزة منارة للتحدي، ونصبت استانبول بيت عزاء لنفسها.

وهذا يؤكد مجداً أنها حرب طويلة الأمد لأن الثورة المضادة تكمن فوق وتحت سطح الوطن.

أما أمثولة إ.أ.ع س، فهي باختصار موقف شاب عمل اخوه جاسوسا للاحتلال فوراً، وجرى أن قامت مجموعة بقرار قتله فقتله قناص في وضح النهار.وحين التحقيق كان أخوه يجلس في طرف غرفة واسعة مقابل المتهمين، وكان يغافل المحقق ويشير للشباب بقبضة يده أن “شدوا حالكم” . بعدها سافر للخارج ولم يعد. فعلى الأقل لو يخرس هؤلاء الحكام وأدواتهم إن لم يرحلوا مع فارق التشبيه بين رحيل الفتى المشرِّف ورحيلهم المخزي.