الأرشيفثقافة وفن

فيلمي الأصدقاء الطيبون والمتوحشون – مهند النابلسي

فيلمي الأصدقاء الطيبون(1) لمارتين سكورسيزي

والمتوحشون لاوليفر ستون: اجرام بلا حدود! 

 

من أراد أن يفهم سياسات النظام العالمي الجديد، الذي تهيمن فيه امريكا (والغرب عموما) على العالم بشرقه وغربه، عليه ان يشاهد فيلمين نموذجين لكافة أنواع الاجرام وممارسات العصابات المتوحشة، ولنبدأ بفيلم “الأصدقاء الطيبون” لمارتين سكوسيزي، فبعيدا عن التزويقات السينمائية ل”ماريو بوزو”، والتي أبرزها عبقري السينما كوبولا بمنتهى المهارة والرومانسية في تحفته الخالدة “العراب” باجزائه الثلاثة، نشاهد في شريط “الأصدقاء الطيبون” مشاهد واقعية للقتل بلا سبب او لأسخف الأسباب، وبسادية غريبة مقززة، حيث يسرح ثلاثة من أشرار المافيا، ويمارسون السرقة والمتاجرة بالمخدرات والقتل اليومي ببرودة أعصاب رهيبة، حيث لا نجد الا ظلا خفيفا للشرطة ورجال الأمن “حماة المجتمع في فردوس العالم الجديد”!”

 

لا يكتفي مارتن سكوسيزي باخراج فيلم عصابات مرعب يستند لقصة حقيقية لممارسات احدى عصابات المافيا، ودون تزييف وتجميل وبواقعية شبه تسجيلية، لكنه يدين بطريقة مجازية بارعة المجتمع الذي يتشدق بالحضارة والانسانية وحقوق الانسان، فأي مجتمع يسمح باطلاق يد “القتلة والمجرمين والزعران والبلطجية” الى هذا الحد الذي يبعث على الاشمئزاز والتقزز، وبلا الحد الأدنى للرقابة الأمنية، حيث نرى الجثث مبعثرة في كل مكان…

يلخص الفيلم المنتج في العام 1990 والذي يتناول القصة الحقيقية لاحدى عصابات الجريمة المنظمة منذ نشأتها وحتى القضاء عليها، حيث يقوم تومي بمساعدة جيمي بقتل بيلي باتس (فرانك فنسنت)البدين بوحشية بسبب اهانته له “لكونه كان صبي تلميع أحذبة في بداية شبابه”، ويسعى القتلة الثلاثة جيمي وهنري وتومي ببرود للتغطية على عملية القتل، وينقلون الجثة بصندوق سيارة هنري، وحيث يجبروا بعد ستة أشهر لاخراج الجثة المتحللة واعادة دفنها في مكان جديد! وفي السجن يقوم هنري ببيع المخدرات لاعالة اسرته، وبعد اطلاق صراحه، يشترك ثانية مع تومي وجيمي وآخرين بالسطو المسلح على طائرة لوفتهانزا،ويتم قتل جيمي والمشاركين الآخرين لعدم التزامهم بأوامر “عدم الاقدام” على شراء أشياء باهظة السعر لكي لا ينكشف أمر السرقة للمباحث الجنائية، ثم يتحول هنري بحلول العام 1980 لحطام عصبي وانسان محبط بسبب ادمان الكوكايين والأرق المزمن، ويحاول جاهدا تنظيم صفقة مخدرات جديدة في بيتسبيرع، ويكتفي بالحصول على مبلغ زهيد قبل أن ينهي علاقته مع المافيا، ليشارك طوعا ببرنامج حماية الشهود شاعرا بغبائه وأنانيته وعبثية حياته! طلب سكوسيزي من الممثلين الثلاثة قراءة مذكرات القتلة والانغماس بنمط حياتهم اليومي وطريقة كلامهم، وأصر على رفع سقف الارتجال والتلقائية لتحقيق درجة عالية من الواقعية والاقناع، وقام لاحقا بمونتاج ذكي لابقاء روح الاداء الأصلي، مما ساعد على نجاح الفيلم وتحقيق شعبية كاسحة، وتم ترشيحه لستة جوائز اوسكار حصل منها على جائزة احسن ممثل مساعد ذهبت لجو بيشي (باداء استثنائي لدور تومي ديفيتو)، ومثل الأدوار الاخرى كل من روبرت دي نيرو (بدور جيمي كونويه) وراي ليوتا(بدور هنري هيل).)

 

الفيلم الذي يضاهي فيلم العراب الشهير يتعرض بالتفصيل لقصة حياة زعماء العصابات واسلوبهم وكيفية تحقيقهم لأهدافهم، يستند لرواية شبه-واقعية كتبها نيكولاس بيلييجي بعنوان ” الرجال الحكماء” وهي تتعرض بالتفصيل للشقي وعميل الأف بي آي المتخفي هنري هيل، ويتناول بالتفصيل قصة صعوده وافول نجمه، حيث يصل قي بداية حياته لحظوة كبيرة في بروكلين حتى يكاد يصبح عرابا، ويبدأ كبلطجي متسكع يسيطر على زعران الحي حتى يتمكن من كسب ود وحظوة الزعيم باول سيسيرو (باول سورفينو)، ثم يدخل راي ليونا عالم الجرائم الصغيرة، ويميز نفسه كبطل مضحيا باختياره عقوبة السجن وحيث يتم تجنيدة حينئذ ليصبح مخبرا مندسا، وبعد خروجه ينال ثقة وحظوة كبيرة ويتعلم مهارات الاجرام من معلمه جيمي (روبرت دي نيرو)، ثم يجد نفسه هدفا للعصابات والمحققين على حد سواء نظرا لاسلوبه الفظ والمتهور المبالغ به، والغريب أن الكاتب يعزو سبب تسمية ” الحكماء لكون المجرمين استطاعوا بدهاء اسكات الجميع بتوزيع “الرشى” على الجميع.

 

المتوحشون/2: فكرة التلاعب بالقدر وتناقض النهايتين!

 

الصديقان الحميمان كوهن وبن (قام بالأدوار تايلور كيتش وآرون جونسون) يتقاسمان حب فتاة واحدة “اوفيليا” (بلاك ليفلي)، ويعملان كمزارعي ومنتجي نوع فاخر من الماريغوانا المهجنة، مما حولهما لأثرياء، وجذب الكارتل المكسيكي الاجرامي للرغبة بالعمل معهما غصبا، وحيث تقود ايلينا (سلمى الحايك)هذه العصابة المكسيكية بتجبر وانفراد وباسلوب كاريزمي فريد وخاصة انها امرأة، ويساعدها مجرم وحشي لا يرحم باداء المهمات واسمه لادو (قام بالدور ببراعة فائقة الممثل بينشو ديل تورو)، مما اجبرهما للجؤ لدينيس ضابط الشرطة الفاسد (قام بالدور جون ترافولتا )لانقاذهما من هذه الورطة، وبالرغم من تنسيب دينيس بالموافقة الا انهما يماطلان ويرفضان العمل مما يؤدي لاختطاف حبيبتهما الجميلة اوفيليا وتظهر على السكايب تستجدي مساعدتها وتنفيذ اوامر ايلينا بالموافقة على التعاون مع العصابة، عندئذ يقومان كرد فعل غير متوقع بمهاجمة شاحنة المنظمة وايقاعها بكمين محكم أدى لمصرع سبعة من رجال ايلينا، ويتم بمهارة وبمساعدة الضابط دينيس وخبير معلومات وبواسطة تزوير أدلة مقنعة الصاق التهمة بأحد رجال ايلينا واسمه بيشير، وتصل الأدلة للمجرم لادو الذي يعذب الرجل بضراوة قبل ان يقدم على احراقه حيا….ويستمر الشابان بخطتهما فيختطفان ابنة ايلينا الشابة التي ليست على وفاق مع امها وفي حالة قطيعة معها، ويرسلون صورتها وهي معتقلة بواسط سكايب لامها، مقترحين مقايضة الفتاتين في منطقة صحراوية نائية وبالتنسيق الخفي مع دينيس، وبالفعل تتم الصفقة وتخضع النهاية لمسارين متناقضين: الأول “درامي مأساوي ودراماتيكي” ويقتل فيه جميع الأبطال تقريبا، اما الثاني فتوفيقي ومنطقي، حيث يتم تبادل الفتاتين بالحد الأدنى من الخسائر مع تدخل دينيس (وكيل مكافحة المخدرات) في اللحظات الأخيرة بالقبض على ايلينا وهروب الخائن الواشي لادو ناجيا بنفسه… وحيث يذهب الثلاثة للعيش بسعادة والاقامة في احدى الجزر الأندونيسية الخلابة! هذا الفيلم لم يعجب الكثير من النقاد ولكني وجدت فكرة النهايتين جذابة ومثيرة للاهتمام، وخاصة ان كانت القصة بالأساس تستند لرواية، فالقدر والتفاصيل وسؤ التصرف باللحظة المناسبة هي التي تقود أحيانا لنهايات غير متوقعة ومأساوية من الناحية الفلسفية، وكل النهايات ترتبط بطريقة تصرفنا الدقيق كبشر في اللحظات الحاسمة. كذلك تعرض اداء البطلين الرئيسيين “كيتش وجونسون” للنقد لسؤ وسذاجة اسلوبهما ولكثرة تنميق الكلام والانغماس الذاتي ولثقتهما غير المبررة بنفسيهما، وخاصة بطريقة مواجهة العصابة المكسيكية الضارية، بالرغم من كونهما مسالمين ويعتنقان البوذية، حيث بن شخص مثالي مختص بالزراعة ويريد مستقبلا تزويد الفقراء حول العالم بتجهيزات تنقية المياه، فيما الآخر كوهن جندي سابق في أفغانستان، وقد عملا سابقا في البحرية ثم كمرتزقة! بالمقابل فقد قدم الفيلم (المنتج في العام 2012) تفاصيل مدهشة لكيفية استخدام “تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات” في أعمال العصابات الاجرامية، كما تناول مفهوم “التوحش” من جانبين أحدهما اجرامي كريه والآخر بمعنى ” البساطة والفطرة والعودة لأجواء الطبيعة الساحرة”، وذلك عندما حدثتنا الفتاة الجميلة (بعد نجاتها في نهاية الشريط) عن هرب الثلاثة للاقامة في جزيرة اندونيسية خلابة والاستمتاع بأجوائها بعيدا عن منغصات الحياة المدنية وعن تهديد العصابات…

 

كان يمكن لمخرج مخضرم مميز كاوليفر ستون ان يقدم عملا لافتا كأعماله السابقة وأهمها فيلميه الشهيرين “الوول ستريت والمال لا ينام أبدا”، وان يقدم مزيجا فريدا من “بالب فيكشن والمرور لستيفن سودربيرغ”، ولكنه انغمس ربما بتفاصيل الرواية ونمطية الشخصيات وفقد بصمته المستقلة كمخرج بارع متخصص في الوثائقية-الواقعية المدهشة، هكذا أغرقنا أحيانا بالملل والتكرار وبسرد متدفق يفتقد للطرافة والاثارة، ولكنه نجح في اعتقادي باظهار لقطات مشهدية بارعة للممارسات الوحشية والقتل، واتحفنا بمناظر خلابة، وأطلعنا ربما لأول مرة على تفاصيل وآلية عمل العصابات الميكانيكية، التي تؤكد سمعتها الوحشية وافتقادها لأي لمسة انسانية!

 

مهند النابلسي/كاتب ومحلل سينمائي انطباعي