الأرشيفثقافة وفن

 قراءة فـي رواية “العوسـج” – أحمد مصلح   

 المثقف العضوي المشتبك.. والأرض التي تحلب نفطاً وتبصق دماً!

قراءة فـي رواية “العوسـج”.  – أحمد مصلح  

و”العوسج” هذه رواية للشاعر والفنان التشكيلي العربي الفلسطيني عبد اللطيف مهنا صدرت العام الماضي .2020. وبدايةً، لا شك أن هذه الرواية تشكَّل مساهمة نوعية مهمة في أدب السجون، فهي مساهمة مبكَّرة في هذا الأدب، إذ على الرغم من أنها صدرت حديثاً إلا أنَّ أحداثها تخبرنا إن نكسة حزيران 1967 وقعت بينما كان الكاتب يقبع في السجن، وفي تلك المرحلة لم يكن أدب السجون قد ظهر في الأدب العربي، أو أنه ما كان معروفاً على نطاق واسع لدى القُرَّاء العرب. بيد أن “العوسج” سردية غنية تعدَّت عوالمها هذا الأدب، فأتاحت بحق لمتلقيها خيارات مقاربتها من زوايا أخرى اتسعت وتعددت تعددية كاتبها الإبداعية المعروفة، وأنا هنا في قراءتي لها اقتصرت في مقاربتها للزوايا التي تهمني، أو ما أرى أنها قد تفردت به.

“العوسج” رواية لا محايدة، أو أن عبد اللطيف مهنا هو اللامحايد، وقد عبَّر عن موقفه هذا بكل جلاءٍ في أحداث روايته منذ البداية حتى النهاية كما في اللغة والسرد وتعليقه على كل حدثٍ كما في علاقته بالأشخاص والمكان والزمان. وأول تجليات اللاحياد في “العوسج” يظهر واضحاً جلياً في جعل “القُرٍّاء” طرفاً في أحداث الرواية، يظهر هذا في لغة الكاتب وتعليقه على الأحداث، بل إنه لا يكتفي بهذا، بل يذهب مباشرة إلى مخاطبة “القُرَّاء” وكأنه يخشى أن ينسى القُرَّاء أو يسهون عن دورهم في الرواية وأنهم طرفٌ أصيل فيها. وتحفل الرواية بمخاطبة القراء مباشرة، لدرجة يصعب معها أن نسوق تلك الأمثلة كلها، لذلك أكتفي بسوق بعض أمثلة مختارة منها:

“.. ما علينا، لعلها بعض من تفاصيل قد لا تهمكم” (ص7)، و”أعترف لكم، وإن جاء اعترافي جدَّ متأخر، أنني في ذلك الوقت كُنْتُ غراً تخذلني التجربة.” (ص13)، و”.. البارحة، قبل أنْ يداهمنا الجرس فيأتينا بزائرنا، أو متفقدنا الأسبوعي إياه، كنت قد أوشكت على أخذكم معي إلى حيث رفقة دراما فانتازية تجمع فصولها الغرائبية مخلوقات الغرف الثلاث، هذه التي كنت منهمكاً لحظتها في تعريفكم على أبطالها الذين شاءت أقدارهم أن يُستَودعوا، ولا أعرف منذ متى، في أجوافهن النهمة” (ص55)، و”.. كان العوض هذه المرة هم ذات الأربعة الذين كان ثلاثتهم يشتمون رابعهم همساً، أتذكرونهم؟ إنهم أولئك الذين كنت قد حدثتكم عنهم يوم أن أجلسني الجند إلى جانبهم قرب الحائط”(88) ، و” لا أنا لم أنسَ أنني كنت قد أخبرتكم بأن الأمة مشارقَ ومغاربَ هي ممثلة بقضها وقضيضها تقريباً في هذا المحشر، لكنني نسيت  أن أخبركم بأن هذا التمثيل لم يكُ متكافأً” 167)).                                                      و”.. لن أخبركم بهذه المفاجأة قبل أنْ أخبركم بأنَّ الديار التي انحدرت من ترابها كانت رمالها ترابط متكئةً إلى خاصرة البحر في بقعة تقبض أبداً على عنقٍ رابطٍ لطرفيْ أمة ترامت ديارها مشارقَ ومغارب”(182) ، و” ما دفعني إلى مثل هذه الإشارة أمر يلحُّ عليَّ ، وأعذروني لأنني حقاً لا أقوى على تجاوزه ، لذا اسمحوا لي، حيث لا بدَّ لي والحالة هذه ، من إشارة أخرى لتبيانه لكم” 256))، و “ما عدا حالتين صادمتين عرفتهما وليس من السهل على مثلي نسيانهما أبداً، أو تجاوزهما الآن وأنا أمرُّ سريعاً على أيامي غير الكثيرة في “عنبر محمود”، وسأعود بكم إليهما فأحدثكم عنهما بعد قليل.” (ص278).

وعبد اللطيف مهنا في روايته “العوسج” قوميٌ عربيٌ بلا مراءٍ أو مواربةٍ، فهو يخاطب القراءَ، وقد أسلفنا أنَّ القراء عنده طرف رئيس في الرواية، يقول، ” منذ أن بدأتُ أعي ما حولي، ومع تدرُّج اتساع مداركي شيئاً فشيئاً إلى ما هو الأبعد، كان هناك ما ظلَّ ينمو معي فيترسخُ في وجداني عاماً بعد عام  من عقديْ عمري الأولين، متحولاً من ثم إلى ثابت رافقني العمر فيما بعدُ ولم يتزلزل، ذلك هو إيماني بانتمائي إلى هذا الأكبر المترامي ما بين ما يطلق عليه بحر العرب وشامخ الجبال المنيفة المطلة على المحيط الذي دعاه أجدادنا ذات فتوح بحر الظلمات. ويمكنني أن أجزم لكم بلا تردد أنني يفعت معنياً على طريقتي الحالمة بكل حُبيبة رمل في هذه الخارطة التي ملكت جغرافيتها القابضة على قارتين”(ص(195 .

وقد عبَّر الكاتب عن هويته القومية العربية عبر تقنية روائية اعتقد جازماً أنه لم يسبقه روائي إليها، فعلى امتداد الرواية من أولها حتى نهايتها لم يذكر عبد اللطيف مهنا اسم أي دولة عربية، بل يعود بنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام حين كان العرب قبائَلَ تعيش حياة التنقل والترحال، ويشار إلى منازل كل قبيلة باسم “ديار”، فهذه ديار عبس وتلك ديار تغلب.. وهكذا، فيسمِّي ذاك البلد الذي عاش تجربته موضوع الرواية فيه ب”هذه الديار”.. “حيث تضم مُقيًّداُ آخر مع ثلاثةٍ من رفاق له بلا قيد، وأربعتهم من أهل هذه الديار العامرة بمربعاتها وقيودها” (ًص54/53 )، و “في تلك الديار التي أنا فيها”(ص13)، و”كان عليُّ هذه الديار عشيقاً لشابةٍ من دياره تصادف أنها زوجة لجنرال متقاعد برتبة زعيم” (ص56). أما فلسطين فيسميها “الديار التي قدمت منها “، أو “دياري”، أو “ديارنا”، ومنه، “على باب هذه الغرفة كان يتكوَّم كهل في بدانة تلة ووقار أبي الهول، كنت عرفْتُ من مصادر السخان النشطة ما تؤكده شقرته و ملامحه بأنه من ذات الديار التي قدمْتُ منها” (ص73/74)، و”زمجر سالم طفران شاتماً إياي والديار التي قدمت منها: “يا زناوي اليهود”(ص80 )، و “بعد هذا البَعْد ليس ببعيد اندلعت الحرب في ديارنا”. ويستطرد “عبد اللطيف مهنا” على هذا النحو في سائر الرواية، فهو حين يتحدث عن جماعة، أو شخص عرفهم أو عرفه في تلك “الديار” ينسبهم إلى ديارهم أو ينسبه إلى دياره، ويورد أوصافا، أو شذرات من لهجاتهم أو لهجته المحكية، تمكّن القُرَّاء من معرفة تلك الديار على وجه التحديد.. ” لكي يبعدوه لا بد له من أوراق ثبوتية وديار سفارتها تتعرف عليه أو تمنحها له، وهذه لا بُدَّ لها من أن يقدِّم إليها ما يثبت أنه من رعاياها، وهذا ما عزَّ” (ص(190..”كان أحمد يعمل موظفاً في ديار نفطية أخرى مجاورة وأقل حجماً. ذات يوم كتب إلى صديق له يعمل في هذه الديار رسالة يمجِّد فيها تلك اللحظة التاريخية التي تشهد ديارهم فيها ثورة من شأنها أن فتحِتْ لها مسرباً للخروج من ظلمات غبن الدهور الغابرة إلى حيث نورانية العصر” (ص 213). وحين يتحدَّث عن صديقه عبد الرزاق يشير إلى أنه “قَدِم عبد الرزاق من ديار الأمة الواسعة في القارة الأخرى التي يفصلنا عنها هنا البحر” (ص201 ). وحين ينقلونه إلى معتقل في مدينة أخرى ليجلب جواز سفره ليبعدوهما معاً حيث يتعرَّف على “محمود” السجين في تلك المدينة ينقل هذا إلى القرَّاء هكذا، “ومن لهجة محمود عرفْتُ أن محموداً هو من ديار ذاك الخمسيني وولديه.. ومن خلاف بدا في لهجتيهما عرفْتُ أنه من جنوب تلك الديار، أو حيث أشتهر أهلها هناك بحميِّتهم ونخوتهم. قُلْتُ له: أظنُ أنه قد شُبِّه لك، فأنا من ديار غير ديارك، وذكرْتُ له دياري” (ص (275 “… “ونحن الآن معاً في بقعة من بقاعها العديدة التي تصادف أنَّ كلَّ واحدة منها، بعكس ما كنت ولا أزال أراه، تسمِّي نفسها وطناً ودولةً”(ص11).

وحين يضرب عبد اللطيف مهنا صفحاً عن ذكر أي دولة عربية على امتداد روايته “العوسج “، من بدايتها إلى نهايتها، فذلك يعود إلى مبدأ لديه ألزم نفسه به طوعاً واختياراً، وذلك هو التزامه القومي العربي، وانطلاقاً من ذاك الالتزام لا يرى عبد اللطيف مهنا (الدولة القطرية) إلَّا افتئاتاً على الأمة، ومصادرةً لدورها، فتلك الدول ليست إلا مزقاً منها أوهنَتْها وحطَتْ من قدرها، فهو يعقِّبُ على هزيمة حزيران1967 كما يلي، ” للحرب ما بعدها، وللهزيمة ما يتبعها، وهو دائماً المختلف لدى مَنْ لا يقبلها عمَّنْ يتكيٍّف معها، رفضتها الأمة وعبَّر عن رفضها زعيمها الخالد، وكانت أولى خطوات الاستواء وقوفاً ومسعى إزالة كريهة أثخنتها مشارقَ و مغاربَ، هو التداعي لجمع أولياء أمور مُزْقِها المتناثرة على كلمة سواء (ص145 ). وحين يتعرَّض لمَنْ جاءوا للعمل في رحاب محمية البعوض والبق يذكر، ” كما لن يفوته أنَّ أغلب مَنْ يعلِّمون ويسهمون بشتى جهود توطيد دنياها آنَذاك قد جاءوا من باقي أطراف الخريطة الممزقة المنداحة بين بحر العرب حتى بحر الظلمات” (ص 167).

أما الوطن الذي يؤمن به عبد اللطيف مهنا ويقرُّ بالانتماء إليه فهو “بلادنا الكبرى المترامية منداحةً بين قارتين والمطلة على أبحر ومحيطات” (ص (11. أما ما دون هذا الوطن فليس بوطن عند عبد اللطيف، بل هي معازل وشظايا وكيانات تجزئة ومُزُق أمة.. “وطفق يعِّدد مسميات جملة مما اختاره من عديد قطريات كيانات التجزئة” (ص236 ).. او هذه المعازل والشظايا التي تعادي أمتها وتحتمي بأعدائها. وأما والكاتب قد خبر “هذه الديار” ويعيها على حقيقتها فهو يخاطب قرائه، “عليكم ألَا تستغربوا… في هذه الديار الخائفة من أمتها، وبالتالي المتآمرة دوماً عليها والمحتمية أبداً بأعدائها..” (ص 214). و”عبد اللطيف مهنا” إذ هو يؤمن بأمته عميق إيمانٍ لا يتطرَّق إليه أدنى شك، لكنه يرفض واقعها الراهن أيَّما رفضٍ.. يقول، “ومن أسف، ربوع بلاد الأمة المتسعة التي تختنق معازلها وراء قضبان حدود شظاياها”(ص(86.

ولأنه لا يؤمن بهذه الدول، أو “المُزَق” كما يسميها، فهو لا ينسب أيٍ من شخصيات روايته إلى دولته، بل ينسبهم إلى الوطن العربي الكبير، وطنه الذي يؤمن بالانتماء إليه، فهو شمالي لأنه جاء إلى هذه “الديار” من الشمال، والجنوبيون هم مَنْ جاءوا إليها من الجنوب، جنوب الوطن الكبير.. “ظلَّ مَنْ فيها جنوبيين ووحدي الشمالي بينهم” (ص39)، و”لكنني دُهشْتُ عندما وجدتها تستقبلني بأربعة عشر نزيلاً كانوا جميعاً من جنوب الجنوب حيث اشتعلت في ربوعه ثورة لم يخمد أوارها بعدُ، وها هنا يخشون غائلة وصول شررها إلى مراتعهم.. وفهمْتُ لاحقاً كعادتي في فهم ما لا أفهمه في بدايات هذه الأيام، أنَّ من يأتون من الشمال يحاذرون جمعهم في مكان واحد لأفكارهم الخطرة” (ص 29)،  و”كانوا جميعاً تلاوين عائدة إلى جنوب الجنوب” (ص33)، و”ازدادوا كياسة في تعاملهم معي عندما أخبرتهم بأنني شمالي” (ص 34)، و”كما وتصادف، بل الأدق تعمدت ديكتاتورية جغرافيا المربع، نزولاً عند مبدأ فصل الشماليين وعدم جمعهم في غرفة واحدة، أننا ثلاثتنا، أنا ومَنْ يتهامسان من ذاك الشق، قد انحدرنا من بقعة شمالية واحدة، كانت جنوب شمالنا الكبير، ولاحقاً جاءوا برابع إلى الغرفة الما بعد غرفة وليد الملاصقة للسخان الكهربائي” (ص52 )، “كان الثاني شمالياً مثلنا لكنَّما من شمالي شمالنا”(ص53)، و “في إحدى زواياه المقابلة شُبِكَ في الحائط سلكٌ في آخره يقيم على الأرض سخَّان كهربائي بحجم رغيف صغير مدوَّر، هنا يسمح للجنوبيين لا غيرهم بالخروج لاستخدامه في تحضير الشاي برعاية تكلأهم بها عيون الحرَّاس اليقظة” (ص 35).

ولأنَّ عبد اللطيف مهنا لا محايد، كما سبق لنا ذكره، فهو ينحاز بلا تردد إلى هؤلاء الجنوبيين، “كنت قد تعرفْتُ على هؤلاء الجنوبيين قبل هذا المحشر، وكانوا رفاقي خلال رحلة العام في مختلف المحاشر التي حللت بها إبانها، ذلك أنهم في أي مكان نُقلتُ إليه كانوا هم غالبية من عاشوا أيامه معي، عرفتهم لدرجة إلمامي بلهجاتهم المختلفة، فالتمييز عند سماعها ما إذا كان متحدثها “قبيلياً” جبلياً من شمالي الجنوب، أم جنوبياً من أقصى جنوب الجنوب.. وهل هو غربي ساحلي أم شرقي صحراوي” (ص99 /100). وهو يستعرض معاناتهم مع الشقاء في تلك الديار.. “غالبية منكودي الحظ من ممثليها هنا هم من ذاك الجزء الذي يقال بلا اختلاف إنه أصل العرب، من الجنوب، ربما لهذا تفسير منطقي يجسِّده مشهد بائن في هذه الديار، بل محالٌ أن تخطئه عين ُ من كُتِبَ عليه أنْ يمرَّ أو يقيم فيها، سيلاحظ أنَّ جلَّ العرَق الذي تقطر به الجباه والسواعد الشقية في الأعمال الشاقة الراكضة لإعمار هذه الصحاري بفوائض بركات سرقة نفطها إنما هو عرق جنوبي. وهناك سببٌ آخر كُنْتُ قد أشرْتُ سابقاً إليه، وهو أنَّ رياح التغيير أيامها قد هبَّتْ جنوباً في ذلك الحين، فسارع أولو الأمر في هذه الديار وخلفهم أولياؤهم ومن يرضعون نفطهم لسد الطريق على هبوبها، لذلك تكدَّس الجنوبيون في العنبر 102 وما شابهه من أمكنة وهي كُثَّر، كانوا الأغلبية في شتى بالوعات التكديس هذه.”(ص167).

وعبد اللطيف مهنا يُعْلِي من قَدْر هؤلاء الجنوبيين.. ” أغلب هؤلاء، بل كلُّ من صادفتهم هنا منهم، هم جنوبيون. وسبق أن أخبرتكم أن الجنوبيين هم أكثر مَنْ شاهدتهم هنا من سائر بلادنا الواسعة في عدم تحمُّلِهم للضيم ورفضهم للمهانة، وحَدَّ ما قد يأخذهم إلى حيث الجنون ” (ص187). وحين يتحدَّث عبد اللطيف مهنا عن أولئك الجنوبيين يدرك قارئُ “العوسج ” تعاطفه معهم، بل انحيازه إليهم بكل وضوح ودونما مواربة. وكقارئ ل”العوسج” تسيطر عليَّ تماماً شخصية الكهل الجنوبي، ولا أملك إلَّا أنْ أقف عندها.. يصفه عبد اللطيف كما يلي، “ذاك الكهل الملتحي المتدثر بفطرته البدوية تسابقه تلقائيته المتمردة، والمتدفق حيوية وحماساً أين منه نحن الشباب؟” (ص117).. ويتابع عبد اللطيف توصيف ذاك الجنوبي بإعجاب، “كان الكهل الملتحي الأشبه ب(بابانويل) صحراوي مناضلاً قوي الشكيمة، وذا عريكة لا تلين ضد غزاة دياره الشقر” (ص(118.. غزاة بلاده الشقر هؤلاء تاه سبعة منهم في صحراء ديار الكهل فاصطادهم هذا ببندقيته العتيقة فغَنِمَ منهم سبعَ بنادق جديدة حملها وتسلل بها إلى هذه الديار، وقصد مختار حارة فيها سبق له أن عَمِلَ عنده ليساعده في بيعها، خرَجَ المختار ليجلب له الشاري وعاد بمن جاؤوا بالكهل إلى حيث كان عبد اللطيف. لم يغِّير السجن من قناعات الكهل ولم يفلَّ من عزيمته وظلِّ يسأل كلَّ مَنْ يقدم إلى السجن من دياره، “وايش حال الجبهة؟”. ذات يوم جلبوا جنوبياً أودعوه الغرفة التي يقيم فيها عبد اللطيف وانصرفوا.  من الغرفة المواجهة أطلً الكهل العنيد.. “همس الكهل سائلاً القادم من أين أنت؟ فأجابه، فعاجله بسؤال آخر، ومتى جئْتَ من الديار؟ وكان الجواب منذ مدة ليست بالبعيدة، فأردفه بثالث: “و ايشٍ حال الجبهة” ” (ص 117).

ونختم حديثنا عن “الجنوبيين ” كما يسميهم عبد اللطيف مهنا بشهادته عن تجربته معهم، “عرفْتُ هؤلاء الجنوبيين قبل أن تبدأ رحلتي هذه معهم بسطاء وأذكياء. ورغم كون أغلبهم، زمنها، أميين، لكنهم ذوو نكهة معتقة بمذاق حضاري تليد، وخلالها، أشدَّاءَ أباةً لا يحتملون ضيماً. وبعدها إلتقيتهم في مسيرة توقنا المنبجس فدائيين أشاوس شاركونا قواعد حلمنا في بدايات مده المتفجر. وأنا، ومَنْ عرفهم، نشهد بأنهم كانوا بواسل وصناديد ميامين. كانوا يستحقون أن يقال عنهم أصل العرب”(ص(42.

وعبد اللطيف مهنا قومي عربي عن وعي عميق بهوية أمته العربية وماهية هذه الهوية، إنه مثقف عضوي مشتبك، ولذلك فهو يؤمن بحتمية انتصار هذه الأمة العربية، وأنَّ الهزائم عابرة في صيرورتها. وأنها قادرة على تجاوزها. هزيمة حزيران 1967 أفقدت الكثيرين، كتاباً ومثقفين وفنانين تشكيليين، أو هكذا يزعمون، أو يُزْعَمُ لهم، يقينَهم. أما عبد اللطيف مهنا فيعلِّق عليها “لكنَّما كان لمثلي حينها، وأيضاً ما حييت، خسارة حرب لا تعني الهزيمة، لا تعني تغيير مآلات صراعٍ آمنت ولا زلت أنه لن يكون، طال الزمن أم قَصُرَ، إلا لصالحنا” (ص 131). وإذْ يرفض عبد اللطيف الهزيمة ويعتبرها حدثاً عابراً لابد أن تتجاوزه الأمة، فإنه يقُّر بانَّ الأمة تعيش واقعاً مريراً وتعاني من ويلات تعطِّل طاقاتها، ومن ثم ينفذ إلى أسباب هذا الواقع المرير الذي تعيشه”.. “ومن أيامها ما من أحد في تصوري، بمَنْ فيهم جداتنا، وفي أربع جهات أرض العرب الواسعة، لا يدرك أنَّ مرد كلِّ هاته الويلات إنما هو عائد لسببين لا من غيرهما، إنهما، هؤلاء الغزاة الذين جاءونا من وراء بحر الظلمات، وصنائعهم من هاته الأنصاب الجاثمة على صدور مزق بلادنا المثخنة بجراحها المتعفنة، بل وهذا منذ أنْ لم يعد العرب عرباً يحكمون أنفسهم بأنفسهم وتولَّى أمرَهم مماليكهم”(ص(83. ثمً أنَّ عبد اللطيف مهنا في “العوسج” يتطلَّعُ إلى يومٍ آتٍ بأجوبته.. “ومبكراً أيضا حدث وأنْ تساءلْتُ كيف لهذه الحدود التي مزَّقتْ جسدَ أمةٍ بكاملها أنْ تبقى؟ كيف لهذه التي رسمها لها غزاتها ذات يومٍ وولَّوْا قضبانها، التي هي نواطيرهم، أمر مُزِقها أنْ تخلد؟ وهل لهذه، التي من حينها ما انفكت تحلب نفطاً وتبصق دماً، أنْ تبقى، بل وتبدو كأنما هي قد أُبِدَّتْ؟ ما الذي يبقيها لو أنَّ الأشلاء المقطَّعة هذه انتفضت فالتأمت، وبالتالي نهضت فحطمَّت قضبانهم ونواطيرهم ملحقة بهم حدودهم؟! في ذاك اليوم وحتى هذا اليوم، لم أفقد أملي في حدوث هذا السيل العرم كفعل ضرورةٍ ومسألة صيرورةٍ وشرط بقاءٍ.” (ًص(191.. ويمضي عبد اللطيف في “العوسج” مؤكداً اليقين بأن الهزيمة هي الآني المؤقت العابر في حياة الأمة وانَّ نهوضها وقيامتها هي الثابت الآتي بالحتم “.. “ومن يومها، وإثر لحظتها، تكوَّنَ لديَّ يقين لازمني ولم يفارقني بعدها، بل وعززت من قناعاتي به تجارب مراحل عمر لحقت وتواترت، وهو أنَّ مجرد انتصار ما، صَغٌرَ أم كَبُرَ، ما يعادل بلسماً كفيلاَ بتعافي هذه المقهورة المبتلاة بكثرة أعدائها ودونية ولاتها.. وإنْ هو كَبُر، فهو قطعاً كلمة السر في قيامتها وشاحذٌ شاحنٌ لانبعاثها ناهيك عن كونه حافزاً لنهوضها، وعاملاً حاضاً ودافعاً لتحطيم كافة أنصاب تبعياتها.. لمحو كافة حدود قطريات تجزئتها لوصل مزقها، هذه التي مزَّقها الغزاة ليتسيِّدها المتخادمون معهم لتخليد تبعيتها” (ص129). وتأتي مصادفات الأحداث التي يمرُّ بها عبد اللطيف مهنَّا، حتى في اشّد الظروف حلكةً، لتزيده يقيناً على يقينه بحتمية قيامة أمته وانتصارها ووحدتها، ففي  حين يجتمع بجواز سفره يعيدونه من تلك  المدينة إلى المدينة التي كان يقيم واعتقل فيها تمهيداً لأبعاده، يكلِّفون شرطياً شاباً في مثل عمره لمرافقته إليها وتسليمه هناك، ويذهب ذاك الشرطي فيستبدل بزة الشرطة الرسمية ببزة مدنية، وبدلاً من أن يكبَّله بالقيد يضع القيد وجواز السفر وكتاب الدائرة في حقيبة صغيرة يبدو انه جلبها لهذا الغرض ويخرج معه كصديقين يسيران جنباً إلى جنب باتجاه موقف  سيارات النقل العام .. “وحين ابتعدنا عن الدائرة ترك يدي وطفق يتعامل معي بروح متعاطفة وحتى رفاقية.. جلسنا في المقعد الخلفي في السيارة، وطوال الطريق بين المدينتين كان يناقشني بحماسة لا تفتر واندفاع مدهش في قضايا الأمة.. حماسة واندفاع زائدين، أو ما قد لا تجده عادةً إلَّا لدى حالمين ممن هم في مثل عمرينا آنذاك وحقبتنا تلك. أدهشني أنه كان يحفظ عن ظهر قلب نصوصاً كاملة كان يتلوها مستشهداً بها من كتاب “فلسفة الثورة”.. ومن حينها أيضاً زادتني رفقته إيماناً على إيمان لم يفارقني فيما تلت من ارتحالاتي التي لم أضع عصاها بعد أنًّ هذه الأمة بخير، وستظل بخير مهما غشيتها من دواه وداهمتها من انكسارات” (ص.(286

أما حين يتطرَّق “عبد الطيف مهنا” إلى شعبه الفلسطيني في “العوسج” فهو يعود إلى طفولته المبكرة فينقل إلى القرَّاء، الذين هم طرف في الرواية كما سبق وأنْ أوضحنا، أنَّ الأطفال الفلسطينيين يحلمون بالمقاومة ويخططون لها على طريقتهم الطفولية بدلاً من التطلِّع إلى الألعاب، فيروي لهم، للقرَّاء، كيف وجد “كامل” ، وهو طفل في مثل سنه، لغماً صدئاً من مخلفات الحروب التي مرَّت علي المنطقة، في حين عثر هو، عبد اللطيف، على قنبلتين عتيقتين من المخلفات ذاتها، ثم مع كامل ثانٍ، عقد ثلاثتهم اجتماعاً وقررُّوا زرعها في طريق دوريات العدوِّ خلف خط الهدنة، وليلاً بعد صلاة العشاء يعبر ثلاثة الأطفال خط الهدنة ويزرعون لغمهم في طريق دوريات العدو(ص132،133،134).. و”نام كنز كامل [اللغم العتيق] في مكانه ولم يستيقظ أبدا، وفيما بعد عرفنا أنَّ القنبلتين ليستا بحال أفضل. والتحق كامل وقد شبَّ بالجيش وعلمْتُ فيما بعد، أنه قبيل اندلاع الحرب بيومين، شاهد من موقعه بالجبهة رتلاً معادياً ماراً من أمامه فلم يحتمل، أبلى بلاء حسناً، وإذْ هو بهذا قد خالف قواعد الضبط والربط في الجيوش، شُكِّلتْ لمحاسبته محكمة عسكرية لم تُعْقَدْ.. لم تعقد لأنَّ الحرب البارحة اندلعت.. وجاء أمر الانسحاب، وتمَّردَ كامل مرة ثانية، لم ينسحب، ظلَّ يقاوم وحدَهُ حتى مرَّت الدبابة العَدُّوة من فوقه، ولم يُعْرَفْ له قبر. ترك كامل من ورائه رضيعا. فكان له من بعدُ حفيد، ولاحقاً استشهد كامل الحفيد على مقربة من ذات المكان الذي دثرنا فيه كنز جده” ( ًص 135/134).

ثم جاءت تجارب حياتية ونضالية تترى تأخذ واحدتها بتلابيب الأخرى حول عبد اللطيف مهنا لتقوده إلى يقين بشعبه الفلسطيني لا يتطرَّق إليه ذرة من شكٍ.. “من يومها عرفْتُ لماذا ينعتوننا بشعب الجبارين، ولماذا كلُّ جيلٍ من أجيالنا يأتي يكون الأصلبَ والأعند والأوعى والأشدَّ بأساً والأقوى شكيمةً فالأصعب مراساً من سابقه” (ص86).
وعودٌ إلى “العوسج “، العنوان الذي منحه عبد اللطيف مهنا لروايته، العوسج هو ذلك النبات الذي ينبت في قلب الصحراء، متحدياً حرِّها صيفاً وزمهريرها شتاءً، يحمي نفسه بنفسه من إنسان أو حيوان، ويظلُّ ينمو في قلب صحرائه، معتداً بتفرده، منتصراً أبداً على كلِّ ما يحف به من مخاطر.. أليس هذا هو الشعب الذي ما إن يجرِّدوه من سلاحٍ حتى يبتدع سلاحاً لا يسبقه إليه سابقٌ ولم يخطر ببالٍ قبل أن يشهره هذا الشعب في وجه أعدائه.. هل يصف عبد اللطيف مهنا “عوسجته” التي يستلها من ذاكرته أم هو يتحَّدث عن شعبه الفلسطيني؟  يقول، “وإنْ هي لا تطالها يدٌ ولا يصلها من حيثُ هي سوى الطير، فمَنْ يشاهدْ عوسجنتا مدلَاةً يتوهمْ أنها قد تسقط ذات يومٍ، بينما هي اعتادت مرور الفصول عليها لتجدها في مكانها لا تريم، فلا السيلُ إنْ عَرِمَ يطالها، ولا القيظ إنْ اشتطًّ يصرعها بأنيابِ جفافه، ولا عربدةُ الرياح إنْ عصفتْ بقادرةٍ على أنْ تزحزحها أو ترديها” (ص 290).

ولا نغادر الحديث عن “عوسج ” عبد اللطيف مهنا دون أن نتناول لمحة سريعة عن موقفه من السجانين الذين مرَّ بهم ومرُّوا به في تجربة السجن التي عاناها، لاسيما في تلك الديار وفي تلك الفترة المبكرة من تاريخ تلك الديار. كم استهوت شخصية “سعد”، الجندي الحارس، عبد اللطيف.. كان سعد هو الحارس الوحيد الذي يجوز القول إنه يمتلك شعبية ما لدى مأسوري مربعه الكريه، له شئ من وسامة ودماثة تعامل.. يردفهما بساطة وعفوية تشي بنقاء، وحتى سذاجة” (ص65). وتتنامى هذه العلاقة الإنسانية بين “سعد” الحارس في السجن و”عبد اللطيف” السجين حتى تصل أن يصارح السجان السجين بأنه لن يلبث طويلاً فيما هو فيه.. “والله أنا يا خوك ما أظل هنيا كثير مع هالظلمة.. منَّا وليَّا آخر هالسنة وبس”.. ولم ينتظر حتى أتمالك نفسي وأسيطر على دهشتي، فاسترسل، أخبرني بأنه قد خطب ابنة عمه، وأنَّ عمه اشترط عليه قبوله تزويجه ابنته بألا يتم قرانهما إلا بعد عام ترعى فيه الخطيبة إبل أبيها، وأنه الآن هنا وحتى انقضاء مهلة عمه هذه، وبعدها لن يكون غير الرحيل.”(ص67). وهناك الشرطي الذي اصطحبه ليجلب جواز سفره ومن ثم إبعاده، هذا الشرطي إنسان بسيط طيِّب لم يضايق عبد اللطيف بشيء طوال الرحلة، حتى أنَّ عبد اللطيف يسميه حارسي الطيب.. ” وصلنا الجهة التي على حارسي الطيب أنْ يسلمني فيها إلى أيدي سلطاتها الأمنية الأمينة. قام رفيق رحلتي بما هو عليه، أودعني حيث أمروه وبذا انتهت مهمته.. ودَّعني صاحب رحلتي داعياً لي بالفرج وقفل عائداً إلى من حيث أتينا سوية” (ص(265. أما ثالث السجَّانين الذين يستوقف “عبد اللطيف” القرَّاء عندهم فهو الرقيب علي الذي أشفق عليه من تهوِّره في كلامه.. “بدا لي ليس في وارد من يريد الاستماع لي، إذ سارع إلى مقاطعتي وهو يهبط نازلاً من على الدرج مقترباً مني حيث أقف على بوابة احتجازي ناصحاً إياي بصوت خافت بعض الشيء ولهجة ودودة ومتعاطفة، ولا أكتمكم أنها قد فاجأتني، ” وطي صوتك، ترى والله إن ذولا سمعونك تظلك هنيا إلى ما شاء الله” (ص269). ويقرر “عبد اللطيف مهنا ” موقفه الأخلاقي من هؤلاء السجانين، “سأظل أذكر ما حييت سعداً الجندي الحارس في كهف المربع السري، والشرطي الطيب رفيق رحلتي بين معتقلين ومدينتين، والرقيب علي ناصحي المشفق هنا، سأظل أذكر هؤلاء الثلاثة، أو هؤلاء السجانين النبلاء، كما ولن اعتبر نقيضهم من السجانين الذين كم أتمنى أن أنساهم، إلا ضحايا تماماً مثلما هم ضحاياهم” (ص(269.

بهذا أختم متمنياً أن أكون قد نجحت في تقديم إضاءة بهذه القراءة ل “العوسج”.