وقفة عز

قصة لم تكتمل

واحد … قصة لم تكتمل … نضال حمد 

ليس الأسوأ أن تجلس وحدك بل أن تعيش لوحدك ..كما ليس الأفضل أن تمتنع عن طيبات الحياة الدنيا، ولا أن تغوص في وحل الرفاهبة. فكل شيء يزيد عن حده ينقص كما يقول المثل الشعبي الشرقي.

ليس الأنسب للشخص أن ينال كل ما يريده دونما عناء، فالحياة جد واجتهاد وقديما قيل من طلب العُلا سهر الليالي… وقيل أيضا: اطلبوا العلم ولو في الصين… ونحن أبناء جيلي سهرنا طويلا على ضوء السراج ومن ثم على ضوء الشموع بعدما فقدنا في مدينة يسمونها عروس البحر، الكهرباء والماء والدواء.. جرت تلك الأحداث  في القرن العشرين.كنا نطلب العلم تحت القنابل والصواريخ والطيور المعدنية … كنا ندرس للامتحانات النهائية في الثانوية على أنغام غريبة لا تمت بصلة لموسيقى الكبار والعظماء لا في الشرق ولا في الغرب… على أنغام تطرب من لا قلوب لهم، تجعلهم يتسلطنون.. فأمثالهم لا يعرفون طريقا إلى قلبوهم… لم يشفقوا على الكتب والمدارس والتلاميذ والطلبة.. لكن الطلاب أصروا على المواصلة،فدرسوا ونجحوا بفضل الشموع والدموع والقناديل والمناديل. وبعد أن انتهت مواسم الموسيقى الغريبة والأنغام العجيبة، انجلى الغبار عن المدينة، وخرج الناس من مقابر الأحياء التي كثرت في تلك الفترة من الزمن. بعد ذلك تفقد الناس بعضهم، فوجدوا أن هناك وجوها عديدة قد غابت، وشموعا كثيرة احترقت أو ذابت. لكن المدينة بقيت مكانها تتعكز على إرادة الحياة وحب البقاء..

 أعاد البناءون بناء ما تهدم منها بفعل الموسيقى الدخيلة. لكن الكهرباء منذ ذلك اليوم لم تعد كما كانت.. أصبح غيابها شيئا عادياً واعتاد الناس على ذلك وتقبلوه بعد رفض واحتجاج ومقاومة ومعارضة. والحقيقة أنهم لم يتقبلوا وعارضوا استمرار وصول ووجود الكهرباء طوال الوقت في بيوت الذين يتحكمون بأرزاق وأعناق الناس. فهؤلاء لا يهمهم متى تأتي أو تنقطع الكهرباء، فلديهم موتورات حديثة استوردوها خصيصا من بلاد الفرنجة وفي كثير من الأحيان تكون أفضل من كهرباء شركة الدولة الرسمية وأقوى منها بكثير.

ليس الأسوأ أن تعيش بدون كهرباء وماء وعلى ضوء الشمعة أو السراج بل الأسوأ من هذا وذاك أن ترى النور وتتمتع بالأنوار التي تسرق من عيون الآخرين، حيث تتركهم في العتمة ودون ضوء سوى ضوء الشمعة، الذي في بعض الأحيان كانت كثير من العائلات لا تجده بسبب الفقر. وبعض هؤلاء كان لا يأكل سوى مرة واحدة في اليوم، ولا يدخل المرحاض لأنه لا يوجد في جوفه ما يفرغه في دورة المياه. وكان الفقراء يتبادلون النكات عن الأغنياء فيقولون أن المجارير سُدَت من كثرة ما يتبرزون ويخرجون ويغوطون … فعندما يحدث انسداد في مجرور حارة الحاجة شيخة كانت تقول أن الذي سده ببرازه هو ألعوبان بيك.. وألعوبان بيك كان يأكل نيابة عن الجميع ويغوط كذلك نيابة عن الجميع، وعندما يبدأ السكر والتحشيش ينتهي به المقام في مشخة الدار.

انت إذن تتحدث لأحدهم ..

أنا لا أحدث سوى نفسي ..

لماذا تفعل ذلك؟

لأعرف نفسي أكثر …

لأجرب نفسي كانسان بوجهين، واحد يعتبر أنا الذي هو أنا.. وآخر داخلي لكنني لا أقبله، أرفضه لأنني اعتبره ليس مني، فلسانه ليس لساني، ومنطقه ليس منطقي، وفكره ليس فكري، وقلمه ليس قلمي… فقط وجهه مثل وجهي … وهنا تكمن المصيبة.

هل هذه فلسفة أم تجارب علم نفس في مستشفى مجانين؟

لا هذه ولا تلك …

 هي محاولة لفهم الآخر فينا عبر الدخول في الأنا الأخرى ..

هل تعرف ماذا أجابته أناهُ الأخرى عندما سألته عن رأيه بعيشته في المهجر؟

قالت له : لا تعتقد انك تعيش وحدك في المهجر فهناك مثلك ملايين .. لا يمكننا رؤيتهم كل يوم،لكنهم يظهرون على السطح كلما تعالت الأصوات المطالبة باصطيادهم وتعليبهم وتصديرهم إلى بلادهم ومن حيث أتوا.

لم ترق له الإجابة حيث رآها تذهب بعيدا في تخوفها من المستقبل، وكأن المستقبل سيأتي معه بالماضي الذي عاشه الأجداد في قرطبة وطليطلة وغرناطة واشبيلية.. لم يحب تلك الإجابة، بل كرهها ففيها شيء من نظرية قد تتحقق بعد زمن … كل شيء الآن يساعد على فهم تخوف وتوقعات أمثاله. 

بصراحة لقد كره الإجابة لأنها ذكرته بقول والده الذي ظل يكرره على مسامعه كلما  عاد لزيارتهم.. : غدا يا ولدي سيخرج من يُبيدكم أو في أضعف الايمان يطردكم من المكان الذي اخترتموه فردوسا..

حضرت أمامه للتو صورة العالم بعد أن قام غبيّ أو عنصريّ أوروبيّ بنشر رسوم كرتونية قد تؤدي نتائجها الكارثية إلى نشوب حرب عالمية.

هذه العبارة لم ترق لقرينه في المرآة ..

ما هذا؟

 هل انت مع حرية التعبير ام ضدها؟

أجابه: انا ضد حرية التحرير وانتقائية النشر والتعبير، أي هذا مسموح وذاك ممنوع. ثم لا توجد حريات مطلقة.. فحريتك تنتهي عندما تصل الى حرية الآخرين. وهناك حدود لكل شيء ومسارات ومدارات تحدد سير ودوران كل شيء. على الكاتب العمل بها.

 قال القرين: أنت تهرطق، ربما يكون هذا نتيجة الجلوس وحدك .. أنت تعتبر وحيد وحدتك، أسير فكرتك، وحبيس هجرتك. وإن كنت تعيش برفقة أحد ما فأنت أسير عيشتك. وعليك تقاسم الحديث والحوار مع الآخر من حولك. كما عليك تقاسم كل شيء من ورق التواليت حتى ورق الجدارن.

عند هذه الجملة بالذات قاطعه الآخر قائلا: لكنني لا في الجنة ولا في النار بل بينهما … وأجلس وحدي مع كتاب يقول أن الأرض مثل البيضة وليست مثل الكرة… وكنت أفكر بالبيض والكرات والأرض المخوزقة من كافة الجهات حين فاجأني من يقول لي في وحدتي كتابك كلام لا يغني ولا يفيد، أما كتابه ففيه أشياء جديدة ومفيدة، خذه وتعرف على ما فيه.

اعتقدت أنني احلم وأنني أعيش مع آخرين …  مع العلم أنني لا أذكر أحدا منهم.

 لكن بعد أن رأى الضيف الذي دخل وحدتي دون دعوة سابقة ترددي، قال بلهجة آمرة استسلمت لها دون مقاومة: قلت لك اقرأ وقل لهم أنه لا يوجد حيث تعيش تواليت قبل أن تفكر بورق التواليت …

 وقل لهم أن بيتك بلا جدارن وبلا سقف وبلا أرضية، وأنك نفسك إنسان بلا عنوان .. وقل لهم انك كنت تحلم بوقوفك أمام المرآة ومحاكاة قرينك، ففي بيتك لا توجد مرآة ولا يوجد تلفاز ولا توجد كهرباء ولا خط هاتف، ولا مياه صالحة للشرب، ولا سرير للنوم .. بيتك الذي أنجبتك أمك فيه لم يذهب مع الريح كما فعل أجدادك يوم اضطروا للهرب من لعنة المحرقة البعيدة عنهم. بيتك الذي أجبرت عائلتك على تركه، والذي بنوه بالعرق والجد والتعب والكدح … حيث جعلوا فيه تواليت أجنبي وحمام عربي وجدران مزينة بورق الجنة، وسقف ملون بالزهور والورود… بيتك الذي دخلته أول مرآة كبيرة وفريدة، كان جدك احضرها معه بعد رحلة أوصلته الى بلاد الحكيم كونفشيوس. تلك المرآة عز على جدك تركها في البيت عند الرحيل الاضطراري… كما عز عليه ترك عظام أمه وأباه في قبر العائلة،خاف أن تعبث بهم يد الغزاة ففتح القبر، حمل العظام ووضعها معاً في وعاءٍ متين ثم أحكم إغلاقه وحمله معه بعد أن وضعه في خرجٍ على دابته. كان هذا كل ما حملته العائلة من بيتٍ فسيح يتألف من تسع غرف للنوم والاستقبال والطعام وللعمل.

كان جدك يقول حين تجلس وحدك تعرف سر وجودك.. وحين تدخل الغريب إلى دارك قبل أن تتعرف عليه ودون أن تعلمه بأسرارك تكون الكاسب، لكن أن فعلت العكس ستدور الدائرة عليك وتخسر ما كنت بنيت.

لا تعش وحدك في وحدتك.. كن مع الناس وبينهم عندما تقتضي الضروروة والحاجة.. فالجنة بلا ناس لا تطاق. والحياة بلا جيران ومعارف وأصدقاء أيضا لا تطاق.. إن صادقت فأصدق، لأن الصدق شيمة وعلامة تميز الصادق عن الكاذب والأمين عن غيره.

 و … ولم يكمل جملته ..

أنت إذن محظوظ …

هكذا جاء رد صديقه بعد أن اشتكى له من وحدته مؤخراً ..

كان يخاطب صديقه عبر الهاتف … وكانت المكالمة ضرورية، لأنه شعر بحاجة لمن يتحدث إليه ومعه عن أشياء لا تنسى … ذكريات الطفولة، المدرسة، الحارة، الأزقة والتلال المحيطة بالمخيم …

نضال حمد – أوسلو

2000 مطلع سنة