ثقافة وفن

قنبلة ذريّة في… – قصة: رشاد أبوشاور

نهضت مع آذان الفجر. تثاءبت كثيرا، ثم أصغيت للمؤذن وهو يقيم الصلاة. بيتي غير بعيد عن المسجد الأقصى. نظرت من النافذة وتأملت حجارة الأقصى بينما كان الضوء ينيرها مع تبدد خيوط العتمة.
رحم الله والدي. تأملت صورته المعلقة على الجدار بعقاله المائل، وكوفيته المرقطة. والدي خليلي أصلي هاجر به جدي من الخليل إلى القدس، وافتتح محلاً لتفصيل الأحذية وبيعها، ثم اختص بالتفصيل للموسرين القادرين على دفع ثمن أحذية جلدية فخمة.
كان أبي يردد كلمة فخمة، ليفخم من والده، جدي، فهو يأنف من وصفة بالكندرجي، لأن الكندرجي يشتغل في رتق الأحذية، وتركيب كعوب لها بميالات تحميها وتطيل عمرها، أو بأنصاف نعال بعد اهتراء نعالها.
لا، جدي فخم، وصناعته فخمة، وهو اشترى بيتنا من فخامة أحذيته.
بيتنا هذا، حاول بعض الأشخاص المجهولين إغواء أبي لبيعه بمبلغ لا يخطر على البال، وهو ما دفع أبي للشك أن ( اليهود) وراء هذا المسعى، ومع رفض أبي بعناد بيع بيتنا ضوعف المبلغ المعروض المغري حتى بلغ ملايين الدولارات.
لكن أبي رفض، وهو يردد نفس العبارة، وهو يبتسم مميلاً رأسه المكلل بكوفيته المرقطة الفلسطينية التي تشبه كوفية عبد القادر الحسيني في صوره التي انتشرت كثيرا بعد استشهاده. ( أنا ولدت بعد استشهاده بعشرة أعوام..وهو استشهد عام الثمانية وأربعين، وصورته معلقة على جدار غرفة الضيوف).
كان والدي يردد: لو بعت بيت أبي، الذي اشتراه من عرق جبينه، فإنني أبيع عظامه..وأبيع القدس.. ثم: ماذا آخذ معي إلى القبر؟
لما سكت الآذان، وسكت الميكروفون وجدتني أتأمل صورة أبي وبجوارها صورة جدّي المعلقتين في إطارين فضيين على الجدار، وأهمس لهما:
– لقد عادوا وعرضوا علي مبلغا لا يصدقه العقل يا جدي، ويا أبي، وهم يعرفون أنني عاطل عن العمل، وأنني قد أخرجت من سجنهم قبل أيام قليلة. قالوا لي: يمكنك أن تهاجر بعد قبض المبلغ، فنحن سنساعدك على الهجرة إلى أمريكا..فقط بعنا البيت..البيت المتهالك يا رجل، والذي لن ينفعك في شيء..والذي لن يُسمح لك بترميمه، وقد يسقط على رأسك أنت ووالدتك العجوز المتهالكة مثله.
تمتمت وأنا أمرر أصابعي على صورة أبي:
– أكون قد بعت القدس…
وأنا أهم بإغلاق البوابة لحق بي صوت أمي، وقد فرغت من صلاة الفجر:
_ إلى أين يا إبني يا حبيبي في هذا الوقت المبكر؟!
لا أعرف كيف خطر ببالي أن أرد عليها:
_ سأتوجه إلى باب العامود لأفجر قنبلة ذرية هناك..وسأعود بسرعة يا أمي.
لحق بي صوتها:
_ عد بسرعة لنفطر معا يا بني…
وأنا أغذ سيري في أزقة القدس التي تربيت فيها، وتعلمت، وخضت المظاهرات، ورميت الجنود بالحجارة، تخيلت أن الأقصى اختفى..اختفى تماما، فهلعت واندفعت إلى آخر الزقاق مسرعا، وأخذت أتلمس الحجارة وأنا أتمتم بكلام لا أعرف ما هو. اقترب مني رجل ملتح، أشيب اللحية، محني الجسد، يعتمر طاقية بيضاء تلم شعره تحتها.. وسألني:
_ لماذا لم تصل الفجر أيها الشاب؟!
ركضت عندما رأيت جنودا يحمون عددا من المستوطنين يتبخترون بلا مبالاة، وبسخرية وهم يقتحمون باحة الأقصى، كورت قبضتي ودسستهما في جيبي بنطلوني، وحاذيتهم متمهلاً مركزا نظرة ثابتة عليهم. سدد حرّاسهم رشاشاتهم باتجاهي فضحكت بدون صوت وأنا أزيد من تحديقي فابتعدوا وهم يديرون وجوههم صوبي وهم يمشون إلى الخلف…
لم يعرفوا أنني أحمل قنبلة ذريّة، قنبلة ذريّة مضغوطة رهيبة القوّة، رغم أنها بحجم علبة الكبريت، بحيث إنها تكفي ل..ل..
عند باب العامود توقفت. رأيت الجنود يتبخترون على السور وهم يسددون فوهات بنادقهم إلى رؤوس الفلسطينيات بائعات العنب والتين..فقلت في نفسي: ها قد دنت اللحظة المناسبة. لن أسمح لهم بإيذاء قريباتي القادمات من بيت لحم والخضر اللواتي يعرضن قطوف عنبهن وحبات تينهن في أواني القش التي يضعنها عند أقدامهن وهي تكتظ بالتين والعنب أمام باب العامود.
قرفصت أمام إحداهن وخاطبتها:
_ خالة ّ!
ردت:
_ يا روح خالتك…
سألتها:
_ أتعلمين كم قنبلة ذرية عند…
وأشرت إلى الذين يتبخترون فوق السور، تماما فوق باب العامود:
_ أنا يا حبة عيني ما بأعرفش، أنا بأعرف أزرع العنب والتين..وبع ما يكبر شجر التين ودوالي العنب بألم القطوف وحبات التين…
_ آه يا خالة آه…
رددت، ونهضت، فلحق بي صوتها، وهي تراني أمر بجوار داورية من ثلاثة جنود أصابعهم على الأزندة:
_ دير بالك على حالك يمّا..هذول أولاد حرام.
سألت أحدهم :
_ كم الساعة يا ديفد؟!
ابتسم:
_ أول عربي يسألني عن الوقت..عجيب! ولماذا تريد أن تعرف الوقت أيها العربي؟!
هززت رأسي:
_ لأن قنبلة ذريّة ستنفجر بعد قليل و..ستفعل الأعاجيب، ولن تصمد بنادقكم هذه أمامها…
ضحك، ثم وجم عندما انتبه أن يدي تختفيان في جيبي المنتفختين فسدد رشاشته باتجاهي وهو يرتجف صارخا:
_ أخرج القنبلة الذرية من جيبك يا إرهابي.
واحد من زملائه أخذ يضحك ضحكا هستيريا:
_ ولك ديفد ما عندهم قنابل ذريّة. هؤلاء عرب متخلفون ليس عندهم سوى الحجارة…
عندئذ، وحركة الناس قد بدأت تزدحم في باب العامود أصاب حجر رأس ديفد، واختفى ولد سريعا في الزحام. ركض ديفد وهو يصيح لاحقا بزملائه، صارخا بالعبرية التي تعلمتها منهم في السجن على امتداد سبعة أعوام:
_ الإرهابي ضربني بالقنبلة ال..ال…
سدد زملاؤه بنادق الغاز فدوّت أصوات القذائف، وانتشرت الرائحة الكريهة الخانقة، وتطايرت حجارة فوق رؤوسهم…
موج من الناس حملني من مكاني، فوجدتني أخرج قبضتي من جيبي وأنحني لالتقاط ماتيسر من الحجارة وقذف الجنود الذين واصلوا إطلاق القذائف وهم يتراجعون.
بائعات العنب والتين يسندن ظهورهن إلى سور القدس في باب العامود، بانتظار أن يتبدد الدخان، ليستأنفن بيع تينهن وعنبهن للمقدسيين، فقد اعتدن على هذه المشاهد منذ بدأ الاحتلال.
ساد صمت، فعدت ودخلت من بوابة باب العامود، وتمشيت متمهلاً في السوق، وانعطفت باتجاه قبة الصخرة، ثم توجهت صوب أشجار السرو والصنوبر التي بدأت تنشر ظلالها، وأسندت ظهري على ساق إحداها، وأغمضت عيني. ضحكت وأنا أستعيد الصوت: ولك يا ديفد العرب ما عندهم غير الحجارة…
رأيت في سماء القدس خنجرا هائلاً يلتمع…
شعرت بأن نارا تشتعل في صدري فأخذت نفسا عميقا: يا كلاب ..أتعرفون ماذا هنا، في هذا الصدر؟ تريدونني أن أهاجر إلى أميركا..وأترك لكم بيت جدي، وظل شجرة الصنوبر هذا؟! لماذا جئتم أنتم من أميركا؟! معها حق أن تصفكم بائعة العنب والتين بأنكم أبناء حرام…