من هنا وهناك

كشف حساب الأمن القومى العربي – محمد سيف الدولة

 

 

ما هى حقيقة الامن القومى العربى الذى يتشدقون به هذه الايام و يتقاتلون فى شرق البلاد ومغاربها باسمه زورا و بهتانا، وهو منهم برئ.

اننا نفهم انه الامن الموحد للأمة العربية شعبا وارضا ومصيرا.

 والذى يعنى ان استقلال وامن و تقدم الاقطار العربية وإشباع احتياجات شعوبها لا يمكن ان يتحقق الا بوحدتها الشاملة.

وان اى تهديد او خطر او عدوان تتعرض له اى بقعة عربية هو قضية ومشكلة كل العرب، لا يمكن حلها الا بأدوات وامكانيات وقيادة عربية موحدة (دولة عربية واحدة).

ينطبق هذا على مخاطر الهيمنة الخارجية، سواء كانت امريكية او اوروبية او روسية، وعلى وجود الكيان الصهيونى ومشروعه، وعلى قضايا التنافس والنزاعات الاقليمية، وعلى عجز الاقطار العربية الصغيرة عن الدفاع عن نفسها ووجودها، وعلى عجز الاقطار العربية الكبيرة الفقيرة عن سد احتياجاتها الاقتصادية والاجتماعية، وعن عجز مصر وحدها عن مواصلة الحرب و المواجهة العسكرية مع اسرائيل المدعومة امريكيا، وعن عجز سوريا عن تحرير الجولان بدون مصر، وعن عجز المقاومة الفلسطينية عن تحرير ارضها منفردة، وعن عجز المقاومة العراقية وحدها فى مواجهة الاحتلال الامريكى والاختراقات الايرانية، وهكذا.

***

ان فشل وانهيار الامن القومى “المنفرد” هو حقيقة تاريخية وموضوعية ثابتة منذ ما قبل الميلاد، منذ ان عجزت شعوب المنطقة وقبائلها عن الاحتفاظ باستقلالها، وسقطت تحت الاحتلال الاجنبى الاوروبى لما يقرب من 1000 سنة متصلة.

فمصر على سبيل المثال منبع الحضارة واكبر دول المنطقة سقطت تحت الاحتلال اليونانى ثم الرومانى فالبيزنطى منذ 332 ق.م حتى فتحها عمرو بن العاص عام 642 م. وهو ما تكرر مع كافة دول وحضارات المنطقة فى تلك الحقبة بدون استثناء.

ولم ننجح فى التحرر من الاحتلال الا بعد الفتح العربى الاسلامى الذى صهر المنطقة ووحدها وحررها وعرَّبها، وحكمها بدول قوية على امتداد أكثر من 10 قرون.

وهو ما يعنى ان نظرية الامن القومى المصرى ونظيراتها فى كل الاقطار الاخرى، قد سقطت الى غير رجعة منذ ما يقارب 2500 عام. لتحل محلها حقيقة ونظرية الأمن القومى العربى. ولتتأكد هذه الحقيقة مرة أخرى مع الحملات الصليبية.

ولكننا وبسبب عصور التخلف والاستعمار الحديث وتسويات الحربين العالمية الاولى والثانية، عدنا مرة أخرى للرهان على حلول فشلت منذ عشرات القرون، فراهنا على التجزئة والتقسيم والدولة القُطرية والأمن القومى القُطرى، التى أخذتنا من هزيمة الى أخرى.

فلقد اثبتت التجارب على امتداد قرون طويلة، ان الامن القومى العربى الشامل وامن أى من أقطارها لا يمكن ان يتحقق الا بوحدتها الشاملة.

وأثبتت فشل ما دون ذلك من اشكال للتضامن او للتعاون او للدفاع المشترك التى لا تُفَّعَل ولا تدوم، وكذلك أى انخراط جماعى فى أحلاف دولية.

كما اثبتت ان الامن القومى ليس هو الناتج الحسابى لمجموع امن كل دولة عربية على حدا، لأنه فى كثير من الاحيان يتناقض الامن القُطرى مع الامن القومى العربى.

فعلى الرغم من كل الاعتداءات والمخاطر والمخططات الخارجية التى استهدفت ولا تزال الامة العربية واستقلالها وامنها، الا ان الاعتداءات الداخلية على الأمة، من قبل الانظمة العربية الحاكمة لم تقل عنها خطورة، وفيما يلى بعض الامثلة:

هزيمة 1967:

ربما تكون نكسة 1967، هى اقوى ضربة وجهت الى الامن القومى العربى، والتى لا نزال نسدد فواتيرها حتى الآن، بدءا من انسحاب مصر من الصراع مقابل استردادها لسيناء مقيدة القوات والتسليح، أو احتلال اسرائيل لمزيد من الارض العربية فى الجولان والضفة الغربية والقدس وغزة. الى آخر حالة الانقسام السياسى والايديولوجى العميق التى ضربت الامة وتياراتها، على اثر صدمة الهزيمة.

***

كامب ديفيد :

انسحاب مصر بعد حرب 1973 من الصراع ضد الكيان الصهيونى، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد والاعتراف باسرائيل، الذى تمت تحت شعارات الامن القومى المصرى، كان اكبر عدوان وتهديد للامن القومى العربى، من حيث انه مهد لتصفية القضية الفلسطينية، وجرد الامة من قيادتها التاريخية فى مواجهة الاعتداءات الخارجية، وثَبَّت وجود اسرائيل، وادى الى تحولها الى القوة الاقليمية الكبرى فى المنطقة، وانفرادها بباقى الاطراف العربية، والإجهاز على قدراتهم العسكرية واحدا تلو الآخر.

***

الممثل الشرعى الوحيد:

انسحاب الدول العربية من اى مسؤولية تجاه فلسطين، وترك الفلسطينيين يواجهون اسرائيل وامريكا ومجتمعهما الدولى منفردين، تحت شعار “منظمة التحرير الفلسطينية هى الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى” الذى تبنته الجامعة العربية فى 1974، كان احد الضربات الخبيثة لقضية العرب المركزية، والتى ادت الى انكسار القيادة الفلسطينية وإخضاع ارادتها والاعتراف باسرائيل، بعد أن وقفت بمفردها فى مواجهة العدوان الصهيونى على لبنان 1982 الذى انتهى بطردها من لبنان ونفيها الى تونس بعيدا عن الارض المحتلة.

***

الاستسلام العربى الجماعى لاسرائيل :

وهو ما نتج عنه وتبعه قيام منظمة التحرير الفلسطينية فى اوسلو 1993 والأردن فى وادى 1994 وجامعة الدول العربية فى مبادرة السلام العربية 2002، بالتنازل عن الحق الفلسطينى والعربى فى ارض فلسطين التاريخية، والاعتراف بإسرائيل فعليا او ضمنيا، والتنازل عن الحق فى المقاومة والكفاح المسلح بل وتجريمهما، مما عمق من الضرب فى اسس الامن القومى العربى الذى بدأته مصر كامب ديفيد فى 1979. وهو ما أدى من ناحية أخرى الى عزوف وهروب قطاعات كبيرة من الشباب من الهويات الوطنية والعربية المهزومة والمستسلمة الى انتماءات وهويات طائفية بحثا عن بدائل للكرامة المهدورة، مما كان له دورا كبيرا فى تفشى جرثومة الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية التى ضربت الواقع العربى مؤخرا.

***

ايلول الاسود:

استهداف المملكة الاردنية الهاشمية للمقاومة الفلسطينية عام 1970، وطردها من هناك، وجه ضربة كبيرة للامن القومى العربى بتجريده من احد ساحات النضال والمواجهة للعدو الصهيونى.

***

الحرب الاهلية اللبنانية:

تفجير الوضع اللبنانى عام 1975 على أيدى الدول العربية الرجعية والتابعة، بالتحالف مع القوى اللبنانية الطائفية وبرعاية امريكية ودعم اسرائيلى، فى استهداف للوحدة الوليدة بين المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، والذى انتهى بطرد المقاومة من لبنان عام 1982 بعد ان سبق طردها من الاردن، جرد الامة العربية من ساحة اخرى من ساحات مواجهة العدو الصهيونى.

***

تل الزعتر :

مشاركة النظام السورى فى حصار وضرب المقاومة الفلسطينية فى لبنان فى سنوات الحرب الاهلية اللبنانية، لكى يكون له اليد الطولى فى الملف اللبنانى، كان هو ايضا احد الضربات القوية لجبهة المقاومة ضد اسرائيل.

***

الهيمنة الامريكية على الخليج:

استمرار تبعية المملكة السعودية ودول الخليج للغرب بقيادة الولايات المتحدة، الذى بدأ بإمارات الخليج مع بدايات القرن الثامن عشر، وتم تثبيته بعد الحرب العالمية الاولى وتعمق بعد الحرب العالمية الثانية، مَثَّل خنجرا خطيرا فى الجسد العربى، نجحت الولايات المتحدة من خلاله ان تعيد المنطقة الى عصر الاستعمار العسكرى التقليدى المندثر منذ نصف قرن، واحتلالها للخليج العربى 1991 ثم للعراق حتى الان. مع النهب المستمر والمزمن لمقدرات الامة من النفط وعوائده.

***

الصراع السورى العراقى:

الصراع المرير بين حزبى البعث الحاكمين فى سوريا والعراق، بدلا من سعيهما الى توحيد القطرين العربيين الشقيقيين، ومشاركة السوريين فى حرب الخليج الثانية تحت قيادة الولايات المتحدة الامريكية التى انتهت بحصار العراق ثم بغزوه، كان ضربة قوية هى الاخرى فى جسد الامن القومى العربى.

***

الحرب العراقية الايرانية :

تورط العراق بتحريض من النظام الرسمى العربى ودعم امريكى وغربى، فى حرب طويلة مع ايران 1980- 1988، بدلا من التركيز على مواجهة اسرائيل، خاصة بعد مأساة كامب ديفيد، أدت الى انهاك العراق وإضعافه، وإجهاض مشروع التعاون العربى الايرانى فى مواجهة الولايات المتحدة والمشروع الصهيونى.

***

الاحتلال العراقى للكويت والاستدعاء الخليجى للأمريكان:

الاستدراج الامريكى للعراق لاحتلال الكويت فى اغسطس 1990، واستنجاد العائلات المالكة السعودية والخليجية بالأمريكان لاسترداد عروشهم او حمايتها. والذى انتهى باحتلال الخليج وحصار العراق واحتلاله وتدميره وتقسيمه على امتداد الربع قرن التالى، كان فعلا كارثيا على الامة العربية ووجودها وامنها.

***

التواطؤ العربى:

الصمت والتواطؤ العربى فى مواجهة الاعتداءات والحروب الاسرائيلية على فلسطين ولبنان، وغاراتها على تونس والعراق وسوريا والسودان، والمشاركة العربية فى حصار الشعب الفلسطينى، وادانة المقاومة وحظر تسليحها، فى تماهى كامل مع المشروع الصهيونى وتصفية القضية الفلسطينية.

وكذلك الصمت والتواطؤ والمشاركة فى كل الحملات الامريكية ضد العراق، التى لم تتوقف منذ 1990، وآخرها ما يسمى اليوم بالتحالف الدولى .

***

الاستئثار بالسلطة والثروة:

واقصد بها كل السياسات الرسمية، التى حرمت المواطن العربى من حقه الثابت والعادل فى المشاركة فى ثروات بلاده وفى ادارة شؤونها، والتى يندرج تحتها سياسات القهر والاستبداد والاستغلال والإفقار والتهميش، والتى أضعفت مشاعر الانتماء الوطنى لدى قطاعات كبيرة من الشعوب العربية، فأضعفت الجبهات الداخلية، وجعلتها فريسة سهلة للهزيمة والانكسار والانقسام.

وما ارتبط بذلك مؤخرا من الانقضاض بالقوة والقهر او بالاحتواء و الإفساد، على الثورات العربية وإجهاض أحلام الشعوب فى الحرية والكرامة والعدل والعدالة. وما سينتج عن ذلك من مشاعر هائلة بالظلم قد تسفر عنها موجات غير مسبوقة من العنف، تقضى على البقية الباقية من الامن والاستقرار.

***

كان ما سبق مجرد عينات على سبيل المثال وليس الحصر، وكلها تكشف حجم وعمق الأضرار التى اصابت الامة العربية واستقلالها واستقرارها وأمنها على أيدى النظام الرسمى العربى والأنظمة الحاكمة والحكام العرب، والتى كانت أضعاف مضعفة مما أصابنا على أيدى القوى والأعداء الخارجيين.

ليصبح السؤال الواجب هو: من يمكنه بعد كل ذلك أن يصدقهم أو يؤيدهم او يعطيهم الثقة والأمان ؟

اترك تعليقاً