عربي وعالمي

لبنان – انهيار مُعْلَن، ومعلوم الأسباب، لاقتصاد الرّيع – الطاهر المعز

​ 
قدّمت الحكومة اللبنانية موازنة 2018 بعد عدة أشهر على فوات الأجل القانوني (الدّستوري)، بعد عدم إقرار أي موازنة لفترة عشر سنوات، وارتفاع الدّيْن السّيادي للدولة إلى مستويات قياسية، وتستهلك الدّيون التي حل أجل استحقاقها، مع فوائدها، جزءًا هامًّا من الميزانيات السنوية، فلا يبقى سوى نحو 8% منها للإستثمار، سنويّا، في ظل ضُعف نسبة النمو التي يتوقع البنك العالمي أن تنكَمش بنسبة – 0,2% (أي أن يكون النمو سَلْبِيًّا) فيما تتوقع الحكومة أن لا تتجاوز 1% في أحسن الحالات، وأصبحت “حالة الإفلاس” واضحة للعيان، وأصبح ارتفاع قيمة ونسبة الدّيْن العام (نسبة إلى الناتج الإجمالي المحلي) حديث العام والخاص، لأن الوضع بلغ حافة الإفلاس، والعجز عن السّداد، بينما ينصَبُّ اهتمام رجال السلطة (السياسية والإقتصادية) وزعماء الطوائف على توسيع شبكة نفوذهم، وزيادة عدد الزبائن، عبر الرشوة والفساد والتفريط في المال العام وممتلكات الدولة والشعب…

يمكن تلخيص وضع لبنان، ذي الإقتصاد الرّيعِي (نقيض الإقتصاد المُنْتِج)، في الفقرة القصيرة السابقة، إذ يعتمد اقتصاد لبنان على التدفقات الرأسمالية الخارجية، التي تباطأت، وعلى الودائع التي تراجعت، مما زاد من ضِيق هامش الحكومة (ونظام الإقتصاد الريعي)، وعمدت الحكومات المتتالية، منذ انتهاء الحرب الأهلية وهيمنة آل الحريري على السلطة، إلى تكريس “الزّبُونية” السياسية، ومراكمة الزبائن للإمتيازات، مقابل تحميل الأُجَراء والفُقراء عبء الأزمات والضرائب والدّيون، مع انتشار الفساد وهدر المال والممتلكات العمومية، بشكل مفضوح، جعل المتظاهرين يتحدثون عَلَنًا عن الفساد والهدر والإعتداء على الملك العام، وعن المعابرُ غير الشرعية (ذكر تقرير صندوق النقد الدولي في بداية تموز/يوليو 2019، وجود 124 معبر غير شرعي لمرور البضائع)، في الميناء البحري وفي المطار، والتي يستخدمها زبائن الحكومة لإدخال جميع المواد، دون تسديد الرسوم، وذلك تحت حماية الزعماء السياسيين والحكومة، لأنها حكومة طبقية فاسدة…

أهمل صندوق النقد الدولي التهرب الضريبي والفساد، ودعا الحُكُومةَ اللبنانية (01 تموز/يوليو 2019) إلى تعزيز إيرادات ميزانية الدّولة، عبر زيادة الضرائب غير المباشرة، أي تلك التي يُسدّدها الغني والفقير بشكل مُتساو، كضريبة القيمة المضافة (ضريبة الإستهلاك) والضرائب على الطاقة (البنزين والغاز والكهرباء)، وكل ارتفاع في سعر الطاقة يجر ارتفاعًا في كافة السّلع الأخرى، أما البنك العالمي فقد أقرض لبنان 1,4 مليار دولارا، بشرط خصخصة ما تبقى من قطاع عام، وعدم زيادة عدد الموظفين أو الرواتب والحوافز…

تأثّر الإقتصاد اللبناني بالعدوان على سوريا التي كانت تمثل مُتنفّسًا للدولة وللمواطنين، ولم تعد صادرات لبنان تعبر الحدود السورية باتجاه الخليج، فانخفضت قيمة الصادرات، وارتفعت قيمة الواردات، خصوصًا من الوقود، بالتوازي مع العوامل الأخرى، مثل انخفاض التحويلات المالية الخارجية، ما أدى إلى انخفاض نسبة نمو الإقتصاد إلى 0,2% سنة 2018، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي، فارتفعت نسبة البطالة والفقر، ويتوقع البنك العالمي، أن ترتفع نسبة الفقر من حوالي 33% م(ثُلُثُ اللبنانيين) إلى نحو 50% (أو نصف اللبنانيين)، وأن ترتفع نسبة بطالة الشباب (دون 25 سنة) التي تبلغ حاليا نحو 30% إلى مستويات قياسية، غير معهودة، إذا لم تُعالج الحكومة الوضع بسرعة، لكن الوقائع تُشير أن شروط البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ترفع نسبة الفقر والبطالة، وتتوقع العديد من التقارير (ومنها تقرير نشره “تجمّع الهيئات الاقتصادية”، الذي يَضُمُّ شركات القطاع الخاص والمصارف)، إفلاس الآلاف من الشركات الصغيرة، وتسريح عشرات آلاف العاملين، وتضغط مؤسسات القطاع الخاص على الحكومة، لتزيد من المزايا التي تتمتع بها، كانخفاض الضرائب والقُروض بفائدة ضعيفة، وليس حرصًا على وظائف ورواتب العمّال… ويمكن إدراج جملة هذه العوامل في باب “أهم أسباب انتفاضة خريف 2019″…

شكلت الحرب على سوريا، إحدى أسباب الأزمة الإقتصادية، وارتفاع حجم الدين العام إلى 86,2 مليار دولارا، بنهاية الرّبع الأول من سنة 2019، بحسب وزارة المالية اللبنانية، أو ما يعادل 151% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان العديد من الخبراء الإقتصاديين والسياسيين والنقابيين قد انتقدوا، منذ سنوات سياسات المصرف المركزي الذي أنشأ “هندسَة”، أو نظام اقتراض (بالدّولار) يُفيد المصارف الخاصة، ويَضُرّ باقتصاد الدولة التي تُشكل هذه القروض نحو 80% من ديونها، وتراكمت أرباح المصارف، على حساب الدولة والمواطنين، لتتجاوز قيمة مدفوعات فوائد هذه القُروض، 9% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغت نسبة الإنفاق على الدين والفائدة (خدمة الدّيُون) نحو 38% من ميزانية الدّولة، وتبعًا لذلك، ارتفع عجز الموازنة، إلى 8,6% سنة 2017، وبلغ سنة 2018، نحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي…

أصدر لبنان سندات دولية (أي رَهْن ممتلكات الدولة والشعب) بقيمة نحو 15 مليار دولار بين تشرين الأول/اكتوبر 2014 وآذار/مارس 2019، وتخصّص الدولة جزءًا هامًّا من إيراداتها لتسديد الديون، وفوائدها، بالدولار، وعلى سبيل المثال، حل موعد تسديد ديون مُستحقة (على السندات) بالدولار، بقيمة 1,5 مليار دولار، يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قبل يوم واحد من تحرير هذه الفَقرات…

تأثيرات الإنهيار الإقتصادي:

تسببت أُسْرة الحريري في تفاقم أزمة لبنان، إذ ارتفعت قيمة الدَّيْن العام من 1,5 مليار دولارًا عند تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة، إلى أكثر من مائة مليار دولارا، في عهد ابنه “سعد”، بنهاية 2018، نتيجةً للسياسات المتّبعة من الحريري الأب إلى الحريري الابن، بين 1992 و 2018، والتي تشكّل خطرًا على الاقتصاد اللبنانيّ، وعلى حياة المواطنين، بحمايةٍ من صندوق النقد الدوليّ والبنك العالمي، وبدل البحث عن حلول للقضاء على الفقر وتشغيل العاطلين والفُقراء، ألغت الدولة (كما في بلدان عديدة أخرى) كافّة آليّات الحماية الاجتماعيّة الحكومية، وخصصت مبلغًا صغيرًا محدودًا مُسبقًا، لإعالة الفئات الأكثر فقرًا، وتثْبِيت وضعهم المُزْرِي، أما الأثرياء المُقربون من السلطة، والذين يُشكّلون نسبة ضئيلة من المجتمع، فقد زادت ثرواتهم من خلال سياسات المصرف المركزي، وما سمي “ثُنائية النقد”، التي سمحت لهم بالاستدانة بالدولار بفوائدَ محدودة، تتراوح بين 5% و 7% لاستثمار الأموال المُقْتَرَضَة في سنداتِ الخزينة بفوائدَ مرتفعة تتراوح بين 30% و 35%، وهي عملية مضاربة رباويّة الطابع، تُمَكِّنُ من جَنْيِ أرباحٍ غيرَ شرعيّة، بحماية الدولة والمصرف المركزي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وقسم هام من وسائل الإعلام (التي يملكها الأثرياء)، رغم الضرر الذي ألحقَتْهُ هذه السياسات باقتصاد البلد وبمستوياتِ عيش المواطنين، وأدّت الفوائدُ المرتفعة على الليرة اللبنانيّة إلى تراكم الديْن العامّ، وإلى نهب موارد الدّولة، وإهمال صيانة البُنية التّحتِيّة وشبكة الكهرباء، وتوزيع المياه، وشبكة الصرف الصّحّيّ، وشبكة معالجة النفايات، وكانت الدولة اللبنانية قد حصلت على قُرُوض بفوائد منخفضة واستفاد منها الفاسدون واللصوص، بدل إنفاقها في صيانة هذه الشبكات…

أدّت هذه السياسات الإقتصادية وما سُمِّيَ “الهندسات المالية للمصرف المركزي” إلى تفاقم أزمة الإقتصاد اللبناني، بالإضافة إلى السياسة العدوانية ضد سوريا، التي أدّت إلى قَطْعِ العلاقات (من جانب الحكومة اللبنانية، بضغط أمريكي وفرنسي وسعودي)، وإلى قطع الأوكسجين عن الإقتصاد اللبناني، كما ضغطت نفس القوى الأجنبية لمنع اللاجئين السّوريين من العودة إلى بلادهم، بعد تطهير ثلاثة أرباع سوريا من المليشيات الإرهابية…

هذه بعض أسباب انتفاضة خريف 2019، ولم يُطالب المُتظاهرون بإلغاء الدّيون، لكنهم يُدْرِكُون سبب الدّاء، حيث توجّهوا إلى مًبْنَى المصرف المركزي، ورفعوا شعارات ضد “جمعية المصارف” التي ساهمت (مع الحكومات المتعاقبة) في زيادة قيمة الدّين العام…

مظاهر الأزمة في الحياة اليومية:

حَدّدت المصارف، منذ بداية سنة 2019، سَقَفًا لتحويل الليرة إلى الدّولار (كانت هذه العملية حُرّة، وبدون قُيُود تُذْكَر)، بسبب أزمة السيولة التي تشهدها البلاد، ثم خفضت المصارف ذلك السّقف الذي حدّدَتْهُ سابقًا، وحددت جمعية المصارف سقف السحب الأسبوعي للمودعين بأَلْف دولار، ما تسبب بارتفاع الطلب على الدولارات، وتغير سعر صرف الليرة الذي كان مثبتاً على 1507 ليرات مقابل الدولار منذ سنوات، إلى أكثر من 2300 في السوق الموازية، واغتنم التجار الفرصة لزيادة الأسعار، بذريعة شح الدولار، وعدم قُدْرة تجار الجملة وشركات التّوريد على استيراد المواد الأساسية من الخارج، فانقطعت سلع عديدة من الأسواق، بما في ذلك المواد الغذائية، والأدوية والمُعدّات الطّبِّيّة التي ارتفعت أسعارها كثيرًا، على النّقِيض من متوسط الدّخل للمواطنين، خصوصًا الفُقراء والأُجَراء، الذين يُعانون من ارتفاع الأسعار ومن التسريح التّعَسُّفي، بحسب “الاتحاد العمالي العام” (نقابة الأُجَراء) الذي نَدّد في بيان صادر يوم الإربعاء 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، بارتفاع حجم الطّرد التّعسُّفي للعمال، في عدد من القطاعات، ويتعلل أرباب العمل “بالظروف الطارئة”…

يُعاني المواطنون أيضًا من شُحّ البنزين، ومن “الإضراب المَفْتُوح” الذي أطلقه أصحاب محطات الوقود منذ يوم الخميس 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، احتجاجاً على “الخسائر التي تكبدها القطاع نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية ونظراً إلى عدم التزام مصرف لبنان والشركات المستوردة للمشتقات النفطية بالاتفاق بين الطّرَفَيْن”، واصطف المواطنون أمام محطات الوقود لساعات طويلة في محاولة للحصول على كمية من البنزين تكفيهم للوصول إلى منازلهم أو للتوجه إلى عملهم، وبقيت سيارات عديدة على جوانب الطرقات، بسبب انتهاء كمية الوقود في الخَزّانات، فيما توقفت سيارات أخرى في بيروت وطرابلس ومدن أخرى وسط الطريق، احتجاجًا على إضراب أصحاب محطات الوقود…

عمومًا أدّى انخفاض قيمة العملة اللبنانية أمام الدولار، إلى ارتفاع أسعار كافة السلع، ما زاد من هموم المواطنين، حيث أصبح توفير الغذاء والدواء والمحروقات وكافة المواد الإستهلاكية الضّرورية، هاجِسًا يومِيًّا، حتى لمن كانوا يعتبرون أنفسهم ينتَمُون لما يُسمّى “الفئات المتوسطة”، خصوصًا بعد الإرتفاع الجنوني وغير المُبَرّر لسلع سلع أساسية، وفقدانها من الأسواق أحيانًا، من بينها حليب الأطفال والحفاضات للرُّضّع…

خاتمة:

من الغريب عدم مُطالبة المُحْتَجِّين بإلغاء الدّيون، وبمحاسبة المُسْتفيدين منها، خلال الإحتجاجات الأخيرة (تشرين الأول وتشرين الثاني/نوفمبر 2019)، وطالب البعض بإعادة هيكلتها، أو إعادة جدوَلَتِها، فيما طالبت قلة بإلغاء جزء منها، وتجرّأ بعض الشُّبّان على استهداف المصارف والمنظومة المصرفية، ومحاولة احتلالها أو الإعتصام أمامها، بما فيها المصرف المركزي، رأس حربة اقتصاد الرّيع اللبناني، لكن المسألة الأهم تتعلق بغياب البديل، وبغياب القوى المُنظّمة القادرة على إزاحة النظام الحالي، الذي يتميز بمزيج من الطابع الطّبقي والطّائِفِي، واستبداله بنظام يُنْصِفُ العُمّال والمُنْتِجِين والفُقراء، ويتضامن مع الشعب الفلسطيني ومع الشعب السّوري، بدل استغلال اللاجئين وإلقاء مسؤولية الأزمات على من أرهقتهم الحُروب والفقر، زيادة عن اللجوء خارج أوطانهم، ولا تقتصر هذه الملاحظة (غياب البديل) على لبنان، بل تنسحب على كافة البلدان العربية (وغير العربية)، وما نموذج تونس ومصر سوى الجزء الظّاهر من غياب البديل التقدّمي، والعجز عن تحويل الإحتجاجات والإضرابات والإنتفاضات العفوية، إلى ثورة تستهدف النظام (ولا تقتصر على بعض رُموز النظام التي تُضحّي بها الإمبريالية)، والسيطرة على أدوات الإنتاج، والسّلطة السياسية والمنظومة الإقتصادية والمالية، ولا تعني هذه الملاحظةُ، إهمالَ دَور الإمبريالية، التي تدعم وُكلاءها، من الحُكام العرب وغير العرب، فالإمبريالية قادرة على التّدخّل عسكريًّا وتنظيم الإنقلابات، لضمان مصالحها ومصالح شركاتها العابرة للقارات، وهو ما يحصل حاليا في أمريكا الجنوبية، في بوليفيا والبرازيل وفنزويلا، لكن إرادة الشعوب أقوى من أساطيل الإمبريالية…

kanaanonline.org