الأرشيفعربي وعالمي

لبنان بين الطائف وأمراء الطوائف – معين الطاهر

يتحدّث كثيرون في لبنان والعالم العربي عن “الميثاق الوطني” الذي تأسس بموجبه لبنان الحديث، ومُنح على أثره الاستقلال، أو بتعبير أدق، تكريس فصل لبنان عن سورية. ما هي حكاية هذا الميثاق الذي لم يُذكر في الدستور اللبناني، ولم يُكتب، ولم يسجّل، ولا توجد أي وثيقة رسمية تتحدّث عنه، مع أنه هو الذي رسم هوية لبنان الجديدة، وقسّم المواقع بين طوائفه، وسمح بتعايشها حينًا، وبخلافها واقتتالها أحيانًا.

حوّل الزعماء الأديان والمذاهب إلى طوائف وعصبيات متخيّلة، تقف في مواجهة طوائف أخرى، تتحالف معها وتتقاسم وإياها خيرات الوطن، أو تتقاتل على مغانمه، وفقًا لمصالح زعماء الطوائف ورموزها، وينحاز لهم جمهورهم، ليدافع عن حقهم أو باطلهم، ويعتبر المساس بهم مساسًا بالطائفة وكرامتها ورموزها، لتحل الطائفة محل الوطن.

 

منذ ذاك الوقت، لبنان يُحكم باتفاق غير مكتوب وغير مسجّل، تم بين رياض الصلح وبشارة الخوري في اجتماع لم يُدوّن، ولم تتم الإشارة إليه في الدستور اللبناني، عُرف بـ”الميثاق الوطني”، مع أنه لم يخضع لتصويتٍ أو استفتاء شعبي، أو مصادقة أي هيئة، مهما كان شكلها. وتضمن هذا الميثاق غير المكتوب تقسيمًا للمواقع والوظائف الحكومية كافة؛ فرئيس الدولة ينبغي أن يكون مسيحيًا مارونيًا، ورئيس مجلس النواب، وكان يُعرف باسم المجلس الوطني سابقًا، هو مسلم شيعي، ونائبه مسيحي أرثوذكسي، أما رئيس الوزراء فهو مسلم سني، وقائد الجيش مسيحي ماروني، في حين أن رئيس الأركان من الموحدين الدروز. وتُقسّم مقاعد مجلس النواب المنتخب بحيث تكون نسبة النواب المسيحيين إلى النواب المسلمين 6 إلى 5. وجعلت هذه التركيبة الطائفية من لبنان بلدًا هشًا، تؤثر فيه أي متغيرات في الإقليم من حوله، أو تهزّه أي رياح تهب عليه، ويختلّ بنيانه لدى شعور أي من مكوناته بالغبن، أو بالاستقواء من شركاء الوطن، نتيجة تغيّر في المعادلة الداخلية أو الخارجية. وعلى الرغم من الشعار الذي ساد بأن قوة لبنان تكمن في ضعفه، إلا أن هذا الضعف المتولّد من طبيعة النظام الطائفي نفسه، يحمل في داخله معادلة جدلية تتضمن الاتفاق بين زعماء الطوائف وممثليها، والصراع بينهم في آن واحد، في محاولة من كل منهم تعزيز مواقعه وإضعاف خصومه وشركائه، أكانوا من داخل طائفته، أم من الطوائف الأخرى.

 

لم تجلب المحاصصة الطائفية الهدوء والأمن والسلام للبنان، بل كانت مفتاحًا للفتن والحروب الأهلية، حتى في داخل الطائفة الواحدة، وبوابة مشرعةً أمام التدخل الأجنبي، فمنذ عام 1974، شهد لبنان تدخلاتٍ عسكرية، وحروبًا على أراضيه، شاركت فيها قوات فلسطينية وسورية وأميركية وفرنسية، واحتلالا إسرائيليا منذ عام 1982 وحتى عام 2000. إضافة إلى القوى اللبنانية المتصارعة، والتي حظي كلٌّ منها بدعم خارجي من هذه الجهة أو تلك.

 

لم تقتصر الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 14 عامًا، وأدّت إلى مقتل ما بين 120 و150 ألفًا، على الاقتتال بين الطوائف، وإنما امتدت إلى داخل الطوائف ذاتها، في محاولة من أمراء الحرب في كل طائفةٍ للسيطرة على طائفته، وعزل القيادات والقوى الأخرى وتصفيتها. وهنا، ينبغي أن يلاحَظ أن التغيّرات القيادية التي جرت في داخل كل طائفة، أكانت عن طريق استخدام القوة، كما هو في فترة الحرب الأهلية، مثل تصفية القوى المسيحية الأخرى لصالح القوات اللبنانية، أم من خلال صعود قوى وتراجع أخرى، مثل تأسيس حركة أمل، على يد السيد موسى الصدر، على حساب الإقطاع السياسي الشيعي، أو ظهور حزب الله لاحقًا، أو بروز تيار الرئيس رفيق الحريري على حساب قوى سنية أخرى، لم يكن ذلك كله خروجًا عن المعادلة الطائفية، بل تكريسًا لها وتعزيزًا لوجودها.

 

أعاد مؤتمر الطائف (سبتمبر/ أيلول 1989) تشكيل التوازن الطائفي في لبنان، فبدلًا من معادلة 6 إلى 5، أصبحت المقاعد مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، كما قلص من صلاحيات رئيس الجمهورية، وأحالها إلى مجلس الوزراء مجتمعًا، والقرارات التي يصدرها مجلس الوزراء إن لم يقم الرئيس بالمصادقة عليها، أو إعادتها إلى المجلس خلال أسبوعين، أو أصرّ عليها المجلس، تصبح نافذة حكمًا. ولكن مجلس الوزراء، وفقًا لتعديلات الطائف، يحتاج إلى ثلثي الأعضاء كي تُعقد جلساته، كما أنّ قراراته يلزمها موافقة أغلبية الثلثين، وهو ما عُرف لاحقًا بمصطلح “الثلث المعطِل”. وتحدّث اتفاق الطائف بخجل عن إلغاء الطائفية السياسية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، لدراسة واقتراح الطرائق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وذكر مرحلة انتقالية يتم فيها إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي، واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة. وأشار إلى أنه “مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني غير طائفي، يُستحدث مجلسٌ للشيوخ، تتمثل فيه العائلات الروحية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”. ولم يحدد تاريخًا زمنيًا لتنفيذ ذلك، فلم تُطبّق هذه الإجراءات خلال ربع قرن على اتفاق الطائف.

 

لا تحمل الكيانات الطائفية عوامل استقرار في داخلها، بل هي وصفة جاهزة للانفجار أمام أول أزمة، أو عند أي منعطف في موازين القوى السائدة محليًا وإقليميًا. معادلات “الطائف” لم تحل المشكلة، وإنما عقدتها. الثلث المعطل شل حكومات لبنان، وأدّى إلى غياب الدولة أشهرا وأعواما، وساعد على إبرام صفقات الفساد، وصلاحيات رئيس الجمهورية التي قُلّصت يلوّح جبران باسيل (التيار الوطني الحر) بضرورة إعادة النظر فيها، وقد اعتبرها الرئيس ميشال عون تبريرًا لعجزه عن إجراء إصلاحات.

 

وفي مقابل الحديث عن صلاحيات رئيس الجمهورية، يردّ بعضهم بطرح شعار المثالثة، مستندين، في غياب أي إحصاء رسمي للسكان، إلى سجلات الناخبين، وقيود الأحوال الشخصية، والتي تفيد بأن عدد المسلمين يكاد يقارب الثلثين، وهي إشارات ودلائل تنذر بعودة البحث في التوازنات الطائفية في لبنان، حتى وإن بدا للعيان أن ثمّة اتفاقا بين أركانه على بقائه، فإن ثمّة خلافًا كبيرًا على توزيع تركته، وهو خلافٌ محكوم بموازين قوى إقليمية في طابعها الأعم، وتسمح لهذه القوى بالتدخل في الشؤون اللبنانية. وهذا هو حال الوصفة الطائفية التي جُربت في لبنان، فلم يُحصد منها سوى الحروب والفساد، ونُقلت إلى العراق، فكانت وبالًا على أبنائه.

 

مهما بدا الحال وكأن المتنفذين في الطوائف وأركان السلطة يمسكون بزمام الأمور، فإن لبنان أشبه بقِدْر الحليب على النار؛ تشاهده فترى سطحه الأبيض الهادئ، ولا ترى تفاعلات ما تحت السطح، لكنه ما يلبث أن يفور مرة واحدة. وهو ما فاجأ الشعب اللبناني به الجميع في خطوةٍ لعلها تكون حجر الأساس باتجاه لبنان حرّ وديمقراطي، بعيدًا عن الطوائف المتخيلة كلها.

 

لبنان بين الطائف وأمراء الطوائف – معين الطاهر