الأرشيفعربي وعالمي

” نحن صنعنا تشافيز: “تاريخ شعبي للثورة الفنزويلية

الحلقة الأخيرة من كتاب

  فذلكةُ القول
 
سلطةٌ ثنائيةٌ ضدَّ الدولةِ السحرية
 

قومٌ متفرقون، قلوبٌ متفرِّقة

،
نضالاتٌ متفرقةٌ، فلنبحثْ عن الأسباب


لمَ لا نتَّحِدُ، إن كانت البندقيةُ والإنجيلُ

اتحدا بين يدَيْ كاميلو؟

أتساءلُ، أتساءلُ، لماذا نُقسِّمُ أنفسنا

،
ما دام هذا يُسعدُ أعداءنا؟

لماذا نُصرُّ على عزلِ نضالاتنا

،
نضالاتِنا التي يجبُ أنْ تقودَنا إلى النصرِ النهائيّ؟

(علي بريميرا)
 

  بطرقٍ عديدةٍ، كان تاريخُ الشعبِ هذا تاريخاً لتشتُّتِ الشعبِ: لقد أدَّى الفشلُ الذي حاقَ بالحربِ الغِواريةِ الفنزوليةِ، التي كانت كفاحاً ممثِّلاً للشعبِ في مطامحِه لا في تجمُّعِه، تشتُّتُ القوى الشعبية. لذلك أدَّى هذا التشتُّتُ إلى فترةٍ تطوَّرَ فيها تلقائيًّا تعدُّدٌ للحركاتِ والنضالِ في المجتمعِ الفنزوليِّ، وفي المصانعِ، والأحياءِ الفقيرةِ، والمدارسِ، والبيوتِ، والأحزابِ، وتعدُّدٌ للتنظيماتِ الثوريةِ والتشكيلاتِ السياسية. بيد أنه، بينما كانت فترةُ التشتُّتِ والتطوِّرِ التلقائيِّ هذه حاسمةً في تعزيزِ الهويّاتِ الأفريقيةِ والمحليةِ الأصيلةِ، والنسائيةِ، فإنّ قلةً قليلةً ترى في تشتُّتِ الحركاتِ هذا تطوُّراً إيجابياً واضحاً، وغايةً في حدِّ ذاتِه. وهكذا، بالرغمِ من أنني لا أوافقُ قولَ بْريميرا إن أيَّ تقسيمٍ للنضالِ ضعفٌ، وأنني قطعاً مع فكرةِ أنْ قد يكون ثمةَ شيءٌ كـ”النصرِ النهائيِّ”، مع هذا أقبلُ فكرتَه أنّ هذا النضالَ المُتشتِّتَ ينبغي في نهايةِ المطافِ أن يسعَى إلى نوعٍ من إعادةِ التوحيدِ إنْ كنا نطمحُ بنصرٍ ما. ففي نهايةِ المطافِ، إنّ إعادةَ توحيدِ النضالِ هو أيضاً جزءٌ من هذا التاريخِ، إذ أنّ تلك الحركاتِ الكثيرةَ المُتشتِّتةَ المُتنوِّعةَ ارتبطت في النهايةِ بعضُها ببعضِها الآخرِ في سلسلةٍ متفجِّرةٍ من الأحداثِ: في هبّةِ كاراكاس، وفي الانقلابين الفاشلين عام 1992، وفي انتخابِ تشافيز عام 1998. أضفْ إلى ذلك أن إعادةَ التوحيدِ هذه كانت أكثرَ من محض نقضٍ لتشتُّتِها، بل إنها صنعت تقدُّماً جدليًّا واضحاً: إنّ حركاتِ هذا اليومِ أكثرُ قوةً وتطوُّراً مما كانت ستكون عليه لو لم “تتشتّت” في المقامِ الأول.

مع هذا، أعجَبُ كيف لي أن أوفِّقَ بين علي بريميرا في بكائِه على التشتيتِ وبين رَؤول زِبيشي، مثلا، في إصرارِه على “السلطةِ المُشتِّتةِ”. ذلك أنّ هذا المُنظِّرَ الأوروغوائيَّ الجذريَّ، إذ يتفكَّرُ بالثوراتِ الحديثةِ في مجتمعِ إلْ ألْتو البوليفيِّ، يُنادي ببناءِ سلطةٍ منسلخةٍ عن الدولةِ، وبأفقيّتِها وغيابِ المؤسساتِ والقيادةِ والمنطقِ الأحاديِّ فيها، “تُشتِّتُ الدولةَ ولا تُعيدُ خلقَها.”[1] فهل يقف كلٌّ من بريميرا وزِبيشي متعارضَيْن أساساً حول كيفيةِ خلقِ تغييرٍ ثوريّ؟ هل يسمحُ بريميرا بأيِّ تشتيتٍ للقوى في الوقتِ الحاضر؟ وهل يرى زِبيشي النضالَ المستقبليَّ مُتطلِّباً أيَّ إعادةِ توحيدٍ لقوتِنا على الإطلاق؟ أما بالنسبةِ إلى إنريك دوسِل، فإنَ “تصفيةَ الدولةِ” (وهو ما يسميه زِبيشي تشتيتَ السلطةِ) – التي تُشبهُ كثيراً المجتمعَ اللاطبقيَّ – فرضيةٌ معياريةٌ تُفيدُ في تكييفِ إستراتيجيتِنا بحسبِ الحاضر.[1]  لكنه يصرُّ على أنّ خطأً فادحاً يُرتكَبُ حين نُربكُ ذلك المثالَ أو نُغيِّرُه، ذلك الأفقَ النهائيَّ الذي نهدفُ إليه لأجل الاستراتيجيةِ نفسِها، مُعتبرين تحطيمَ الدولةِ مُهمتَنا الفوريةَ في الوقتِ الحاضر. أما الخطرُ القاتلُ الذي يفرضُه هذا الخطأُُ، فيُمكنُ رؤيتُه في الموقفِ الذي يتخذُه بعضُ الفوضويين المعاصرين تجاهَ العمليةِ الجاريةِ في فنزولا: إنهم، إذ أعمتهم الحاجةُ المُدرَكةُ لتحطيمِ الدولةِ الآن، لا يستطيعون أنْ يرَوْا الغابةَ الثوريةَ وراءَ الشجرة. فقد يؤدِّي وضعُ أهدافِنا النهائيةِ أولويةً في حاضرِنا إلى إعمائنا عن كيف أنّ التغييرَ الثوريَّ يحدثُ وكيف أنّ حدوثَه جارٍ في فنزولا. وبدلَ أن يرى بعضُهم الثورةَ جاريةً في فنزولا، لا يرَوْنَ إلا استمراراً للدولةِ، وللمؤسساتِ الفاسدةِ، وللقادةِ ذوي الجاذبية. نقيضاً لهذا الرأيِ – الإصرارِ الأعمى على وجوبِ تشتُّتِ جميعِ السلطةِ على الفورِ هنا والآن – وصفَ بريميرا شعبَه بما يلي

:
خشبٌ يعبقُ بالياسمينِ والقهوة

،
خشبٌ نفيسٌ، خشبٌ نفيسٌ

،
خشبُ أملٍ، خشبُ أغنية

.
دعونا نجعلْ هذا الخشبَ في يدٍ

تضربُ بقوةٍ من لا يكفُّون

عن ضربِنا، عن ضربِنا، عن ضربِنا.
 

بعبارةٍ أخرى، علينا إستراتيجيًّا أن نُراكمَ ونُعزِّزَ ونطوِّرَ سلطتَنا أولاً إن أردنا أنْ نكونَ قادرين على “تشتيتِ” سلطةِ أعدائنا لاحقا. ولكي لا يُثيرَ هذا التمييزُ القلقَ (كما أني متأكِّدٌ من أنه سيفعل)، سأكون ُواضحاً: ليست هذه مسألةَ تأجيلٍ للثورةِ “الحقيقيةِ” إلى وقتٍ لاحقٍ، أو قبولٍ بمؤسساتٍ “كما هي” في الوقتِ الحاضرِ، بل إنها إصرارٌ على الحاجةِ لفهمِ تراكمِ القوى كبديلٍ عن الثورة.
كيف نبني هذه السلطةَ الأخرى، وكيف سيكونُ شكلُها؟ من المؤكَّدِ، كما بيّنتُ في الفصولِ التي ألّفتْ هذه الدراسةَ، أنّ التوحيدَ المبدئيَّ لقوى الثورةِ في السنواتِ التي أدّت إلى انتخابِ تشافيز قد برزَ حول صورةِ تشافيز، وفكرةِ الشعبِ، والدستورِ الذي ظهرَ لاحقاً عند تقاطعِ الاثنين. وهذه الثلاثةُ كلُّها يُمكنُ أنْ تُفهَم كما أسماها إيرْنِستو لاكْلاو “الأدلةَ الفارغةَ،” أوعيةً فارغةً بما يكفي لتودَعَ فيها المطامحُ الثوريةُ ونقاطُ التركيزِ التي يُمكنُ تعزيزُ السلطةِ حولَها.[1] لكنّها تنطوي على أكثرَ من هذا. لقد شهدت السنواتُ اللاحقةُ لانتخابِ تشافيز، التي تحوّل فيها هذا التوحيدُ إلى تطويرٍ وتراكمٍ للقوى، وهو تعميقٌ للسلطةِ الشعبيةِ، عمليةً أقربَ إلى ما أسماه دوسِل، مُتَّبعاً بوفِنْتورا دي سوسا سانتُس، “الحوارَ والترجمةَ،” حيثُ تعلّمت العناصرُ المؤلِّفةُ لكتلةِ أنصارِ تشافيز بعضُها من بعضِها الآخرِ وترجمت نضالاتِها إلى عباراتٍ واضحةٍ بشكلٍ متبادَلٍ، مُنتجةً فهماً مُتزايداً لوظيفةِ الاضطهادِ العرقيِّ والجنوسيِّ والطبقيِّ المتقاطعة.[1] لقد أدركت مُنظِّماتُ النساءِ بشكلٍ متزايدٍ أنّ النساءَ المُلوَّناتِ الفقيراتِ يحملن عبءَ اللبراليةِ الجديدةِ، كما أنّ الفنزوليين الأفارقةَ والمحليين الأصيلين سعَوْا إلى تحالفٍ انتُظرَ طويلاً ولو كان لا يزالُ تمهيديًّا حول مسألةِ الأرضِ، وأدركَ التلاميذُ أن هناك مجتمعاً كاملاً خارجَ أسوارِ الجامعةِ، وتخلَّى المغاويرُ الطاعنون في السنِّ هم وخَلَفُهم المعاصرون عن ميولِهم الطليعيةِ وبدأوا يتعلَّمون كلَّ هذه الدروسِ معا.
لكنْ، كما بيّنت الفصولُ السابقةُ، من النادرِ للحوارِ والترجمةِ هذين أنْ يقومَ بهما طوعاً من يتولَّوْن مواقعَ ذاتَ امتيازٍ نسبيّ. وهكذا، إلى جانبِ الحوارِ والترجمةِ – وحقًّا كمكوِّنٍ أساسيٍّ لهما – شاهدنا معركةً أطلقَ فيها بعضُ المجموعاتِ والحركاتِ، خاصةً النساءَ والفنزوليين من أصولٍ أفريقيةٍ، مطالبَ قويةً بل إنذاراتٍ تُجبرُ مثلَ هذه الترجمةِ على أنْ تحدث. إنّ هذا الخلافَ الثوريَّ الداخليَّ، هذه الجدليةَ داخلَ الجدليةِ التي أحياناً ما تتقدّمُ بالضرباتِ، قد أثبتَ أنه أساسيٌّ لإعادةِ توحيدِ الشعبِ، أكثرَ بكثيرٍ من صورةِ “القائدِ العظيمِ” الذي تُبالغُ في صنميتِه الصحافةُ الأجنبية والتابعةُ للمعارضة. وقد ملأت هذه العمليةُ “الدليلَ الفارغَ” الذي هو هوغو تشافيز بقناعةٍ مؤكَّدةٍٍ إذ دفعتهُ الحركاتُ الثوريةُ التي بُحثت في الفصولِ السابقةِ جذريًّا إلى اليِسار. إن تاريخَ الكفاحِ هذا لهو أفضلُ لقاحٍ ضدَّ النزعةِ الحقيقيةِ نحوَ المجانسةِ التي تُخرسُ المطالبَ المثيرةَ للجدلِ في مسعًى إلى عدمِ هزِّ قاربِ أنصارِ تشافيز؛ وبالنسبةِ إلى المُنظِّمين الفنزوليين الأفارقةِ، كانت المخاطرةُ بهزِّ هذا القاربِ في الماضي ذاتَ جدوى، ولم يُنسَ هذا الدرس. لكنْ، إذا كانت هذه العلميةُ الداخليةُ عمليةً أساسيةً تقتربُ فيها القوى الثوريةُ وتتشابكُ أكثرَ بعضُها ببعضِها الآخرِ، كالبندقيةِ والإنجيلِ لدى الكولُمبيِّ الثوريِّ القِسِّ كاميلو تورِس، فعلينا الآن أنْ نلتفتَ إلى السؤالَ الأوسعِ الذي بين أيدينا. كيف لهذه الكتلةِ المتضامنةِ المُوحَّدةِ، هذا “الشعبِ” المتجذِّرِ حديثاً، أنْ يكونَ ذا علاقةٍ بأعدائه، وبشكلٍ أعمَّ بالدولة؟

 
سحرُ الدولةِ المُحطِّم

كان هذا تاريخاً للنضالِ وللفشل، ثم لمزيدٍ من النضال. كما كان نضالاً لأجلِ الدولةِ وضدَّها معاً، تجشّمَه من يحملون ارتياباً صحيًّا تجاهَ تلك الدولةِ، ارتياباً تشرَّبوه من عقودٍ من النضالِ لا يُمكنُ أن يكونَ إلا ضدَّ القولِ المُحدَثِ، والمُلطَّفِ قليلاً به، بأنّ هذا الضدَّ قد يكون أيضاً “لأجل”: لأجلِ الاستخدامِ الإستراتيجيِّ لعناصرِ الدولةِ، لأجلِ خلقِ البديلِ، لأجلِ هدمِ جهازِ الدولةِ كلِّه هدمًا نهائيًّا. وهكذا، من غيرِ أنْ يكونَ هذا تاريخاً للدولةِ بحدِّ ذاتِها، وبالرغمِ من إصراري على صنعِ تاريخٍ “من الأسفلِ” تنطوي عليه سلطةٌ بديلةٌ، لا بدَّ لهذا التاريخِ من أنْ يأخذَ باعتبارِه مسألةَ الدولةِ. وكما ينبغي أن يكونَ واضحاً الآن، إنّ قلةً من الثوارِ الفنزوليين في الخمسين سنةً الماضيةِ قد نظرت إلى الدولةِ بهدفٍ تبسيطيٍّ متمثِّلٍ “بالاستيلاءِ” على السلطة: لقد عفا الزمنُ على هذه الخططِ، لكنّها تركتْ وراءها آثاراً عفنةً مؤذية. بيدَ أنَّ هذا ليس تاريخَ الابتعادِ عن السلطةِ، والابتعادِ عن الدولةِ، ومحاولةِ “تغييرِ العالمِ” بعملِ أيِّ شيءٍ ما عدا لمسَ تلك القوةِ السحريةِ السالبةِ، التي هي الدولة.

حاولتُ تجنُّبَ هاتين القدسيتين التوأمين بالتركيزِ تركيزاً واعياً على تاريخِ وأصواتِ من كان نضالُهم عموماً خارجَ قاعاتِ السلطةِ التقليديةِ وأعاليها الآمرةِ، أصواتٍ تحوّلت حديثاً فقط من المعارضةِ المباشرةِ لهذه السلطةِ إلى جدليةٍ مُعقَّدةٍ مع سلطةِ الدولةِ الشرعيةِ ومؤسَّساتِها. لكنّ هذا لا يؤدِّي، ولم يؤدِّ، ولا يُمكنُه أنْ يؤدِّي إلى إهمالٍ للسؤالِ عن طبيعةِ الدولةِ عموماً والدولةِ الفنزوليةِ خصوصاً، وفي اللحظةِ التي نُعيرُ هذه المسألةَ اهتمامَنا، نجدُ بعضَ التبريرِ للموقفِ المرتابِ الفوضويِّ: هذه ليست أيَّ دولةٍ، بل إنها “دولةٌ سحريةٌ،” كما وردَ في مقولةِ الراحلِ فيرنَنْدو كورونِل الخلاّقة. وفي محاولتِه تشخيصَ “تقديسِ الدولةِ” في تاريخِ فنزولا في القرن العشرين، شاركني كورونِل في مُهمّتِه في كثيرٍ مما هدفتُ إليه في تشخيصِ ومقاومةِ تقديسِ الدولةِ (وتشافيز كشخص) اللذين يُصاحبان كثيراً من النقاشِ حولَ فنزولا المعاصرة.[1] لكنّ كورونِل اعترف بأنّ هذه المهمّةَ تتطلّبُ منه أنْ “ينظرَ إلى التاريخِ الفنزوليِّ من أعلى،” وبأنه إذا وقعَ هو نفسُه “في شَرَكِ” هذا المنظورِ من أعلى إلى أسفلَ، فقد تُستَثنَى “القطاعاتُ التابعةُ” “من المشهدِ أو تبقَى صوراً مُبهمةً في الخلفية.”[1]

بالنسبةِ إلى كورونل، يتأتَّى “سحرُ” الدولةِ من قدرتِها على إنفاقِ ما في باطنِ الأرضِ مما تزعمُ سلطتَها الشرعيةَ عليه: أعني النفط. لكنْ، إن كان علينا أن نتجنّبَ الوقوعَ في شَرَكِ النظرِ من أعلى، فعلينا أنْ نسألَ: كيف كانت الاستجابةُ من أسفلَ، من “القطاعاتِ التابعةِ” لسحرِ الدولةِ المُليَّنِ بالنفط؟ ففي نهايةِ المطافِ، ألم يكنْ الإصرارُ على أن النفطَ ملكٌ للشعبِ الفنزوليِّ هو الذي أطلقَ هبّةَ كاراكاس من عقالِها؟ وكما لاحظ كورونل نفسُه، لقد مزَّقَت مضاعفةُ أسعارِ الوقودِ المحليِّ في شباط 1989 الرباطَ الذي كان يوحِّدُ الشعبَ كمالكٍ جمعيٍّ للمصادرِ الطبيعية وبذلك “مزَّقَت رباطاً أخلاقيًّا للحمايةِ بين الدولةِ والشعبِ.”[1] بعبارةٍ أخرى، كما أن النفطَ أسَّسَ سحرَ الدولةِ ورباطَها الأسطوريَّ مع الشعبِ، فقد هدّد، في الوقتِ عينِه، ذلك الرباط. ولسوءِ الحظِّ، بالرغمِ من أنّ كورونِل كان أسيرَ “السحرِ” ذاتِه الذي سعَى إلى فضحِ زيفِه، استطاعَ أن يرى تمرُّدَ عام 1989 كمحضِ “مأساةٍ” غيرِ مُخفَّفةٍ بحسبِ تعبيرِ “ملاكِ التاريخ” لوالتر بنجامين: حين كانت الأمةُ مُقسَّمةً ومُستقطَبَةً بين الأغنياءِ والفقراءِ، لم يستطعْ أنْ يدركَ إلا “الركامَ فوق الركامِ … النكبة.”[1] بقي كورونل مفتوناً بموضوعِ تحليلِه؛ وإذ نظرَ “من أعلى،” لم يكن في إمكانِه إلا أن يحزن.
لكنْ، ماذا من أمرِ هؤلاء الناسِ الذين دفعوا بأنفسِهم إلى الشوارعِ في أواخر شباط 1989؟ بطبيعةِ الحالِ، كانت ثمةَ مأساةٌ في القمعِ الذي تلا ذلك، لكنْ، كان هناك أيضاً ما هو أكثرُ منها بكثير. فكما اعترفَ بذلك كورونل نفسُه في مقالٍ شارك في كتابتِه من قبلُ، “لقد هزّت [هبّةُ كاراكاس] الافتراضاتِ ذاتَ العلاقةِ بين المدنيةِ والهمجيةِ، وبين القائدِ والشعبِ، وبين الدولةِ والمواطنِ، تلك التي حتّمت الخطابَ الشعبيّ.”[1] بعبارةِ أخرى، إنّ في التمرّدِ الشعبيِّ والانفجارِ الذي هو جزءٌ منه إمكانيةَ تحويلٍ وتحدٍّ لأُسسِ الدولة عينِها، أعني “سحرَها.”[1] ولقد كان فانون نفسُه قلقاً من جعلِ سحرِ الدولةِ الوطنيةِ مُحافِظاً، لكنّ جوابَه لـ”السَّحَرةِ” جاء بشكل حاسمٍ من أسفلَ، من نوع العملِ الجماهيريِّ الذي مثّلته هبّةُ كاراكاس: “مستضيئاً بالعنفِ، يتمرّدُ وعيُ الشعبِ على كلِّ دعوةٍ للتهدئة. الآن يواجهُ الدهمائيون والانتهازيون والسَّحَرةُ مهمةً صعبة. إن العملَ الذي أدَّى بهم إلى نضالِ مواجهةٍ يائسٍ قد منحَ الجماهيرَ تذوقاً شرساً لما هو ملموس. وكلُّ محاولةِ إرباكٍ تصبحُ في المدى البعيدِ مستحيلةً عمليَّا.”[1] إن التمرّدَ الشعبيَّ، كما أظهرت هبّةُ كاراكاس بشكلٍ أشدَّ وضوحاً من أيِّ لحظةٍ أخرى في التاريخِ الفنزوليِّ الحديثِ، قادرٌ كليًّا على الخلاصِ من مثلِ هذه الأوهامِ، لكنّ هذه الإمكانيةَ لا تُرى إلا من أسفل. لا يُمكنُنا التوافقُ مع واقعِ التاريخِ الفنزولِّيِّ الحديثِ الذي لا يُنكَرُ إلا بإعادةِ روايةِ التاريخِ من أسفلَ: فبدلَ إعاقةِ تحوُّلِ المجتمعِ الفنزوليِّ، كانت أنواعُ الاستقطابِ الذي بكاه كورونل في أعقابِ هبّةِ كاراكاس – بين أنصارِ تشافيز وخصومِه، أو بين الثوارِ والحقيرين، أو بين الشعبِ وحكمِ القلة – هي المحرِّكَ لمثلِ هذا التحوُّلِ من خلالِ تدشينِها وتعميقِها للمعارضة. لكنْ، يبقى السؤالُ قائما حولَ كيفيةِ تفعيلِ التمردِ الشعبيِّ ضدَّ الدولةِ بينما نتجنّبُ آثارَ سحرِها المنوِّم. أيُّ تعقيدٍ يُؤتَى به حين نفهمُ أنّ رئيسَ الدولةِ نفسَه هو نتيجةٌ لهذه الحركاتِ، لهذا التاريخِ التمرديِّ، خاصةً انفجارَ هبّةِ كاراكاس؟ هل يمكنُ لعناصرِ الدولةِ أنْ تتمرّدَ على الدولةِ فتلتهمَها وتشتِّتَها إذا أعطُيت دعماً كافياً من ذلك “الخارجِ” و”من أسفلَ” الذي يكوِّنُ معظمَ هذا التاريخ؟
 
 

“نوع من القوةِ مختلِفٌ كليًّا”

كيف السبيلُ إلى التفكيرِ بهذا الشعبِ الذي اتَّحدَ ثانيةً، بعد أنْ شتَّته فشلُ الكفاحِ الغِواريِّ، واجتمعَ لا ليدعمَ في المقامِ الأولِ محاولةَ انقلابِ تشافيز عام 1992، بل من خلالِ ومضةِ هبّةِ كاراكاس الخاطفةِ وعمليةِ الاستقطابِ الاجتماعيِّ التي سارعَ بها؟ كيف السبيلُ إلى إدراكِ هذه السلطةِ البديلةِ التي دفعت تشافيز إلى السلطةِ عام 1998 والتي رفضت حتى حينئذٍ أن تُلقيَ سلاحَها، مجازيًّا ومادياً معا، كما دلّت على ذلك أحداثُ نيسان 2002؟ أيُّ فكرةٍ تدلُّ على وجودِ هذه السلطةِ أبعدَ من حدودِ السلطةِ وتشهدُ أيضاً لوظيفتِها المستمرةِ كرافعةٍ أو نقطةِ ارتكازٍ لتحويلِ تلك الدولةِ جذريًّا؟

أودُّ أنْ أتحدّثَ عن هذه الذخيرةِ من الطاقةِ الثوريةِ التي توجدُ خارجَ الدولةِ، وأبعدَ منها، وضدَّها حسبَ فكرةِ لينين عن “السلطةِ المزدوجة.”[1] في كتابتِه لجريدة برافدا في بدايةِ العام 1917 عن تقاطعِ الطرقِ السياسيةِ غيرِ المسبوقةِ وغيرِ المُتنبّأ بها مُسبقاً للانقطاعِ الوجيزِ الفاصلِ ما بين ثورتَيْ شباطَ وتشرينَ الأولِ، تكلّمَ لينين عن ظهورِ “نوع من القوةِ مختلِفٌ كليًّا”: إلى جانبِ حكومةِ كِرِنْسْكي المؤقتةِ، ظهرت حكومةٌ بديلةٌ، “سلطةٌ ثنائيةٌ” مؤلَّفةٌ من مجالسَ عماليةٍ (إلى جانبِ فلاحين مُسلَّحين بشكلٍ ملحوظٍ) متموضعين خارجَ هيكلِ الدولةِ الحاليِّ وضدَّه.[1] هنا، لا يُشيرُ تعبيرُ السلطةِ الثنائيةِ إلى الوضعِ غيرِ المستقرِّ للتوازنِ المتوتِّرِ بين هذه البنيةِ البديلةِ والدولةِ التقليديةِ فقط، بل أيضاً إلى السلطةِ البديلةِ الثانيةِ نفسِها التي ليست دولة. إنها تكثيفُ السلطةِ الشعبيةِ من أسفلَ في قطبٍ جذريٍّ يقفُ في مُعارضةٍ مُعاديةٍ للدولةِ، لكنه لا يعملُ كوسيلةٍ للقبضِ على تلك الدولةِ (على العكس من صيغةِ لينين الابتدائيةِ)، بل كنقطةِ ارتكازٍ لتحويلِها وهدمِها جذريًّا. وهذه السلطةُ البديلةُ موسومةٌ بصورةٍ غيرِ قابلةٍ للنقضِ بوضعِها وثنائيّتِها، وهو ما يجعلُها “مختلِفةً كليًّا”: فهي ليست محضَ سلطةٍ أخرى ولا يمكنُها أن تكونَ، لكنها بدل ذلك سلطةٌ-ضدَّ-الدولةِ أساسا.[1] لذلك، ليست السلطةُ الثنائيةُ حالةَ أوضاعٍ بل هي تكيُّفٌ سياسيٌّ ومؤسساتٌ تحويليةٌ تدعمُ ذلك التكيُّفَ، والسؤالُ في فنزولا المعاصرةِ حول ما إذا كان هذا التكيُّفُ سيتوسَّعُ أو يتراجع.

لم تكنْ الصلةُ الوثيقةُ لفكرةِ السلطةِ الثنائيةِ بفنزولا المُعاصرةِ أمراً عارضا. لقد وجدَ لينينُ نفسَه يخوضُ حرباً في جبهتين على “الانتهازيين” الذين كانوا يسعَوْن إلى السيطرةِ ببساطةٍ على الدولةِ، وعلى “الفوضويين” الذين كانوا يسعَوْن إلى الابتعادِ عنها بأيِّ ثمنٍ، فكان ردُّه واضحاً على كلا الفئتين: أصرَّ مع الفئةِ الأولى على أنّ “آليةَ الدولةِ الجاهزةِ الصنعِ” يجبُ “تحطيمُها” وتغييرُها، ومع الفئةِ الثانيةِ أضافَ شرطَ أنْ تحلَّ محلَّ الدولةِ القديمةِ لفترةٍ ما “شبهُ دولةٍ” برولِتاريةٍ ينبغي بعدئذٍ أن “تتلاشى.”[1] تنطوي السلطةُ الثنائيةُ على هذا الشكلِ الوسيطِ: أنها لا تزالُ أداةً للسلطةِ الطبقية (الدولة)، لكنها متكيِّفةٌ باتجاهِ إزالتِها. أما أعداءُ فنزولا اليومَ، فعلى الأغلبِ أنهم هم أنفسُهم: فأما “الانتهازيون،” فهم تلك القطاعاتُ المُحافظةُ بين أنصارِ تشافيزَ ممن لا يريدون أكثرَ من يُصبحوا طبقةً حاكمةً جديدةً، وأما “الفوضويون”، فأولئك الذين يرفضون – غالباً عن بُعدٍ – أيَّ تعاملٍ مع الدولةِ باعتبارِها في الأصلِ وصمة.[1] بعبارةٍ أخرى، أنا أتكلّمُ عن “السلطةِ الثنائيةِ” لأنها تُوجِّهُنا إلى الوجهةِ الصحيحةِ، صوبَ الحفاظِ على العمليةِ الثوريةِ وتجذيرِها في فنزولا وتحويلِ ذلك الجهازِ القمعيِّ الذي يحملُ عموماً اسم “دولة.” أضفْ إلى ذلك أنه بينما يأملُ بعضُ مؤيِّدي تشافيز ببساطةٍ في التجذيرِ من أعلى، يشهد تاريخي بدلَ ذلك على تعزّزِ سلطةٍ ثنائيةٍ كنقطةِ ارتكازٍ لدفعِ ذلك التجذيرِ من أسفل.

إن كانت السلطةُ الثنائيةُ متكيّفةً باتجاهِ إبطالِها، فهذا التكيّفُ يُقرِّرُه مصدرُ تلك السلطةِ (الشعبُ، الذي يُمسكُ بالأمورِ من أسفل) والآليّتان الملموستان اللتان جعلتا هذه السلطةَ الثنائيةَ “نفسَ نوعِ كُميونةِ باريسَ.” وحسبَ لينين، سوف تحلُّ محلَّ عمودَيْ الدولةِ البرجوازيةِ – البيرُقراطيةِ والجيشِ – هياكلُ جديدةٌ مرتبطةٌ ارتباطاً عضويًّا بهذه السلطةِ الشعبيةِ، أعني المجالسَ المُسلَّحةَ ذاتيةَ الإدارةِ التي تشملُ الشعبَ ككلّ.[1] وفي ما هو آتٍ، سوف أستقصي هذه المكوِّناتِ الثلاثةَ “لنوعِ السلطةِ المُختلفةِ كلِّيًّا” والمتبرعمةِ في فنزولا الحديثة. سوف أشرحُ بشكلٍ واسعٍ تطوّرَ جانبَيْ السلطةِ الثنائيةِ في فنزولا، السياسيِّ (المجلس) منهما والعسكريِّ (المِليشيا)، مُبيِّناً أولاً أنّ هاتين السلطتين قد سبقتا زمناً الثورةَ البولفاريةَ ذاتَها. وسوف أُبيّنُ بشكلٍ حاسمٍ عندئذٍ أنّ هذه المجالسَ والهياكلَ العسكريةَ، بدلَ أنْ تكونَ ممسوكاً بهاً من أسفلَ، مُؤلَّفةٌ اليومَ من حركةٍ ثنائيةٍ من أسفلَ ومن أعلى، موجودةٍ عند تقاطعِ علاقةٍ مُتوتِّرةٍ مع الدولةِ كلحظةِ سلطةٍ شعبيةٍ – هي نتيجةُ التاريخِ الذي رويتُه حتى الآن – وكخطرٍ موروثٍ لدى هذه السلطةِ عينِها.
 

… سلطةٌ قائمةٌ على تمسّكٍ ثوريٍّ، على مبادرةِ الشعبِ المباشرةِ من أسفلَ، وليس على قانونٍ تسنُّه سلطةُ مركزيةٌ للدولة.[1]
 

ما من إنكارٍ لدورِ “سلطةِ الدولةِ المركزيةِ” في الثورةٍِ البولفاريةِ؛ وإذ تبدو هذه مُنكرةً إمكانيةَ تطبيقِ فكرةِ لينين حول السلطةِ الثنائيةِ، أقولُ إنّ الأمورَ ليست على هذه البساطة. ذلك أنَّ نقطةَ البدءِ لإدراكِ هذه السلطةِ البديلةِ الجديدةِ الآتيةِ من أسفلَ إنما تكمنُ في الشعبِ الفنزوليِّ نفسِِه. لقد ولّد فشلُ الكفاحِ الغِواريِّ وما تبعَه من فترةِ تشتُّتٍ وإعادةِ تكوينٍ شكلين تنظيميين يوازيان إلى حدٍّ بعيدٍ معاييرَ لينين لهذه السلطةِ الجديدةِ: فعلى مستوىً أكثرَ عسكريّةً (لكنه ليس حصرياً)، ولّد ابتعادُ المغاويرِ عن الجماهيرِ ظاهرةَ مليشياتِ الدفاعِ الذاتيِّ المُسلّحةِ، بينما رأينا، على مستوىً أكثرَ سياسيةً (لكنه ليس حصرياً)، ظهوراً عفويًّا لتجمعاتِ الأحياءِ الفقيرةِ ذاتيةِ الحكم. وقد خرجَ هذان الشكلانِ عضوياً من تحتِ رمادِ حالاتِ الفشلِ الماضيةِ، مُحدثَيْن بهذا ما وصفَه لينين بـ”مبادرةِ الشعبِ المباشرةِ من أسفل”، وقد كان كلاهما موجودين إلى حدٍّ كبيرٍ قبل انتخابِ تشافيز عام 1998. وإذ أنَّ معظمَ المشاركين في مجالسِ الأحياءِ الفقيرةِ والمليشياتِ الشعبيةِ قد دعموا إلى حدٍّ كبيرٍ مُحاولةَ انقلابِ 1992 وحملةَ تشافيزَ الانتخابيةَ، كانت قلةٌ قليلةٌ من السذاجةِ بحيثُ ظنّت النصرَ قد اكتملَ كليًّا عام 1998 أو حتى أنّ “الدولةَ” قد تمَّت “السيطرةُ” عليها. أضفْ إلى ذلك أنّ سخريتَهم لم تأتِ من بعضِ تقديرٍ لتشافيز نفسِه، بل من حالاتِ الفشلِ التاريخيةِ للفوريّةِ الغِواريةِ والتحوّلِ صوبَ كفاحٍ أطولَ، كفاحٍ قابعٍ إلى حدٍّ كبيرٍ في أرضِ الهيمنة.

لكنّ المهمَّ أنّ هذه السخريةَ لم تتحوَّلْ إلى الخطأ المضادّ؛ فكما يُحذِّرُ أوزوالدو، الذي هو أحدُ قدماءِ المغاويرِ الفنزوليين ممن لا يُؤمنون بسلطةِ الدولةِ، قائلاً، “لا نريدُ أن نُقارنَ تشافيزَ بكِرِنْسْكي.” بعبارةٍ أخرى، ليس تشافيز قائداً مؤقَّتاً كي يعزلَه الثوارُ الحقيقيون، بل إنه هدفٌ للهيمنةِ النضاليةِ إما أنْ يُكسَبَ أو يُخسَر، إنه، بشكلِّ أعمَّ، مثالٌ مُصغَّرٌ للدولة. لكنّ الأهمَّ أنّ أيَّ دولةٍ – خاصةً الشكلَ الفنزوليَّ البيرُقراطيَّ المُتورِّمَ – هي أشدُّ تعقيداً بكثيرٍ من أن “يُمسَكَ” بها. فإنْ كان للتاريخِ الأمريكيِّ اللاتينيِّ أن يقولّ لنا شيئاً، فهو أنّه حتى أدواتُ القوةِ التي تدعمُ الدولةَ ينبغي ضبطُ هيمنتِها إذا أُريدَ تجنبُ الانقلاباتِ المضادةِ للثورة. وبدلَ الإمساكِ بالدولةِ، قام رجلٌ واحدٌ، هو تشافيز، باحتلالِ موقعٍ إستراتيجيٍّ ضمنَ جهازِ الدولةِ، كتعبيرٍ عن هذه السلطةِ البديلةِ “من أسفل.” وكما يُعبِّرُ عن ذلك عنوانُ هذا الكتابُ، “نحن صنعناه.”

نشهدُ منذ العام 1998 عمليةً مُعقَّدةً تمَّ فيها تجذيرُ تشافيزَ نفسِه نتيجةً للضغطِ من أسفلَ وللعداءِ الذي استقبلته به على الفورِ فلولُ النظامِ القديمِ. أضفْ إلى ذلك أن تشافيز، إذ تزايدت جذريتُه، أخذ يتدخّلُ من الأعلى لتسهيلِ تطوّرِ هذه السلطةِ الثنائيةِ الثوريةِ من الأسفل. بعبارةٍ أخرى، بينما كان الثوارُ يُمارسون ضغطَهم من الأسفلِ، كانت الدولة تمدُّ يدَها إلى الأسفلِ من الأعلى، باتخاذِها خطواتٍ واضحةً لمأسسةِ السلطةِ الشعبيةِ، مستخدمةً مُحرِّكَها القويَّ لآلةِ الدولة. بيدَ أنه، على غيرِ حالِ الشعبيةِ في الماضي، وبالرغمِ من جميعِ حالاتِ الغموضِ والمخاطرِ التي تتضمنُها هذه العمليةُ، لم يكن هذا الاستخدامُ لأجلِ الدولةِ ذاتِها، بل في سبيلِ حلِّها.

لذلك، يُقدّمُ التاريخُ الفنزوليُّ ليًّا جدليًّا لمضمونِ فكرةِ لينينَ عن الإمساكِ المباشرِ بالسلطةِ من الأسفل. وهذا الليُّ موجودٌ في التعاملِ المتبادلِ الذي كنتُ أقصُّ أثرَه في هذا الكتاب: فلا يقتصرُ الأمرُ على أنّ السلطةَ مبنيّةٌ ومُعزَّزةٌ من أسفلَ في تكيُّفٍ صوبَ “الإمساكِ” بها، بل يغدو ذلك الإمساكُ عينُه عمليةً يُدفَعُ تشافيزُ فيها إلى الأمامِ نتيجةً وتعبيراً عن قوىً مندفعةٍ للأعلى من الأسفلِ، فهو بهذه العمليةِ يُساهم في جدليةٍ بين الأعلى والأسفلِ تُحوِّلُ سلطةَ الدولةِ وتُلغي مركزيتَها وتبدأُ في “تشتيتِها”. هنا، بشكلٍ ساخرٍ ومُتغايرٍ مع النظرياتِ التقليديةِ التي تظهرُ فيها السيادةُ غيرَ مُقسَّمةٍ، ليس العدوُّ – وهو التعبيرُ الأقصَى لسلطةِ الدولةِ الذي يُصبحُ هدفَ التحوُّلِ الثوريِّ – هو الموظّفَ التنفيذيَّ، وليس الرئيسَ نفسَه، بل إنه قطاعٌ أوسطُ واسعٌ للبيرُقراطيةِ الوسطى (وكذلك التنفيذيون المحليون على مستوى الدولةِ والمدينة)، وقد أثبتَ، بقوةِ نزعتِه للقصورِ الذاتيِّ وما يتمتّعُ به من امتيازاتٍ لمشاركتِه في السلطةِ، أنه أشدُّ المقاومين للتغيير.

بينما كان وجودُ مؤسساتٍ جاءت مباشرةً “من أسفلَ” – أكانت مجالسَ أحياءَ فقيرةٍ أم مليشيا شعبيةً – حقيقةً لا تُنكَرُ في منتصفِ تسعيناتِ القرن العشرين، وهي ما تشهدُ للوجودِ المتطوِّرِ لتلك العناصرِ التي يربطُها لينين بسلطةٍ ثنائيةٍ جذريةٍ، فإنّ اللَّيَّ الجدليَّ الذي أُدخلَ إلى العنصرِ الأولِ، أي فكرةَ الإمساكِ المباشرِ، كانت له معانٍ مُتعلِّقةٌ بمؤسساتِ هذه السلطةِ الجديدةِ من سياسيةٍ وعسكريةٍ معا. وقد شهدت السنونَ الأخيرةُ إنشاءَ مجالسَ محليةٍ “رسميةٍ”، وفي زمنٍ أقربَ إنشاءَ مليشياتٍ “رسميةٍ”، حين امتدت الدولةُ إلى الأسفلِ صوبَ مأسسةِ القوةِ الصاعدةِ من الأسفلِ في كلا المجالين. وفي الاثنين، تمّ تحويلُ عناصرِ جهازِ الدولةِ التقليديِّ وتجذيرُها بطرقٍ تقتربُ من قوةٍ بديلةٍ مناسبةٍ، من غيرِ تأليفِها مطلقاً، بينما تُولِّدُ دائماً أثراً غامضاً على الحركاتِ الثورية.
 

انفجارُ السلطةِ المجتمعية

إما أن يحلَّ حكمُ الشعبِ المباشرُ محلَّ شاغلي الوظيفةِ الرسميةِ، البيرُقراطيين، أو أن يوضَعوا، على الأقلِّ، تحت سيطرةٍ خاصّة؛ فهم لا يصبحون مسؤولين منتخَبين حسبُ، بل عُرضةً للاستدعاءِ عند أولِ مطلبٍ شعبيّ … يصبحون عمالاً في “ذراعٍ” خاصةٍ للخدمةِ، لا تتجاوز مكافأتُهم ما يُدفعُ لعاملٍ ذي كفاءة.[1]
 

بحلولِ العامِ 1992، ظهرت جمعياتُ الأحياءِ الفقيرةِ متحالفةً تحالفاً حميماً مع بعضِ المنظماتِ مثل “العصيانِ الشعبيِّ”، ثمّ انضمَّت لهم جماعاتٌ أخرى ذاتُ سلطةٍ شعبيةٍ وذاتُ مجالٍ وطنيٍّ أكثرَ منه محليًّا. أولا، بعد الانقلابِ الفاشلِ عام 1992، برزت “الأوساطُ الوطنيةُ” كوسائطَ للتعبيرِ عن الرفضِ الواسعِ للنظامِ الحاليِّ وكوسائلَ نهائيةٍ لدعمِ حملةِ تشافيزَ الانتخابيةِ بعد ذلك ببعضِ سنين. وعندَ صياغةِ الدستورِ الجديدِ عامَ 1999، تحوَّلت إلى “الأوساطِ البولِفاريةِ” التي كان هدفُها المعلَنُ دراسةَ مشروعِ الدستورِ والعملَ على إقرارِه في استفتاءٍ وطنيّ. وإذ لم يقتصرْ عملُ أيٍّ من هاتين المؤسستين على هذه المهماتِ – غالباً ما تكونُ السلطةُ الشعبيةُ مُتقلِّبةً كما هي قويّة – كانتا، مع هذا، هيكلَيْ مجلسٍ شعبيٍّ مرتبطٍ بجناحِ اليسارِ الجذريِّ في حركةِ أنصارِ تشافيز، لتنضمَّ إليها لاحقاً أمثالُ “الجمعيةِ الثوريةِ الشعبيةِ”، التي ظهرت في وقتِ انقلابِ 2002 والتي أنجبت “اللجنةَ الثوريةَ الشعبيةَ الأمريكيةَ” (Aporrea.org).

في ضوءِ هذا الضغطِ القويِّ صوبَ حكمٍ ذاتيٍّ ذي ديمقراطيةٍ جذريّةٍ آتيةٍ من الأسفلِ، لم يكنْ مفاجئاً جداً، في أعقابِ إعادةِ انتخابِ تشافيزَ انتخاباً جارفاً في كانونَ الأولِ 2006، أن اتخذت الثورةُ البولِفاريةُ انعطافاً جذريًّا نحو السلطةِ الشعبية. وقد هُزم أعداءُ هذه العمليةِ هزيمةً نكراءَ في انقلابٍِ عام 2002 وفي إيقافِ ضخِّ النفط عام 2003، ثمّ كانت انتخاباتُ 2006 توكيداً لحقيقةٍ ثابتة. أضفْ إلى ذلك أن تشافيزَ، بوجودِ ستِّ سنواتٍ أمامَه، تسنّت له فترةُ راحةٍ من مطالبِ “حلفائه” ساعدته على اتخاذِ خطواتٍ خطيرةٍ ضدَّ البيرقراطيين الفاسدين في صفوفِ أنصارِه ممن كان من شأنِهم أن يوقفوا العمليةَ الثورية. فذلكةُ القول، لقد مُهِّدت الطريقُ لتعميقِ العمليةِ الثوريةِ وتجذيرِها داخلَ حركةِ أنصارِ تشافيزَ وخارجَها على السواءِ. أما برنامجُ هذا التجذيرِ فقد وُصفَ بـ”المُحرِّكاتِ الخمسةِ” التي تقودُ الثورةَ، وسُمِّيَ خامسُها وأهمُّها بـ”انفجارِ السلطةِ المجتمعية.”[1] وهذا يُشيرُ إلى إنشاءِ مجالسَ مجتمعيةٍ محليةٍ إنشاءً رسميًّا في جميعِ أرجاءِ فنزولا، وهي عمليةٌ بدأت جديًّا مع قانونِ المجالسِ المجتمعيةِ للعام 2006، الذي شجّعَ تكاثرَ الوحداتِ الصغيرةِ ذاتِ الحكمِ الذاتيِّ في جميعِ أرجاءِ البلاد.[1] وخلالَ سنةٍ واحدةٍ، تأسّسَ 18,320 مجلساًَ مجتمعيًّا، ثمّ زادَ هذا العددُ منذئذٍ على 40 ألفا.[1]

حسب قانون سنة 2006، تسعَى هذه المجالسُ إلى “جعلِ الناسِ المنظَّمين يُديرون بشكلٍ مُباشرٍ السياسةَ العامةَ والمشاريعَ الموجّهةَ نحو الاستجابةِ لاحتياجاتِ المجتمعاتِ المحليةِ ومطامحِها في بناءِ مجتمعِ الإنصافِ والعدالةِ الاجتماعية” (المادة 2). أضفْ إلى ذلك أنّ هذه المجالسَ مطلوبٌ منها أنْ تعملَ بحسبِ معاييرَ تشملُ “المسؤوليةَ المشتركةَ، والتعاونَ، والتضامنَ، والشفافيةَ، والمحاسبةَ، والأمانة، والفعاليةَ، والكفاءةَ، والمسؤوليةَ الاجتماعيةَ، والتوجيهَ الاجتماعيَّ، والإنصافَ، والمساواةَ الاجتماعيةَ والجُنوسيةَ” (المادة 3). وهي مخوّلةٌ تخويلاً واسعاً بأنْ “تتبنَّى القراراتِ الجوهريةَ للحياةِ في المجتمعِ المحليّ” (المادة 6). بعبارةٍ موجزةٍ، تُجسّدُ المجالسُ المحليةُ أحدَ معاييرِ لينين المركزيةِ للسلطةِ الثنائيةِ، الساعيةِ إلى وضعِ البيرُقراطيةِ الرسميةِ أمام إرادةِ الشعبِ من خلالِ المشاركةِ المباشرةِ على المستوى المحليِّ (وفي نهايةِ المطافِ للحلولِ محلَّ تلك البيرُقراطيةِ كليًّا)، وتُمثِّلُ وظيفتُها الديمقراطيةُ المُباشرةُ البندَ الأولَ في هذا الهجومِ على البيرُقراطيةِ. أضفْ إلى ذلك أنه، بالتوافقِ مع توكيدِ لينين على الانتداباتِ القابلةِ للإلغاءِ وعلى الأجورِ المحدودةِ، يُنتخَبُ أعضاءُ لجانِ المجالسِ المحليةِ، من خلالِ الاشتراكِ المباشرِ للمجتمعِ المحليِّ، لفترتين قصيرتين من سنتين قابلتين للإلغاءِ (المادة 6)، وجميعُ المناصبِ المنتخبةِ شرفيةٌ غيرُ مدفوعةِ الأجر (المادة 12). إن الطبيعةَ الديمقراطيةَ المُباشرةَ للمشاركةِ في المجالسِ، مُضافاً إليها عدمُ دفعِ مكافأةٍ ماديةٍ لقياداتِها المنتخَبةِ، تُقارعُ الفسادَ والبيرُقراطيةَ في المجالسِ ذاتِها، فتجعلُها بهذا ذخيرةً للسلطةِ الثنائيةِ أكثرَ ثباتاً واكتفاءً ذاتيًّا. أضفْ إلى ذلك أن قدرةَ المجالسِ على مهاجمةِ البيرُقراطيةِ والفسادِ تتجاوزُ وظيفتَها الداخليةَ، فتمتدُّ أيضاً إلى القدرةِ على مراقبةِ المستوياتِ الأخرى في الحكومة: كلُّ مجلسٍ ينتخبُ لجنةً من خمسةِ أشخاصٍ “للمراقبةِ الاجتماعيةِ”، تحلُّ محلَّ بيرقراطيين موضوعين، بكلماتِ لينين، “تحت توجيهٍ خاصٍّ” على المستوى “الوطنيِّ أو الإقليميِّ أو البلديّ” (المادة 11). لذلك تمثّلُ السلطةَ سلاحاً قويًّا ضدَّ الدولةِ الفاسدةِ والبيرقراطياتِ المحليةِ، وقد تأملُ أخيراً في أنْ تحلَّ المجالسُ محلَّها كليًّا.

ترأّسَ اللجنةَ التي أقرّت قانونَ المجالسِ المحليةِ ديفيد فِلاسْكيز، الذي كان يومئذٍ عضواً في الحزبِ الشيوعيِّ وعُيِّن لاحقاً وزيراً للتنميةِ التشاركيةِ والاجتماعيةِ. ويرى فِلاسْكيز في تلك المجالسِ أساسَ تحوّلِ الدولةِ تحوّلا ثوريًّا، قائلاً إنّ “المطلوبَ تحويلُ السلطةِ والديمقراطيةِ إلى المجتمعاتِ المحليةِ المُنظَّمةِ بحيثُ يتقلَّصُ جهازُ الدولةِ في نهايةِ المطافِ ِإلى مستوياتٍ تجعلُه غيرَ ضروريّ.”[1] وإذ اعتمدَ فِلاسْكيز بشكلٍ مباشرٍ وواعٍ على التمييزِ بين السلطةِ “التأسيسيةِ” وتلك “الدستوريةِ”، تمييزٍ ذكرَه تشافيز في عدةِ مناسباتٍ، كان تبريرُه للمجالسِ موازياً لتاريخِ هذا الشعبِ في تخيُّلِ جدليةٍ بين التأسيسيةِ والدستوريةِ وتدخّلٍ مستمرٍّ من قِبل الجماهيرِ “المؤسِّسةِ” ضدَّ الشرعيةِ العقيمة.[1] هذا التدخّلُ المتجاوزُ للشرعيةِ من قِبلِ الجماهيرِ المؤسِّسةِ، الذي رأيناه بوضوحٍ عامَيْ 1989 و2002 وفي لحظاتٍ كثيرةٍ بينهما وبعدهما، كان مسؤولاً إلى حدٍّ بعيدٍ عن تحوّلِ الدولةِ الفنزوليةِ والقوانينِ التي تحكمُها ظاهريًّا. هاهنا يبرزُ الدستورُ فوق كلِّ ما عداه مُجسِّداً هذه الجدليةَ: كمثلِ تشافيز، كان الدستورُ الجديدُ نتيجةً للسلطةِ الشعبيةِ، وكمثلِ تشافيز، خدمَ كموطئِ قدمٍ لتقدُّمٍ أبعدَ، كما رأينا بوضوحٍ في حالةِ الحركاتِ النسائيةِ والأفريقية-المحلية.
في حالةِ المجالسِ المحليةِ، يأتي موطئُ القدمِ مثارُ البحثِ من خلالِ التمجيدِ الدستوريِّ الغامضِ للحقِّ في المشاركةِ الشعبيةِ، وهو موطئُ قدمٍ سمحَ بتطويرِ هذه المجالس. لكنّ هذه الجدليةَ للسلطةِ الشعبيةِ والقانونِ – كجدليةِ الثورةِ والدولةِ بشكلٍ أعمَّ – لم تتوقّفْ عند قانونِ المجالسِ المحليةِ للعام 2006. بل إن القانونَ قد عُدِّلَ حديثاً (أعيدت كتابتُه، في الواقع) على أساسِ مراكمةِ خبرةِ المجالسِ، مما يعكسُ العلاقةَ بين ما هو تأسيسيٌّ وما هو دستوريٌّ حتى في العمليةِ التي تمّ إصلاحُه بموجبِها. لقد وافقت الجمعيةُ الوطنيةُ على مشروع مراجعةٍ مبدأيةٍ للقانونِ في أيّار 2009، وأُرسلَ عندئذٍ إلى المجالسِ نفسِها للمناقشةِ والاستشارة. ولم يكنْ إلا بعد هذه العمليةِ، التي زعمت أنها تشملُ ما يقربُ من 61,850 ناطقاً باسم المجالس، أنْ ووفق على الإصلاحِ النهائيِّ في تشرين الثاني 2009. وإذ تبدو بعضُ عناصرِ الإصلاحِ تقنياتٍ ثانويةً تهدفُ إلى تحسينِ عملِ المجالسِ ومستوياتِ المشاركةِ، يُشيرُ التغييرُ الأهمُّ إلى وضعِ المجالسِ نفسِها. والقانونُ الذي جرى عليه الإصلاحُ، بعكسِ الأصليِّ للعام 2006، إنما هو قانونٌ عضويٌّ يُشيرُ بالتعريفِ إلى السلطةِ الأساسيةِ، وكنتيجةٍ لذلك تقفُ المجالسُ الآن كسلطةٍ عامةٍ على قدمِ المساواةِ مع غيرها.[1]
فيما يتعدَّى جانبَها الشرعيَّ، أصبحت المجالسُ المحليةُ في نواحيَ عديدةٍ تُجسِّدُ الخلافاتِ والتناقضاتِ في العمليّةِ البولفاريةِ ككلّ. وفي مخالفتِها من يرَوْن في تلك المجالسِ محضَ ملحقاتٍ بالدولةِ الشعبيةِ، تُقدِّمُ سارة مُتّا تحليلاً تشاركيًّا مُبيّنةً أنّ “الذاتيةَ الشعبيةَ” قادرةٌ على تجاوزِ الاحترامِ الشرعيِّ المحضِ لتلك المجالسِ، فتوردُ القولَ التالي لأحدِ المشاركين الأوائلِ: “بدأت هذه العمليةُ كمرسوم. لكننا نحن من حقّقناها، ومنحناها معناها ومحتواها، بكفاحِنا، وأخطائنا، ونجاحاتنا.”[1] بيد أنّ هذا الجهدَ لملءِ المجالسِ بمحتوىً ثوريٍّ لم يكنْ من غيرِ تحدياتٍ آتيةٍ من داعمي السلطةِ الشعبيةِ ومن مناوئيها أيضا. وكما يقول وِلْبِرت، إنّ الميلَ إلى حلِّ المشاكلِ من أعلى يعني أنّ “أنصارَ تشافيز في المجتمعاتِ المحليةِ، أولئك الذين دُعموا بالمجالسِ المحليةِ وبأماكنِ العملِ التي يُديرُها العمالُ، ينتهي بهم الأمرُ إلى خلافاتٍ مع موظفي الدولةِ الذين يحاولون تطبيقَ تعليماتِ وزرائهم من أعلى إلى أسفلَ، وهؤلاء يتلقَّوْن تعليماتِهم من تشافيز.”[1] هذا التحدي الموروثُ أشدُّ خطراً لدى من يرَوْن في المجالسِ تهديداً لسلطتِهم. يُعبِّرُ فِرْنَنْدو، وهو أحدُ المنظِّمين لدى مؤسسةِ سيمون بولِفار الثقافيةِ في 23 دي إنيرو، عن قلقٍ عامٍّ من أنّ “معظمَ العُمداءِ يقومون بدورٍ أكبرَ من اللازمِ في خلقِ المجالسِ المحليةِ، محاولين السيطرةَ عليها.”

“الحلولُ محلَّ الشرطةِ والجيشِ، اللذين هما مؤسستان منسلختان عن الشعبِ وتعملان ضدَّه، بتسليحِ الشعبِ كلِّه تسليحاً مباشرا؛ أما النظامُ في الدولةِ الواقعةِ تحت هذه السلطةِ فيحافظُ عليه العمالُ والفلاحون أنفسُهم، الشعبُ المسلَّحُ نفسُه.”[1]
 

وإذ كان مؤكَّداً وجودُ مقاومةٍ للمجالسِ المحليةِ المُقترَحةِ من داخلِ صفوفِ أنصارِ تشافيز (بصورةٍٍ ملحوظةٍ من طرفِ وزيرِ التخطيطِ يورخي جيورداني، الذي عارضَ النطاقَ الضيِّق للمجالسِ، كما قال أحدُ المسؤولين في الوزارةِ)، وإذ كانت هذه المقاومةُ مُقترنةً عمليًّا بمقاومةِ حتى العُمداءِ وحُكّامِ الولاياتِ من أنصارِ تشافيز، الذين وجدوا المجالسَ الناشئةَ تهديداً لـ”حصصِهم في السلطةِ”، أثبتت مساعيَ تحويلِ الجيشِ أنها أكثرُ إثارةً للخلافِ؛ وقد تمحورَ هذا الخلافُ حولَ شخصٍ واحدٍ، هو ألبيرتو مُلَر روجاس. حين قابلتُ هذا الجنرالَ المتقاعدَ المدمنَ على التدخينِ (الذي تُوفيَ بعد ذلك)، كان قد عُيِّن حديثاً نائباً أولَ لرئيسِ حزبِ تشافيز، حزبِ فنزولا الاشتراكيِّ المتحدِ، لكن هذا كان مختلفاً عنه قبل سنةٍ، حين أثارت علاقةُ مُلَر بالحزبِ المذكورِ جدلاً واسعاً في البلادِ حول موقفِ الجيش. فباعتبارِ الجنودِ والضباطِ ظاهريًّا مواطنين “لاسياسيين”، لا يُسمَحُ لهم، بحسبِ التقاليدِ، أن ينضمُّوا للأحزابِ السياسيةِ؛ لكن مُلَر ازدرى القانونَ بانضمامِه لحزبِ فنزولا الاشتراكيِّ المتحدِ وهو على رأسِ عملِه العسكريّ. وقد قال مُلَر إن الحيادَ العسكريَّ خرافةٌ إنما تُشجِّعُ التمردَ “السريَّ” (كما فعل هو منذ عقودٍ خلت) الذي يقفُ جنباً إلى جنبٍ مع المهنيةِ كعمودين توأمين للمنظمةِ العسكريةِ الرجعية.[1] يقول مُلَر، مُدافعاً عن الاعترافِ بالدورِ السياسيِّ الموروثِ لدى الجيشِ جنباً إلى جنبٍ مع تطورِ هيكلٍ عسكريٍّ شعبيٍّ ذي قاعدةٍ واسعةٍ لتُوازنَ سلطةَ الجيشِ، ينبغي للعمليةِ الآتيةِ للإصلاحِ الدستوريِّ أن تُستخدَمَ لتمهيدِ الطريقِ إلى هذه الرؤيةٍ الجديدة.[1]

هوجم مُلَر من قِبلِ أنصارِ تشافيز المعتدلين، إذ اتهموه بتغذيةِ المعارضةِ بالشكِّ في أن الجيشَ أصبح مُسيَّساً جدا. وما حدث بعد ذلك يُعطي نافذةً نادرةً إلى دهاليزِ السلطةِ الفنزوليةِ الضبابيةِ: فقد انضمَّ تشافيزُ إلى الهجومِ على مُلَر، مُصرًّا على طبيعةِ الجيشِ الفنزوليِّ اللاسياسيةِ والمهنيةِ، وأُقصيَ الجنرالُ الوقحُ من دائرةِ الرئيسِ المُقربةِ لتجرّؤه على القولِ بنوعِ البنية العسكريةِ التي اقترحها في الماضي تشافيز وكثيرٌ من المسؤولين الفنزوليين.[1] لكنْ، حين توافقَ الإصلاحُ الدستوريُّ الذي قدّمه تشافيز نقطةً بنقطةٍ تقريباً مع مقولاتِ مُلَر، غدا واضحاً أنّ هذا الهجومَ عليه كان تكتيكياً فقط لتهدئةِ أعصابِ القيادةِ العسكريةِ. لكنّ الإصلاحَ المقترحَ للمادةِ 328، التي هُزمت لاحقاً في استفتاءِ كانون الأول 2007، كان يعني أنّ الجيشَ لم يعدْ بشكلٍ واضحٍ مؤسسةً “لاسياسيةً”، بل “وطنيةٌ، وشعبيةٌ، ومناوئةٌ للإمبريالية.” أضفْ إلى ذلك أن المادةَ 329 الواقعَ عليها الإصلاحُ كان لها أنْ تُحوِّلَ الاحتياطيَّ الحاليَّ إلى قوةٍ أقوى دستوريًّا تُسمَّى “المليشيا الشعبيةَ البولفارية.”[1]

أسرع مُلَر إلى القولِ إن الضغطَ العسكريَّ كان وراءَ مراوغةِ تشافيز حول المسألةِ، وسريعاً ما بات واضحاً كم كان على صوابٍ، لأن المكيدةَ لم تنتهِ بإقصاءِ مُلَر الهزليّ. ففي الرابعِ من تشرينَ الثاني، أي قبل الاستفتاءِ على الإصلاحِ الدستوريِّ بأقلَّ من شهرٍ، حذّر تشافيز من أنّ أحدَ الناسِ قد “يجتازُ الحدَّ الفاصلَ” بين أنصارِ تشافيز والمعارضة. ومثلُ هذا التصريحِ كان يعني أنّ أمراً جللاً كان متوقَّعاً، لكنّ قلةً من الناسِ من أدركتْ مدى خطورتِه. وفي اليومِ التالي، صعقَ حليفُ تشافيز العريقُ، الجنرال راؤول بادْوِل، الملايينَ الذين كان يُمثِّلُ لهم جوهرَ الولاءِ: لقد كان راؤول من قادَ عودةَ تشافيز إلى الحكمِ عامَ 2002، ومع ذلك يخرجُ الآن أمامَ الملأِ مُعارضاً للرئيس. وبحسبِ بادْوِل، كان دستورُ عام 1999 كافياً وغيرَ ذي حاجةٍ إلى مزيدٍ من الإصلاح. وإذ أنّ وظيفةَ الدساتيرِ، حسبَ رأيِ بادْوِل اللبراليِّ السلبيِّ، “أنْ تحُدَّ من السلطةِ وتضبطَها،” فإنّ من شأنِ إصلاحِ عام 2007 المقترَحِ “أنْ يُكملَ، عمليًّا، انقلاباً على الدولةِ، منتهكاً بشكلٍ معيبٍ نصَّ الدستور.” بيدَ أنّ بادْوِل، حين طالبَ الجيشَ بـ”بتحليلِ النصِّ المُقترَحِ تحليلاً مُعمَّقاً،” كشفَ عن دوافعِه العميقةِ: كان يخشَى أن يُقوِّضَ الإصلاحُ مهنيةَ الإدارةِ العسكريةِ التقليديةِ و”عموديتَها” التي لا بدَّ منها. بناءً على هذا القلقِ، تساءل الكثيرون مُحقِّين إن كان بادْوِل في الواقعِ وراءَ إقصاءِ مُلَر.

لم يتردّدْ مُلَر في الردِّ، فاتهم بادْوِل بالتحريضِ بتصريحاتِه تلك على القيام بانقلابٍ. لكنّ أكثرَ جزءٍ غموضاً وكشفاً في هذه المسرحيةِ الطويلةِ لم يجرِ تمثيلُه حتى دُعي مُلَر روجاس ليُدليَ برأيِه في قضيةِ بادْوِل على محطةِ التلفزةِ الفنزليةِ في البرنامجِ المسائيِّ “Contragolpe” (الهجوم المعاكس). مضى مُلَر يشرحُ أنه لم يعدَّ بادْوِل قطُّ ثوريًّا ملتزماً، وأنه انتقدَ في الماضي سياساتِه كوزيرٍ للدفاعِ، تلك التي أعاقت، بحسب مُلَر، التكاملَ العسكريَّ-المدنيَّ لدى الحكومة. وقد استلم العرضُ مهاتفةً غيرَ متوقعةٍ من تشافيز نفسِه يشكرُ فيها أمام الملأِ الجنرالَ المتقاعدَ للنصيحةِ الواضحةِ التي كان دائما يقدّمُها. ولقد كان هذا اعتذاراً أمام عامةِ الناسِ وإقراراً بأن بادْوِل قد حشرَ نفسَه بين الرئيسِ واقتراحِ مُلَر بتجذيرِ الجيش. لقد غفر التاريخُ لمُلَر، وهو ما يفسِّرُ الظروفَ المُختلفةَ جداً التي التقيتُه فيها.

أفشلَ الاستفتاءُ الإصلاحَ الدستوريَّ في شهرِ كانونَ الأولِ، لكنّ الجدليةَ التي أطلقَها من عِنانِها كانت ذاتَ معانيَ أعمقَ مما لو تمّ تمريرُه. في حركةٍ رأيناها تُمارَسُ مع أصواتٍ جذريةٍ أخرى في الثورةِ البولِفاريةِ، أُبعد مُلَر عن حلقةِ الرئيسِ الداخليةِ، وهو الذي كان لزمنٍ طويلٍ موضعَ ثقةِ تشافيز، لكنه أُعيدَ إلى الحظيرةِ، والأهمُّ أن بادْوِل قد أُخرجَ نهائيًّا – هو والنظرةُ الهرميةُ المهنيةُ للجيشِ التي دافع عنها. كانت النتائجُ واضحةً: في 22 تشرين الأول 2009، تمَّ العملُ بقانونٍ عضويٍّ إصلاحيٍّ للقواتِ المُسلّحةِ، أسّس المليشياتِ البولفاريةَ، وذلك بعد شهرٍ فقط من قانونِ المجالسِ المحليةِ الإصلاحيِّ، الذي يُحمِّلُ المجالسَ مهمّةَ “الأمنِ والدفاعِ التكامليِّ” ويربطُهما مباشرةً بالمليشيات.[1]

تعمّقت هذه العلاقةُ ما بين المليشياتِ المؤسَّسةِ حديثاً والمجالسِ المحليةِ في أوائلِ عامِ 2010 بالدعم الجديدِ الذي تلقته السلطةُ المحليةُ من أعلى على شكلِ مجتمعاتٍ محليةٍ تدعمُها الحكومةُ، أسماها تشافيز “أحجارَ البناءِ” للدولةِ الفنزوليةِ الجديدة.[1] وبحلول العامِ 2010، كان يتكوّنُ 187 مجتمعاً محلياً كتلك، وقد تمّ تأسيسُ مجلسٍ حكوميٍّ اتحاديٍّ لتعزيزِ الوضعِ الشرعيِّ للمجتمعاتِ المحليةِ ومجالسِها ولـ”إزالةِ مركزيةِ السلطاتِ التقليديةِ البلديةِ والحكوميةِ ولنقلِ تلك السلطاتِ للمجالسِ المحليةِ التي تُمثِّلُ القاعدة.”[1] أضفْ إلى ذلك أن هذه المجالسَ لم تعدْ على مستوى المجتمعِ المحليِّ فقط؛ فالقانونُ العضويُّ الذي يُعزّزُ المجلسَ الحكوميَّ الاتحاديَّ يذكرُ بالتحديدِ مجالسَ العمالِ والفلاحين، ومن حيثُ الجوهرُ أيّةَ مجالسَ أخرى تُمثِّلُ قطاعاً مُحدَّداً من المجتمعِ. وهكذا، حين اندمجت المجالسُ رأسيًّا في مجتمعاتٍ محليةٍ، تكاثرت أفقيًّا أيضاً عبرَ المجتمعِ ككلٍّ، كما فعلت المليشيات. وفي الذكرى السنويةِ لحربِ إيسيكْيِل سامورا الاتحاديةِ، كشفَ تشافيز عن تمثالٍ جديدٍ للقائدِ الريفيِّ الثوريِّ في حديقةِ إلْ كالفاريو العامّةِ، التي أعادَ تسميتَها باسمِ سامورا؛ وفي الوقتِ عينِه أنشأ رسمياً كتائبَ من الفلاحين كأحدِ مُكوِّناتِ المليشيا البولفاريةِ، تكونُ مُهمتُها حمايةَ الفلاحين من موجاتِ العنفِ التي كانت تُطلقُها الأقليةُ الإقطاعية.[1]

بعد ذلك بأقلَّ من شهرٍ، أعاد تشافيزُ تسميةَ الثالثَ عشرَ من  نيسانَ رسميًّا – وهو اليوم الذي أرجعته فيه إلى السلطةِ الجماهيرُ المؤيدةُ – ليصبحَ “يومَ المليشيا البولِفاريةِ، والشعبِ المُسلَّحِ، وثورةِ نيسان،” مُصرًّا إلى ذلك على أنّ “المليشيا هي الشعبُ والشعبُ هو المليشيا، وأن الشعبَ المُسلَّحَ والقواتِ المُسلَّحةَ واحدٌ أحد.”[1] لذلك فإنَ هذه الدفعةَ نحو السلطةِ المحليةِ في السنواتِ الحديثةِ دفعةٌ تدمجُ بشكلٍ مُباشرٍ الحكمَ الديمقراطيَّ بالهياكلِ المليشيويةِ على المستوى المحليّ. فليس وليدَ الصدفةِ، إذن، أنْ أعلنَ تشافيزُ عن هذه التحوّلاتِ باقتباسٍ من كْليبَر رامِريس، المغوارِ في حزبِ الثورةِ الفنزوليةِ: “لقد حان الوقتُ للمجتمعاتِ المحليةِ لتتولَّى سلطةَ الدولةِ، التي ستقودُ إداريًّا إلى التحوِّلِ الكليِّ للدولةِ الفنزوليةِ واجتماعيًّا إلى ممارسةِ السيادةِ ممارسةً حقيقيةً من قبلِ المجتمعِ من خلالِ السلطاتِ المحلية.”[1]
 
ثورةٌ أبعدُ من القانون

لكنْ، إذا كانت الدولةُ تمدُّ يدَها من أعلى إلى الحركاتِ الشعبيةِ من أسفلَ، فهذه الإيماءةُ لا تخلو من تناقضاتٍ أو مخاطر.[1] والتناقضاتُ قديمةٌ قِدمَ السيادةِ ذاتِها: فالدولةُ لا تحبُّ مشاركةَ أحدٍ في السلطةِ، والجيشُ أقلُّ كثيراً منها. وهكذا، بينما نستطيعُ الاحتفاءَ بمأسسةِ سلطةِ المجتمعِ المحليِّ على أنها على قدمِ المساواةِ مع سلطاتٍ عامّةٍ أخرى، من المؤكَّدِ أنّ هذا – في الوقتِ الراهنِ، على الأقلِّ – لا يضعُ أدواتِ السلطةِ الشعبيةِ في موضعِ السموّ. وتبقَى المليشياتُ الرسميةُ أيضاً ضمنَ هيكلِ الدولةِ بشكلٍ قويٍّ وعُرضةً للسيطرةِ الهرميةِ (لكنها سيطرةٌ تأتي الآنَ من جانبِ تشافيز أكثرَ منها من جانبِ كبارِ ضباطِ الجيش). وكما أخبرني أحدُ المُنظِّمين الثوريين: “بالرغمِ من إعلاناتِ تشافيز عن الحاجةِ إلى مليشيا للمواطنين، فالكثرةُ ممن هم في الداخلِ لا يزالون يؤمنون بحاجةِ الدولةِ إلى الحفاظِ على احتكارِ العنف.”

يعبّرُ بوضوحٍ بالغٍ عن هذا الأمرِ المغوارُ السابقُ والقائدُ المحليُّ العليمُ كارلُس بيتَنْكورْت. فهو يقولُ بحزمٍ إذ يُشيرُ إلى نسخةٍ من قانونِ المجالسِ المحلية: “يزعمُ القانونُ أنه ’يَخلقُ،‘ لكنّ القوانينَ لا تَخلقُ، بل إرادةُ الجماهيرِ هي التي تفعل! ويزعمُ القانونُ أنه ’يُنظِّمُ،‘ لكنك لا تستطيعُ تنظيمَ حركةٍ شعبيةٍ من غير كوابح!” وإذ أنه لا يُعارضُ بالضرورةِ مساعيَ الحكومةِ، لا يملكُ إلا أن يرى تناقضاً أساسيًّا في هذه المساعي: فالهبوطُ إلى الأسفلِ لبناءِ سلطةٍ ثنائيةٍ لا يُساوي البناءَ من الأسفلِ إلى الأعلى. ويستنتجُ بيتَنْكورْت أنْ ليس جنينُ الدولةِ الجديدةِ نظريةً صارمةً، بل ممارسةٌ تنظيميةٌ جديدةٌ تتجاوزُ كلَّ هذه، بينما هي شبيهةٌ، كما يبدو، بأهداف تشافيز.

بالرغمِ من هذه التناقضاتِ، آثرَ الكثيرون أنْ يعملوا ضمنَ هذه الهياكلِ الشرعيةِ الجديدةِ أو بالتوافقِ معها. وقد شرحَ لي فالنتين سانتانا، مثلاً، أنّ السكانَ المحليين حول لا بْيِدْريتا حاولوا تسليمَ مجلسِهم المحليِّ كليًّا إلى الأعضاءِ التعاونيين، لكنّه وآخرين رفضوا. أما الآن، فنصفُ أعضاءِ المجلسِ أعضاءُ في التعاونيةِ الثوريةِ، ونصفُهم منتخَبون، مما يقودُ إلى اندماجٍ مؤسسيٍّ عضويٍّ يُؤمَلُ فيه أنْ يحولَ دون أنْ تغدوَ هذه الهياكلُ المحليةُ مُنفِّرة. لكنّ سانتانا يصرُّ، مُردِّداً قولَ كارلُس بيتَنْكورْت، على أنّ المليشياتِ الحقيقيةَ في الشارعِ، لا في المعسكراتِ، لأنك لا تستطيعُ بناءَ سلطةٍ ثنائيةٍ من أعلى.

في تحليلِه لاختطافِ نيهاوس، الذي كتبه سنةَ 1979 من داخلِ سجنِ سان كارلُس، رفض كارلُس لانس إستراتيجيتين متعارضتين كانتا سائدتين في ذلك الوقت. تبني الفكرةُ “التدريجيةُ”، كما يُصرُّ، مؤسساتٍ بديلةً تفتقدُ إلى تكيّفٍ إستراتيجيٍّ، بينما يُهملُ الرأيُ “التمرديُّ-الانقلابيُّ”، الذي هو في الحقيقةِ “صيغةٌ ساخرةٌ من فكرةِ ’قصرِ الشتاءِ‘”، الحاجةَ إلى بناءٍ بديلٍ، إلى سلطةٍ ثنائيةٍ: “ما من ثورةٍ – في الماضي أو الحاضرِ – يُمكنُ أنْ تُدرَكَ خارجَ ثنائيةِ السلطات.”[1] وبينما يُؤكّدُ لانس على الحاجةِ إلى “هجومٍ على السلطةِ وإقامةِ دكتاتوريةٍ طبقيةٍ،” يقولُ إن هذا “يستلزمُ في الوقتِ عينِه بناءً تدريجيًّا لسلطةٍ بديلةٍ،” مشيراً إلى الهياكلِ المجلسيةِ والمليشيويةِ باعتبارِها أدواتٍ لهذه السلطةِ الناشئةِ تستحقُّ الانتباه.[1] أما حول السؤالِ المتعلِّقِ بكيفيةِ إدراكِ حركيةِ هذه السلطةِ الثنائيةِ في اللحظةِ الراهنةِ، فيقولُ رولَنْد دِنِس، رفيقُ لانس الأصغرُ سنًّا، إن “شعارَ السلطةِ الثنائيةِ القديمَ (البرجوازيةِ والطبقةِ العاملةِ) الساري الفعلِ على ذروةِ الحركةِ الثوريةِ يصبحُ اليومَ إستراتيجيةً دائمةً منسجمةً مع الحاجةِ إلى تنظيمِ سلطةٍ اشتراكيةٍ بلا دولة.”[1] وما عبّرَ ذاتَ يومٍ عن اللحظةِ الثوريةِ بامتيازٍ يغدو اليومَ عمليةً لم تعدْ تُفهَمُ “من أعلى”، بل “من أسفلَ” وبتداخلٍ متوتِّرٍ مع المؤسساتِ القائمةِ.

لقد جسّد دِنِس نفسُه هذا التداخلَ المتوتّرَ بطريقةٍ شخصيةٍ بشكلٍ خاصٍّ: إذ باعتبارِه عريقاً في الكفاحِ المناهضِ للدولةِ لعقودٍ من الزمنِ في “العصيانِ الشعبيِّ” ونشيطاً في هبةِ كاراكاس ومقاومةِ انقلابِ 2002 كلتيهما، فقد عُيِّنَ دِنِس لمدةٍ قصيرةٍ نائباً لوزيرِ التخطيطِ بعد إحباطِ الانقلاب. أضفْ إلى ذلك أنه، في أثناءِ وجودِه في ذلك المنصبِ، كان على رأسِ سلسلةٍ من الاجتماعاتِ مع المنظماتِ الشعبيةِ ومجالسِ الأحياءِ الفقيرة.[1] ولعلَّ أفضلَ دليلٍ على خصوصيةِ السلطةِ الثنائيةِ في السياقِ الفنزوليِّ يكمنُ في حقيقةِ أنَ هذا النصيرَ لـ”سلطةٍ بلا دولةٍ” يترأسُ “حركةَ الثالثَ عشرَ من نيسانَ”، التي سُمِّيت بتاريخِ اليومِ الذي أبرزت فيه الجماهيرُ الفنزوليةُ أوراقَ اعتمادِها كسلطةٍ ثنائيةٍ حقيقيةٍ، والتي هي منظمةٌ استخدمت سلطتَها الدستوريةَ لإعادةِ تشافيز إلى منصبِه ضمنَ الهيكلِ الدستوريّ.[1] غيرَ أن دِنِس، بالرغمِ من هذا الدعمِ الكليِّ للعمليةِ الثوريةِ، مَثلُه مَثلُ بيتَنْكورْت، حذِرٌ من الأخطارِ التي تنزعُ إلى التسرُّبِ من أعلى إلى أسفل. وبشكلٍ خاصٍّ، عارضَ الطريقةَ التي سعت بها الحكومةُ حديثاً إلى تشريعِ الوحداتِ الاشتراكيةِ (الكُميوناتِ) من أعلى، مشيرةً إلى مصدرِ الإيحاءِ الثوريِّ ذاتِه كتشافيز: “ليس القانونُ هو ما يُعطي الوحدةَ الاشتراكيةَ رخصةَ دخولِ التاريخِ، ففي حالتِنا، إنه الصوتُ الذي تناهَى لنا من نقاشِنا الثوريِّ – الذي أصبحَ الآن من التاريخِ – حين أفصحَ عن تشكيلِ ’الدولةِ الاشتراكيةِ‘ أو ’الجمهوريةِ ذاتيةِ الحكمِ‘، متَّبعاً توجيهاتِ كْليبَر رامِريس.” وبالضدِّ مما يعدُّه تشريعاً “عموديًّا” وحتى “إقطاعيًّا” للوحداتِ الاشتراكيةِ من أعلى، يتطلّعُ دِنِس إلى تطويرِ هذه الوحداتِ الاشتراكيةِ “بمعزلٍ عن القانون.”[1] مع هذا، بالرغمِ من قلقِه المُحدَّدِ بالنسبةِ إلى قانونِ الوحدةِ الاشتراكيةِ العضويِّ الأحدثِ للعام 2010 والحذرِ العامِّ من التحوُّلِ من أعلى الذي يُشيرُ له هذا القلق، فإن دِنِس، في إصرارِه على السلطةِ الثنائيةِ كعمليةٍ دائمةٍ، جاءَ بفكرةٍ قويةٍ لفهمِ حركيّةٍِ الثورةِ البولفارية.[1]

 
في اللحظة الراهنة

نعودُ إلى التناقضِ الظاهريِّ الذي ابتدأنا منه، والذي يُقدِّمُ بموجبِه المقاتلون المناهضون للدولةِ، مثل لا بْيِدْريتا، الولاءَ للرئيسِ، ويتكلّمُ المغوارُ الراحلُ كْليبَر رامِريس عن نشاطٍ قويٍّ للكتلةِ المنتخِبةِ وللسلطةِ الدستوريةِ في إطارِ “حكومةِ ثورةٍ شعبية.”[1] ولهؤلاء يُمكنُنا أن نُضيفَ التناقضَ الظاهرَ لعديدِ المغاوير السابقين الذين تولَّوا مناصبَ عاليةً في جهازِ الدولةِ، حيث تتخذُ السلبيةُ المُجسَّدةُ غطاءَ الإيجابيةِ المزعج.[1] وبينما تميلُ القلةُ من المغاويرِ السابقين ممن يُعارضون تشافيز إلى فعلِ ذلك من اليمين، كحالِ تيودورو بِتْكُف، فإنّ القائدَيْن الغِواريَّيْن ومؤسِّسَيْ حزبِ الثورةِ الفنزوليةِ دوغْلَس بْرافو وفْرانسِسْكو “إل فْلاكو” بْرادا يفعلان ذلك من موقفٍ جذريٍّ ظاهريًّا. وإذ قد لا يكونُ مُفاجئاً، في الظروفِ الطبيعيةِ، أن يجدَ المرءُ قائداً غِواريًّا سابقاً لا يثقُ بل يُعارضُ تلك الحركاتِ اليساريةَ في السلطةِ، ينبغي أنْ يكونَ واضحاً هنا أنْ ليس ثمةَ شيءٌ طبيعيٌّ في فنزولا المعاصرةِ، حيثُ يضمُّ جهازُ الدولةِ التقليديُّ تركيبةً متفجّرةً من المغاويرِ والانتهازيين، ومن داعين حقيقيين للامركزيةِ ونخبةٍ جائعةٍ للسلطةِ تتقمّصُ الثوبَ الأحمر. في فنزولا هذه، نجدُ الآن الأغلبيةَ الساحقةِ ممن كانت في السابقِ تُعارضُ الدولةَ، والبندقيةُ في يدها، تُرافقُ العمليةَ التي يقودُها في الظاهرِ تشافيز. ومن المؤكَّدِ أنّ من خبروا النفَسَ الحارَّ والقيادةَ الأشدَّ حرارةً لمخابراتِ الدولةِ (دِسِب)، وخبروا الرطوبةَ الباردةَ في زنزاناتِ التعذيبِ في سان كارلُس، هم أشدُّ ارتياباً في العمليةِ ومديحُهم قاصر. لكنّ هذا لا يُغيِّرُ حقيقةَ أنّهم يرَوْن الثورةَ البولفاريةَ السبيلَ الوحيدَ المُتاحَ في الوقتِ الراهن.

حين عدتُ إلى شقةِ دوغْلس بْرافو، تفحّصني قائلا، “أنتَ من بين الثمانين في المائةِ ممن يتعاطفون مع العملية.” قالها قبل أن يُحاولَ إقناعي بعكسِ ذلك. إنه يُصرُّ على أنّ الخطأ الأساسيَّ يرتكبُه من يُسلِّمون سيادتَهم لتشافيز. من الواضحِ أنّ عقلَه كان يتحرّكُ بأسرعَ من كلماتِه حين قال وهو يغلي، “ما نراه الآن إنما هو صراعٌ بين ’جناحين يمينيين‘، يقفُ الشعبُ منه على جانبِ الطريق. وضعُ تشافيز يتزايدُ ضعفاً منذ هزيمةِ استفتاءِ عام 2007.” ثم صرخَ كأنما يهزُّني لأرى شيئاً صحيحاً أمام عينيّ: “تشافيز يقوم الآن بدورِ كارلُس أندريس بيريس، وكما كان من أمرِ كارلُس، سوف يتخلصون من تشافيز للإبقاءِ على النظام. تذكّرْ أننا قلناها!” لكنني في النهاية لا أستطيعُ أن أرى رؤيتَه: لا أستطيعُ أن أرى استحالةَ العمليةِ البولفارية، لا أستطيعُ أن أرى كيف يمكنُ فهمُها على أنها شرٌّ لا لُبسَ فيه بدل أن تكونَ لحظةَ كفاحٍ في حدِّ ذاتِها، لا أستطيعُ أن أرى بديلاً لهذه العمليةِ، لا أستطيعُ أن أرى كيف لا يستشفُّ دوغْلَس هذا الأمرَ. فالذي أراه، في نهايةِ المَطافِ، مغوارٌ سابقٌ لا يستطيعُ تقبُّلَ حقيقةِ المعركةِ القادمةِ، قائدٌ من غيرِ جنود.

بحسبِ جوفِنال، الذي هو نفسُه لا يؤيّدُ سلطةَ الدولةِ الدستورية، دوغْلس بْرافو ينتقدُ تشافيز تحديداً بسببِ دورِه في إعادة الأخيرِ للسلطةِ. فالحقيقةُ أنّ حزبَ الثورةِ الفنزوليةِ هو من قادَ الانتفاضةَ الصاعقةَ للتحالفِ المدنيِّ-العسكريِّ المعروفةِ باسم “الطريقِ الثالث.” “إنه يشعرُ كأنه أبو” العمليةِ، حسب قولِ جوفِنال، ونتيجةً لذلك يرفضُها جميعاً بشدةٍ، واضعاً نفسَه في الجانبِ الخاطئِ من التاريخ. ويصرُّ جوفِنال قائلا: “نعم، نحن نقّادون،” وهذا واضحٌ من حقيقةِ أن أغلبَ نشاطاتِه الحاليةِ تبقى سريةً تحضيراً لمستقبلٍ غير متوقَّع. “لكننا سنُقدِّمُ أرواحَنا في سبيلِ العملية، من داخلِ العملية.” أما رفائيل أُسْكاتِغْوِي، كآخرين غيرِه، فيُفضِّلُ ألا يتكلّمَ في الموضوعِ، مُصرًّا على أنّ “هناتِ دوغْلس إنما هي من تفكيرِه الخاصِّ به.” ثمةَ عضوٌ سابقٌ في حزبِ الثورةِ الفنزوليةِ، وهو اليومَ يُنسِّقُ النشاطاتِ في قلعةِ سان كارلُس، حيث كان مسجوناً ذات يومٍ، يقول مُتحدِّياً: “لا أزال جزءاً من حزبِ الثورةِ الفنزوليةِ – نحنُ لم نتخلَّ عن دوغْلس، هو الذي تركنا.”
في كتابِه، اليعاقبةُ السود، الذي يُحلِّلُ فيه الثورتين الفرنسيةَ والهاييتيةَ معاً، يُصرُّ س. ل. ر. جيمْس على أنّ “القوةَ”، في أيِّ ثورةٍ، “هي التي يُحسَبُ حسابُها، خصوصاً قوةَ الجماهيرِ المُنظَّمة.” ولقد رأينا هذا وأكثرَ منه على مدى تاريخِنا لثورةٍ مُختلفةٍ تماماً: ففي كلِّ تحوّلٍ مهمٍّ للسلطةِ الدستوريةِ خلالَ الخمسين سنةً الماضيةَ، وقفت جماهيرُ الناخبين إما مُلهِمةً أو مُهدِّدةً أو الموقفين كليهما أحياناً. عميقةٌ معاني هذه الحكمةِ الثوريةِ في مسألةِ القيادةِ والدولةِ، بحسبِ جيمس؛ وهنا نجدُ الدروسَ التاريخيةَ المُستفادةَ من هاييتي وفرنسا كلتيهما أكثرَ سلبيةً منها إيجابية: توسان، مَثَلُه مَثَلُ رُبْسْبير، قد دمّرَ جناحَه اليساريَّ، وبهذا أكّدَ قدَرَه.”[1] بعبارةٍ أخرى، لقد أهملَ كلا القائدين قاعدتَهما الداعمةَ وبهذا نحرا حنجرتيها – أو، في حالة رُبْسْبير، أوردها موردَ المِقصلة. والدرسُ ذاتُه صحيحٌ بالنسبةِ إلى تشافيز وغيرِه ممن يسعَوْن إلى احتلالِ السلطةِ الدستوريةِ لمؤسساتِ الدولةِ من خلالِ إرادةِ الشعبِ المُنظَّمةِ. وإذ أنّ الثوارَ واليِساريين قد اكتسحوا السلطةَ حديثاً في أمريكا اللاتينيةِ كلِّها، أصبح لهذا الدرسِ علاقةٌ بالقارة أيضا.

في الوقت عينِه، أُجبِرَت الحركاتُ الشعبية

اترك تعليقاً