الأخبارالأرشيف

نحو مشروع لتغيير ثوري في لبنان – أسعد أبو خليل

 

يكثر الحديث عن تغيير وعن «ثورة» في لبنان، وهناك فقر في برامج محددة للتغيير. والتحركات الاحتجاجيّة لم تولّد بعد قيادة تمثيليّة، ربما بسبب الصراعات وغياب التجانس الفكري والسياسي في ما بينها. وقد يكون ذلك لإصرار البعض على إخفاء دوره في الاحتجاجات (ماذا يفعل الثري اللبناني، روبير فاضل, في الاحتجاجات التي انطلقت ضد احتكار الثروة الوطنيّة, وهو مُروَّج له من قبل «مجموعة الأزمات الدوليّة» والإعلام الغربي؟ وهل صحيح أنه كانت لـ«فرع المعلومات» خيمة في وسط البلد للتجسّس والتخريب على المحتجّين؟) والكلام على المطالب يبقى مائعاً وعاماً ما لم يقترن ببرامج تفصيليّة محدّدة, وتبقى المطالب إصلاحيّة ما لم تترافق مع قرارات ثوريّة. وشعارات الاحتجاج تفرط في استعمال مصطلح «الثورة», لكن المطالب تكون تحت سقف أدنى بكثير من طموحات «الثورة». وللشعوب حول العالم أمزجة مختلفة. المزاج الفرنسي, مثلاً, أكثر تغييريّةً, بدليل ثورة فرنسيّة هائلة وتغييرات دستوريّة وجمهوريّات خمس, فيما لا تزال المحكمة الدستوريّة الأميركيّة تناقش في المعاني الأصليّة للآباء المؤسّسين في صياغة دستور أميركي لم يتغيّر منذ التأسيس. وشعب لبنان لم يكن يوماً ذا مزاج ثوري, ربما لأن الطائفيّة تتستر أو تطمس الصراعات الطبقيّة التي يمكن أن تولّد حركة ثوريّة, كما أن النفوذ والهيمنة الغربيّين في لبنان فعلا فعلهما في التأثير على ثقافة سياسيّة ووطنيّة ارتبطت منذ البداية باقتفاء آثار المحافظة الغربيّة. وفي قرنيْن من الزمن, لم يخِف الطبقة الحاكمة أكثر من ظهور ملامح للصراع الطبقي الخالي من التجليّات الطائفيّة, وإن كانت الملامح لا تطول في الظهور بسبب محاربتها الفوريّة.

 

الثورة تحتاج إلى برامج محدّدة وإلى طبقة حاكمة جديدة تقطع مع الماضي. كانت الأصول الطبقيّة لـ«الضباط الأحرار» تنتمي إلى الطبقة الريفيّة الوسطى, كما فصّلها أحمد حمروش, وهي غير الطبقة التي كانت تحكم مصر قبل «الثورة». وفي لبنان, لم تطرح الحركة الوطنيّة برنامجاً ثوريّاً, بل طرحت برنامجاً سياسيّاً بورجوازيّاً إصلاحيّاً, وهو سقف الثلاثي الإصلاحي, جنبلاط وحاوي وإبراهيم (تتوقّع ثورة من توفيق سلطان ومحسن دلّول وفؤاد شبقلو؟). والذي أو التي تُراجع «البرنامج المرحلي» لـ«الحركة الوطنيّة» قد يُصدَم بقلّة البنود الاقتصاديّة فيه. وحتى الإصلاحات السياسيّة لم تكن متطرّفة, حتى إن المبعوث الأميركي الشهير, دين براون (الذي زار لبنان مبعوثاً عن إدارة فورد في ١٩٧٦) عبّر عن ذهوله من مضمون برنامج «الحركة الوطنيّة», ونُسب إليه ما معناه: هذا ما أخافَ الجبهة اللبنانيّة؟ هذا برنامج ليبرالي, ليس إلاّ. وكان براون على حق. طمح قادة الحركة الوطنيّة إلى تمثيل سياسي أوسع من خلال نظام انتخابي جديد, على أساس لبنان دائرة انتخابيّة مع النسبيّة, وهذا لم يكن سيطيح الطبقة الحاكمة, لكن كان يمكنه أن يوصل عدداً أكبر من النوّاب لجنبلاط, وربما أوصل شيوعيّاً أو اثنيْن, أو بعثيّاً أو اثنيْن. والإصلاحات في البرنامج المذكور كان يمكن أن تُضاف إلى إصلاحات الشهابيّة التي هدفت إلى إنقاذ الدولة الرأسماليّة من مخاطر الثورة والتفسّخ. وفي الشق الطائفي, ابتدعت «الحركة الوطنيّة» «إلغاء الطائفيّة السياسيّة», كأن هناك أصنافاً من الطائفيّة (السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والزراعيّة, الخ), من دون طرح العلمانيّة بحجّة أن المفتي لم يكن يقبل بها. أما خفض سن الاقتراع إلى ١٨ سنة أو تمثيل النساء، فهذه إصلاحات تقبل بها أحزاب السلطة اليوم (وحتى مشروع لبنان دائرة انتخابيّة واحدة تحوّل إلى مشروع «أمل»).

 

لكن هناك إمكانيّة لتحقيق تغيير ثوري لو أراد الشعب ذلك. لكن بوادر ذلك لم تبدُ بعد. كما أن الأكثريّة البادية في التحرّكات تطرح علامات استفهام حول سقف التغيير (لأن الثورات الجذريّة لا تجذب إلا أقليّات, وهي حتماً لا تجذب رئيس الجامعة الأميركيّة وأساتذتها). وعندما ينضم أشرف ريفي ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط و«القوّات اللبنانيّة» و«الكتائب» وإعلاميّو الحريري وإعلاميّاته (أي نفس هؤلاء الذين واللواتي أفنوا سنوات في الترويج للبرامج الاقتصاديّة التي أدخلت لبنان في الكارثة) إضافة إلى الاعلام السعودي, تتساءل إذا كان هؤلاء يعبّرون عن طموحات ثوريّة أو أن جيش الثورة المضادة تسرّب لتعطيل إمكانيّة التغيير. لو تحقّقت الثورة, فإن هؤلاء يفرّون—أو يجب أن يفرّوا—من أمام جماهيرها, ولو أنها ثورة بحق لما تجرّأ دعاة الفاسدين والطغاة, مثل مارسيل غانم وعلي جابر وعمرو أديب, على مناصرتها. عندما تأتي الثورة, تسارع المحطات الثلاث («إل.بي.سي.» و«إم.تي.في.» و«الجديد») المملوكة من أصحاب الملايين إلى محاربتها, وتعاطف هؤلاء معها—أو تصنّعهم التعاطف—يشير إلى ارتياحهم إلى المسار الحالي. عندما تأتي الثورة, سترى عراة الصدور في طليعتها لا «بيروت مدينتي» (ألا يذكرونك بفؤاد السنيورة في مرحلة التسعينيّات, عندما كان هو ذروة التكنوقراطيّة؟)

 
وطروحات الأحزاب والحركات المشاركة في الاحتجاجات تفتقر إلى المطالب المحدّدة. واحد يطالب بقاض شريف وآخر ينتظر «هيئة نزيهة» والأكثرية تتكلّم عن حكومة تكنوقراط, كأن هؤلاء منزهون حكماً. ألم يكن رياض سلامة وفؤاد السنيورة وحتى حسن السبع (ما غيره) من التكنوقراط؟ ومعظم الأحزاب اليوم تستعين باختصاصيّين, والاختصاص ليس المشكلة. والوزير يستعين بفريق من الاختصاصيّين حتى لو لم يكن مختصاً, لكن المشكلة في مكان آخر. المشكلة تكمن في ظروف عمل الوزارات وطبيعة النظام السياسي واستشراء الفساد والثراء في الحكم. تغيير كل هذا يتطلّب الشروع في وضع برنامج عمل ثوري للتغيير, حتى لا نبقى ندور في سياق “ضرورة استرداد المال المنهوب” الذي ينتظر على قارعة الطريق كي يُسترد ويُعاد إلى أهله. لكن يمكن بسرعة تحقيق تغييرات ثوريّة تلبّي الرغبة عند الذين يرفعون شعار الثورة, ويعنونونه. هذه بعض المفاصل:

أولاً, الانتخابات. إن شعار انتخابات عاجلة شعارٌ غير ثوري أو تغييري, وهو شعار يرفعه كل عناصر التيّارات السياسيّة المُشاركة في الاحتجاج, بمن فيهم العناصر اليساريّون. لكن الثوريّة تكون في تأجيل الانتخابات قدر المستطاع من أجل تشكيل مجلس تأسيسي من خارج المجلس النيابي كي يُبطَلَ عمله. لا يزال هذا المجلس الحالي يمثّل الطبقة الحاكمة، والظنّ أن انتخابات عاجلة في غضون أشهر, أو أقل, يمكن لها أن تعيد تشكيل الطبقة الحاكمة ليس إلا أوهام. إن إنتاج طبقة حاكمة جديدة لن يكون عملاً ديموقراطيّاً. لو أن عبد الناصر انتظر نتائج الانتخابات لكان الباشوات ظلّوا يحكمون مصر، ولكانت قناة السويس بقيت تحت السيطرة الأجنبيّة لسنوات طويلة. الحزب البلشفي لم يصل إلى السلطة بالانتخابات (قلة تتذكّر أنه كان هناك انتخابات بعد الثورة ولم يفز البلاشفة فيها بالأكثريّة). في لبنان, يمكن إعادة تشكيل الطبقة الحاكمة والقضاء على الزعامات الفاسدة برمّتها, لكن ذلك يقتضي إجراءات جذريّة غير مطروحة من أحد حاليّاً.

يمكن مثلاً تشكيل هيئة تأسيسيّة لعقد مؤتمر دستوري يعيد صياغة الدستور, ويتجاوز اتفاق الطائف. يمكن للحركة الاحتجاجيّة, لو تطوّرت بشكل ثوري (وهذا ليس بالمحتمل)، أن تعمل على تشكيل مجالس محليّة في أماكن الاحتجاج-السكن, كما يمكن إحياء النقابات بعد طرد (واعتقال في حالة الفاسدين) القيادات الحزبيّة منها وإجراء انتخابات فيها، على أن يُستبعد منها ممثّلو الأحزاب. والهيئة الجديدة يمكن أيضاً أن تحوي أسماءً معيّنة, كي يتم تمثيل فئات مهمّشة وفقيرة, لأن بعضها يجد صعوبة في الحضور اليومي في أماكن الاعتصام والاحتجاج, وهذا الإصرار على تعيين فقراء ومعدمين من شأنه إحداث ثورة في التمثيل السياسي في لبنان (وشعار الاختصاصيّين يُخيف, لأن ذلك يضمن استمرار احتكار السلطة من قبل الميسورين متخرّجي الجامعات الأجنبيّة والخاصّة).

والمجلس أو الهيئة التأسيسيّة الجديدة تضع دستوراً جديداً من دون انتخابات. إن أي انتخابات جديدة, في غضون أشهر أو سنة, ستعيد إيصال الممثّلين أنفسهم إلى السلطة, مع حدوث خروق هنا أو هناك. هذه الطبقة الحاكمة تمرّست في لعبة الانتخابات. هي تستطيع, كما أثبتت, أن تتأقلم مع نظم انتخابيّة مختلفة, ومع تغييرات طفيفة للغاية, مقعد أو مقعدين أكثر أو أقل لهذه الجهة أو تلك. وتستطيع هذه الطبقة أن تتأقلم أيضاً مع أكثر النظم الانتخابيّة تطوّراً, أي النسبيّة على مستوى الوطن, وهو طرح «الحركة الوطنيّة». لكن حتى في هذا النظام الانتخابي, تستطيع السلطة أن تعود من خلاله إلى الحكم. يستطيع «المستقبل» أن يتحالف على مستوى لبنان مع جنبلاط و«القوّات», كما أن حزب الله يستطيع أن يتحالف مع «التيّار» ومع «أمل» وحلفاء من طوائف أخرى. وهذه المواجهة ستكون متقاربة مع التمثيل الحالي, وإن كانت حظوظ المعارضة أكبر في الاختراق لو توحّدت جميعها في قائمة واحدة، لكن هذا من المستحيلات. ستحصل خروقات بالتأكيد: بعض المقاعد ربما للحزب الشيوعي, لو تحالف مع «مواطنون ومواطنات», لكن الحزازات الشخصيّة والخلافات العقائديّة نسفت إمكانيّة التحالف في الانتخابات الأخيرة, ومن المستبعد أن يتغيّر ذلك. والقانون النسبي على مستوى الدائرة الواحدة في كل لبنان بات مُعتنقاً من حركة «أمل»، وهو—في ضوء الثقافة الطائفيّة السائدة—سيكرّر تجربة الحريريّة في توكيل أمر اختيار الممثّلين المسيحيّين إلى المسلمين (على افتراض أن القائمة ستكون «مسلم-مسيحي» للحفاظ على المناصفة المقدسة, والتي ستتضارب مع الأرجحيّة الاسلاميّة الاقتراعيّة), وهذا سيزيد من الاحتقان الطائفي. والبطريركيّة لن تقبل بهذا القانون.

لأحزاب السلطة ماكينات انتخابيّة متطوّرة وعصريّة وهائلة في نطاق عملها, وهي—بسبب طول سنوات التمثيل—باتت تُقارن بالماكينات الانتخابيّة في الدول الأكثر تقدّماً منا تكنولوجيّاً وسياسيّاً. وهناك اعتماد على استطلاعات الرأي وطرق التعبئة والتجييش وحتى لمراقبة احتساب الأصوات. كيف تقارن ذلك بأحزاب أو حركات ستتمثّل للمرّة الأولى؟ ثم أين الثوريّة في الإصرار على انتخابات في غضون شهور من دون طرح تصوّر ثوري للإنفاق الانتخابي، مع رفض تسليم إدارة الانتخابات لشخص واحد (أي لوزير الداخليّة: والطريف أن اسم زياد بارود يُطرَح عند البعض كممثّل لأطراف الاحتجاج, بالرغم من فشله في الانتخابات الأخيرة, وبالرغم من قربه الحميم من البطريركيّة المارونيّة, وبالرغم من فشله في السيطرة على أشرف ريفي في زمن وزارته, وبالرغم أيضاً من إشرافه على أكثر انتخابات نيابيّة فساداً في تاريخ لبنان حيث فاق الإنفاق السعودي والغربي مليار دولار. كما أن بارود تجاهل مخالفة البطريرك الماروني صفير للقانون الانتخابي بضرورة الالتزام بالصمت قبل ساعات من إجراء الانتخابات). لهذا, فإن عمليّة إدارة الانتخابات يجب أن تُسحب من يد الوزير, لتصبح في عهدة لجنة خبراء من غير السياسيّين.

تصبح الانتخابات شعبيّة بحق لو أن رسم التسجيل الانتخابي يُلغى بالكامل, لأن المبلغ—حتى لو كان متواضعاً بالنسبة إلى الميسورين—فهو يمنع أبناء وبنات الطبقات الشعبيّة من الترشّح. والحد من الإنفاق الانتخابي عمليّة صعبة، لأن الإنفاق يكون من الداخل ومن الخارج, ولهذا فإن التغيير الثوري يجب أن ينتظر حتى تُسنّ قوانين إلغاء السريّة المصرفيّة وتوضع ضوابط على تحريك المال وإنفاقه من قبل السفارات (خصوصاً تلك التي لها باع طويل في الإنفاق الانتخابي في لبنان). والمال الانتخابي أعطى الميسورين والأحزاب المنتفخة التمويل (الداخلي والخارجي) أفضليّة كبيرة في قدرتها على شراء الوقت على الشاشات وزرع لوحات إعلانيّة في كل لبنان. هذا الإنفاق يجعل من الانتخابات ظالمة بحق الفقراء والأحزاب التي ليس لها تمويل داخلي أو خارجي, أو حتى خبرة في الإعلان الانتخابي.

 

ولبنان بلد صغير, وحجّة البطريركيّة أن الشعب يجب أن يتعرّف على ممثّليه باطلة. وكان البطريرك صفير يستعمل هذه الحجّة من أجل تضييق الدائرة الانتخابية كي تصبح ملتصقة بالطائفة في محلّة صغيرة, لأنه قال إن ذلك يضمن معرفة الناخب بالمرشح. لكن الناخب في لبنان يعرف المرشحين في دوائر أخرى بسبب حجم مساحة لبنان. والإعلان الانتخابي يجب أن يتساوى عبر فتح الشاشات مجاناً أمام كل الأحزاب والتكتّلات المرشحة (يُستحسن فرض الأحزاب العابرة للمناطق والطوائف, لكن هذا مستحيل في وقت قصير, لأن ذلك يتطلّب بناء ثقافة حزبيّة علمانيّة، وهي غير متوافرة اليوم إلا عند الحزب الشيوعي والحزب القومي وبعض الأحزاب اليساريّة والناصريّة الصغيرة. لكن من حسنات الانتخابات النسبيّة على مستوى كل لبنان أنها تسهم في بناء ثقافة حزبية عابرة للمناطق والطوائف, لكن قطف ثمار هذا القانون يحتاج إلى سنوات طويلة). والتساوي في مساحة الإعلام الانتخابي, المطبوع والمرئي والإذاعي, يزيل الحظوة التي يتمتّع بها الأثرياء.

كما أن القانون الثوري يمكن أن يمنع كل من تفوق ثروته مستوى دخل الطبقة الوسطى (ويمكن تحديد ذلك بواسطة خبراء)، وعندها يصبح المجلس التمثيلي للشعب ممثلاً حقيقيّاً عن الشعب, وتزول سيطرة الأثرياء على مقدّرات الحكم. لكن ذلك يجب أن يترافق مع إجراءات لمحو الزعامات من لبنان كليّاً, وذلك يكون بمنع كل من كان أبوه أو جدّه أو أبو جدّه, أو عمّه, أو أي قريب له (بدرجة أو اثنيْن من قرابة أبناء العمومة) من الترشّح إلى الانتخابات. كما أن تحديد مدة النيابة (بولايتيْن أو ثلاث) يمنع تربّع نوّاب على مدى عقود طويلة, كما حصل في حالة عبد اللطيف الزين الذي لم ينقطع عن تمثيل الجنوب من انتخابات ١٩٧٢ (وهو كان نائباً قبل ذلك). وإزالة الزعامات أو السلالات الطائفيّة تغيّر من بنية الطبقة الحاكمة, وتمنع احتكار التمثيل من قبل عائلة واحدة كما حصل في الحالة الجنبلاطيّة على مدى أكثر من قرن من التمثيل النيابي. وهذا المنع هو وحده الكفيل بالقضاء على مفهوم الزعامة, لأن النيابة تصبح خدمة عامّة لا تدوم ولا تُورَّث. طبعاً, إن انتظار انتخاب مجلس جديد لسنّ قوانين في هذا الصدد ساذج, لأن المتحكمين في مقدّرات المجلس الحالي (أو حتى التالي) سيمنعون ذلك من الحدوث, لكنّ مجلساً معيّناً ممثلاً للاحتجاجات يمكنه أن يسن قوانين كهذه. والقضاء على الزعامات يسهل عندما يترافق ذلك مع ثقافة حزبيّة سيشجّعها (على المدى الطويل) القانون الانتخابي النسبي (على أساس دائرة انتخابيّة واحدة) لأن الصراع يتحوّل بين شخصيّات إلى صراع بين ايديولوجيّات.

ثانياً, الفساد. تحوّل شعار مكافحة الفساد إلى فولكلور ويكاد يقارب شعبيّة دبكة الحائط في عزّها. السنيورة يريد مكافحة الفساد كما برّي, أي إن الفساد بات يتيماً لا يُعترف به، ويمكن أن تُسجَّل جريمة الفساد اللبنانيّة الكبرى ضدّ مجهول. وخطاب الاحتجاج وبيانات الحركات المشاركة فيه وتصريحاتها لا تحلّ المشكلة. على العكس, هي تعطي الطبقة الحاكمة فسحة إضافيّة من أجل أن تلملم صفوفها وتعيد توطيد دعائم حكمها الذي أصابه الخلل في أكثر من موقع. وحل مشكلة الفساد يتطرّق دوماً إلى دور عظيم لقضاة نزيهين وشرفيين (كأن المشكلة هي في إيجاد صفات وفضائل في رجل ما, وهذا لا يوحي بالثقة بالمؤسّسة التي يعمل فيها هذا القاضي—السعي دوماً في برامج حركات الحراك هو في العثور على «قاض نزيه» يرأس هذه اللجنة أو تلك, من دون معرفة كيفيّة العثور على هذا النزيه, وبناء على أيّ معايير). والرؤية الثوريّة للدولة اللبنانية هي في الحكم عليها بأنها فاسدة وأن هناك حاجة إلى بناء دولة جديدة (من هنا أهميّة تشكيل هيئة مؤسّسة لبناء دستور جديد يفصل مع المراحل الماضية). والدولة المدنيّة التي يتحدّث عنها شربل نحّاس هي شرط، لكنه ليس شرطاً كافياً, إذ إن الدولة المدنيّة يمكن أن تكون رجعيّة ومستسلمة أمام العدوّ, ويمكن أن تكون مقاومة. المدنيّة في حدّ ذاتها ليست حلاً لكل المشاكل. كثيرة الدول المدنيّة في الغرب ـــ مثل فرنسا ـــ التي ارتكبت جرائم على أراضيها وفي أراضي غيرها. ونحّاس يعتبر أن الدولة المدنيّة تحل المشكلة مع الاحتلال الإسرائيلي, لكن ذلك لا يحدث بناءً على مدنيّة الدولة، بل على سياساتها التي يمكن أن تكون معادية لإسرائيل أو متصالحة معها.

القضاء على الفساد يحتاج إلى حلول جذريّة (ثوريّة) تبدأ بوضع كل من تولى الوزارة والنيابة وكبار الموظّفين منذ عام ١٩٩٢ في الإقامة الجبريّة، وتشكيل محكمة خاصّة من قضاة لبنانيّين وعرب (يتم اختيار القضاة اللبنانيّين وفقاً لمباراة مجهولة الأسماء ومن صفوف من لم يلتزم بزعيم ومن لم يشغل منصباً في القضاء). التوليفة اللبنانيّة عن قاض نزيه هنا وقاض نزيه هناك ليست إلا محاولة للالتفاف على المطالب لمعالجة جذريّة للفساد، لأن القضاء جزء من منظومة الفساد. ومعالجة الفساد تبدأ بالتعامل مع الفساد على أنه مُعشّش في كل أجهزة الدولة وإداراتها من دون استثناء. واستشراء الفساد هو في جانب منه تعبير عن فساد القضاء بحدّ ذاته، لأنه لم يحرّك قضيّة واحدة ضد الفساد في تاريخه, إلا على صغار الفاسدين. وتحريك القاضية غادة عون لم يكن بريئاً عن الهوى، لأنها اعترفت بأن التوقيت مرتبط بالغضب الشعبي. وهل القضاء يتحرّك بناءً على غضب شعبي؟ أليست السيدة عدالة معصوبة العينيْن كي لا ترى أبداً؟ 

 

2

 

الحديث عن مكافحة الفساد يدور في حلقة مفرغة لا يعبِّر عنها أكثر من مكافحة حسن فضل الله للفساد: فهو باتَ ــ وعن حقّ ــ مادة للتندّر على الإنترنت لما حلّ برفعه لواء مكافحة الفساد بالنيابة عن حزب الله. فالنائب وعد بملاحقة ملف الإنترنت غير الشرعي إلى نهايته وردّدَ أن العدوّ قد يكون قد تسرّب عبر هذا الإنترنت (أي أنّ للموضوع جانب فساد وجانباً من خطر للأمن القومي للبلاد). لكن فضل الله رفع يدَه وقال ــ بعدما كان هدّد بأنّ أسماء كبيرة قد تسقط ــ إن الأمر بات (أو نام) بعهدة القضاء، وأن لا لومَ عليه لأن القضاء مُلام في عدم التحرّك. أي أنّه يكافح الفساد ثم يترك الأمر في عهدة القضاء. مع علمه أنّ القضاء لن يتحرّك. طبعاً، لوم القضاء من قِبل فضل الله ناقص لأنه يتمنّع عن لوم الحليف الشيعي الآخر، هو ضالع في ملفّات فساد.

إن مشروع التغيير الثوري يجب أنّ يبدأ بإبداء عدم الثقة بالقضاء. وبعض المشاريع الإصلاحيّة لحركات وتيّارات في التحرك الاحتجاجي تعوّل على «لجنة قضائيّة» هنا أو على «المجلس الدستوري» هناك لتولّي مهمات مكافحة الفساد في المرحلة الانتقاليّة. لكن هؤلاء القضاة، كلّهم، مدينون ومدينات بمناصبهم لزعماء سياسيّين. هم نتاج الطبقة الحاكمة الفاسدة، ويجب إخضاع كلّ هؤلاء للمساءلة والعقاب: ما هي الخدمات القضائيّة (غير القانونيّة) التي كان على هؤلاء تأديتها مقابل دعم الزعماء لهم وتغطيتهم؟ والمجلس الدستوري فقد أهليّته في أكثر من مفصل، خصوصاً أنّه في تعامله مع انتخابات طرابلس الأخيرة، والتزوير والرشى اللذين صاحباها، أثبتَ خضوعه للسلطة السياسيّة وطواعيته في ليّ ذراع القانون. هؤلاء يجب أيضاً وضعهم تحت الإقامة الجبريّة بانتظار محاكمتهم.

 

يمكن في المرحلة الانتقاليّة إنشاء هيئة قضائيّة جديدة، يُنتقى أعضاؤها من خلال مباريات يُشرف عليها أساتذة قانون في لبنان وفي دول عربيّة. كما أنّ الهيئة القضائيّة العليا التي تشكّل المحكمة الخاصّة بمحاكمة الفاسدين يمكن أن يتمثّل فيها قضاة من دول عربيّة ليس لها تاريخ من التدخّلات المباشرة في الأزمة اللبنانيّة (تونس أو المغرب أو موريتانيا مثلاً). وفي مرحلة لاحقة، يمكن استبدال تعيين القضاة من قبل الزعماء بانتخاب مباشر من الشعب أو عبر مباريات تكون الأسماء والطوائف فيها مستترة. إن ترك القضاء على ما هو عليه من فساد كفيلٌ بأن ينقذ الطبقة الحاكمة من العقاب.

أما ملف «استعادة المال المنهوب»، فالحديث عنه لا يتعدّى الشعارات. أين هي هذه الأموال الذي تريد الحركة الاحتجاجيّة أن تستردّها؟ هل هي في مخبأ سرّي أو تحت شجرة سنديان؟ وهل للقضاء اللبناني القدرة على العثور عليها؟ طبعاً، لا. هناك حاجة إلى مكاتب تحقيق ماليّة دوليّة. هنا درس مفيد من قضية محمد رشيد («خالد سلام»). أخبرني مستشار صديق لياسر عرفات بالقضيّة. بعد وفاة عرفات، اكتشف قادة (سماسرة) منظّمة التحرير الفلسطينيّة أنّ ملايين من الدولارات اختفت من حسابات منظمة التحرير حول العالم، وكانت الشبهات تلاحق محمد رشيد (حاز ثقة عرفات قبل أن يسرقه). قام صديق عرفات بالاتّصال بمكتب محاماة شهير في لندن، والمكتب استعان بمحقّقين ماليّين (مهمة هؤلاء هو رصد حركة أموال لشركة معيّنة أو لشخص معيّن) وتوصّل إلى استنتاج أن هناك قضيّة قويّة يمكن أن تُقام ضد محمد رشيد بتهم اختلاس أموال المنظمة. لكن لسبب ما، فإن عصابة السرقة والفساد في رام الله قرّرت عدم المضي في رفع الدعوى في المحاكم البريطانيّة. ليس لدينا في لبنان مكاتب تحقيق ماليّ تستطيع أن ترصد حسابات جنبلاط أو برّي أو جعجع أو الحريري أو غيرهم. هذه تحتاج إلى قدرات ومهارات مكاتب دوليّة، على أن تقوم الدولة في المرحلة الانتقاليّة بتقديم طلبات لمراجعة حسابات هؤلاء في أكثر من دولة (ليست سويسرا وحدها هي التي تحوي ثروات الفاسدين، فجزر الكاميان هي ملاذ مفضّل بسبب انخفاض الضرائب وصعوبة الملاحقة الماليّة). وحتى الطلبات الأميركيّة لمراقبة حسابات سويسريّة تحتاج إلى أدلّة قانونيّة قبل أن تسمح الحكومة السويسريّة بكشفها. ولهذا، إن من أولويّات الحركة في لبنان وضع خطة مفصّلة للتعامل مع الفاسدين، والسجن هو المكان الوحيد الذي يمكن استجواب الطبقة الحاكمة فيه، لأن شروط التفاوض تكون في غير صالح الأثرياء.

والمرحلة الانتقاليّة ــ لو كانت ثوريّة بحقّ ــ لا تفرض إعلانات فرديّة عن «رفع السريّة المصرفيّة»، بل تقديم كشوفات ماليّة شهريّة علنيّة، ممهورة من مصارف لبنانية وأجنبيّة، عن حركات الأموال في حسابات كلّ مسؤول في الدولة. وهذا الشرط بحدّ ذاته سيقصي الفاسدين عن مواقع المسؤوليّة، وعندها سيصبح مآل السياسة كما في «جمهوريّة» أفلاطون: أن يتنافس الناس كي لا يتبوّأوا المناصب لا أن يتنافسوا ويتحاربوا وينفقوا الملايين من أجل تبوّء المناصب التي تعود عليهم بالمزيد من الثروات.

ولا يمكن لمكافحة الفساد أن تعفي المؤسّسات الدينيّة (لا تزال الكنيسة أكبر مالكة أراضٍ في لبنان، وفي ظروف تاريخيّة غير ديموقراطيّة). ويمكن إخضاع حسابات كل المؤسسات الدينيّة (بعد تحريرها من أيّ تمويل أو تسهيل ماليّ من الدولة اللبنانيّة لتدعيم فصل الحيّز الديني عن السياسي) لمحاسبة دقيقة ومنع موارد ماليّة لها من خارج لبنان. ومحاكمة الفساد في المؤسّسات الدينيّة لا يمكن أن تتجاهل الاعتداء على الأطفال في الكنيسة أو في غيرها من أماكن العبادة، خصوصاً أنّ طريقة تعامل البطريركيّة المارونيّة مع قضيّة الأب منصور لبكي، بعد إدانته من قِبل الفاتيكان وفضحه من الكنيسة وصحافتها في فرنسا، كانت متساهلة ومتستّرة، ومنعت العقوبة عنه: الاستجمام في برمانا ليس عقوبة، والأب لبكي عاد مؤخراً كي يقيم الشعائر الدينيّة.

ثالثاً، الطائفيّة. ليس هناك مشاريع جديّة لمكافحة الطائفيّة في لبنان. الحركة الوطنيّة لم تطرح العلمانيّة بل اكتفت بـ «إصلاح» الطائفيّة لمنح المسلمين المزيد من الحظوة في النظام الطائفي، وهذا ما حدث في الطائف، وهذا ما أخاف ميشال عون يومها ومنعه من المضي فيه. الأحزاب العلمانيّة، مثل الحزب الشيوعي والحزب القومي ــ بالإضافة إلى أحزاب اليسار الثوري ــ لم تطرح مشاريع محدّدة للقضاء على الطائفيّة. لدينا مثال دولة رواندا التي عانت في ١٩٩٤ من حرب مدمّرة ومجازر من قِبل متطرّفي الهوتو ضد التوتسي و«معتدلي» الهوتو. هذه الحرب كانت، أيضاً، من إرث المستعمر الذي خلق تقسيمات أتاحت له السيطرة. وبعد تجربة الحرب التي أودت بحياة ٨٠٠,٠٠٠ نسمة، قرّرت الحكومة انتهاج سياسة جديدة للقضاء على هذه الانقسامات المجتمعيّة. هي حرّمت وجرّمت التقسيم بين الشعب، وألغت الإشارات إلى التوتسي والهوتو في الكتب والبرامج وبطاقات الهويّة الوطنيّة. أيّ إشارة إلى هذه التقسيمات لها عقوبة. وأقامت الحكومة مخيّمات إعداد لمقاتلين تربّوا على الوعي الانقسامي (حكومة بروندي المجاورة، التزمت بالنموذج اللبناني في توزيع الحصص والمراكز بين الفريقيْن كما أنها اعتمدت المداورة في المناصب، وهذه لم تُجرَّب في لبنان بعد). يمكن طرح مشروع إلغاء الإشارات الطائفيّة في بطاقات الهويّة اللبنانيّة والكتب المدرسيّة والوثائق الرسميّة بالكامل، كما أنّه يمكن إعداد مخيّمات تأهيل للمصابين بلوثة الطائفيّة. ومنع التوصيف الطائفي يمكن أن يترافق مع منع الأسماء التي تحمل منحى طائفيّاً أو دينيّاً (الحكومة الفرنسيّة باتت تبادر باستمرار إلى ابتداع طرق لتثبيت العلمانيّة في المراكز والمدارس الحكوميّة، لكن هذه هي علمانيّة انتقائيّة متعصّبة تستهدف المسلمين والمسلمات). وتجريم الإشارات والرموز الطائفيّة تفعل فعلها بعد سنوات وتغيّر من الثقافة السياسيّة. (ودولة رواندا هي الدولة الأولى في العالم، بالمناسبة، في نسبة النساء في المجلس النيابي لأنها فرضت كوتا ٥٠٪ للنساء، أي أنّ الحكومة تحمل المساواة على محمل الجد على أكثر من صعيد).

 

ومحاربة الطائفيّة تتطلّب فرض قانون أحوال شخصيّة مدني، على أن يُتاح لمن يشاء قبول قوانين أحوال شخصيّة دينيّة على أن تلتزم بالمساواة بين الجنسيْن والأعراق والجنسيّات. والسلطات الدينيّة ستحارب إلغاء الطائفيّة لأنها مستفيدة منه بصورة مباشرة (نقداً وعدّاً) وبصورة غير مباشرة، لأن النظام الطائفي يعطيها الحظوة والهيبة والحصانة (القانونيّة) التي لا تستحقّها. إن محاربة الطائفية لا تكتمل من دون محاربة الفساد الديني الواردة أعلاه. ويُمنع في الفترة الانتقاليّة، أو الطويلة المدى، تطبيق كوتا طائفيّة بذرائع مختلفة. لكن تطبيق كوتا طبقيّة (أي ما يسمّونه بـ «التمييز الإيجابي» في فرنسا) لصالح الفقراء يسهم في توسيع نطاق الخلفيّة الطبقيّة للنخبة التي سيُعاد تشكيلها للحكم. الحفاظ على النظام الطائفي يعيد إلى السلطة زعماء الطوائف لأنهم أفضل من غيرهم من أبناء الطوائف في التحريض والتعبئة الطائفيّة. هل تكمن مهارة جنبلاط في قرائته لمجلّة «نيويوركر» أم في شدّ عصب الطائفة بمناسبة أو بدون مناسبة؟ لكنّ محاربة الطائفيّة مرتبطة بمحاربة رأس المال (كما كتب الرفيق علي القادري في مقالة أخيرة)، وهذا مرتبط بدوره بسياسة خارجيّة مستقلّة. والطائفيّة في لبنان لا تخدم فقط المشروع السعودي، بل الغربي برمّته، وإلّا لم تكن لتستثمر فيه على نحو قرنيْن من الزمن.

رابعاً، الاقتصاد. لستُ خبيراً اقتصاديّاً لكن هاكم وهاكنّ بعض العناوين لتغيير اقتصادي جذريّ. لا يزال اقتراح عامر محسن هو الأفضل بالنسبة إلى عدم سداد الدين. وعدم سداد الدين يرتدّ على المصارف ويزعج المؤسسات والدول الغربيّة. لكن ذلك يجب أن يترافق مع خطّة تأميم اقتصادي للمصارف والمرافق الكبرى. سيُقال إن دول الغرب ستعلن لبنان دولة فاشلة، وأن ذلك سيؤدّي إلى تطبيق عقوبات على لبنان. لكن هناك عقوبات على لبنان تطال أكبر حزب لبناني على الإطلاق، وهذا الأمر يمرّ عاديّاً في الحياة السياسيّة، لا بل إن المراسلين والمراسلات في لبنان عندما يقابلون مسؤولاً أميركيّاً يسارعون إلى سؤاله إذا كانت هناك حزمة جديدة من العقوبات ضد لبنان، كمن يسأل عن حال الطقس في الأسبوع المقبل. والعقوبات على لبنان تؤثّر على الحركة الماليّة فيه، وتتيح لأميركا بفرمان أن تغلق مصرفاً لبنانيّاً عريقاً (أو أن تأمر المطيع، رياض سلامة، بإغلاق مصرف لبناني بأمر من اللوبي الإسرائيلي). وتحويل لبنان إلى دولة فاشلة قد يكون الفرصة الأولى لتحقيق سيادة سياسيّة حقيقيّة للبنان، بعد تحقيق السيادة إزاء إسرائيل للمرّة الأولى في تاريخ لبنان في عام ٢٠٠٠. الطبقة السياسيّة ستولول وتنتحب على مصير «سيدر» وستذكّر بحزمتَي «باريس ١» و«٢» وما تلاهما (وعود المساعدات الغربيّة أو الخليجيّة تكون دائماً أكبر مما يصل إلينا وبكثير). لكن المساعدات الغربيّة ليست إلّا دعماً للطبقة الفاسدة والمال يُعاد تدويره إلى الغرب، إما في مشاريع يستفيد منها الغرب أو في سرقات تعود إلى المصارف الغربيّة.

والاستقلال عن الغرب اقتصاديّاً، يتيح للبنان التحرّر الاقتصادي. إنّ معاداة الغرب لمصر بعد الثورة (الحقيقيّة بعد ١٩٥٢) هي التي حفّزت على تحقيق اقتصاد وطني وتصنيع وإصلاح زراعي. وكان رفض مصر لإملاءات المساعدات الأميركيّة من أفضل سمات الزمن الناصري، لأن أميركا (حسب ما يظهر جليّاً في ما نُشر من وثائق أميركيّة) كانت تظن أنّ حاجة مصر إلى القمح ستعطي أميركا القدرة على فرض سياسات على عبد الناصر. وعندما بادر السفير الأميركي في عهد كينيدي إلى مصارحة عبد الناصر بحقيقة النوايا الأميركيّة (القمح مقابل الإملاءات)، كانت ردة فعل عبد الناصر قويّة إلى درجة أنّ الأوامر من واشنطن سارعت إلى تنبيه السفير حول خطورة تكرار المحاولة. ولبنان لا يستطيع أن يبني شبكة مواصلات عامّة وصناعات وتشريع لزراعة الحشيشة التي يمكن أن تعود على لبنان بالخير الوفير، بالإضافة للموارد النفطيّة (بعد أن تتوّلى المقاومة ملفّها كبديل حيوي عن الوساطات الأميركيّة التي قبل بها كلّ فاسدي السلطة من دون استثناء) بوجود الرعاية الغربيّة. البنك الدولي وصندوق النقد يقاومان أيّ إنفاق حكومي لصالح الطبقات الشعبيّة، وضدّ مصالح الشركات الغربيّة.

 

ليس هناك من اتّحاد سوفياتي لتعويض لبنان عن انسحاب الغرب، لكن الخيار الصيني لم يجرؤ لبنان على سبر غوره، لخوف الطبقة الحاكمة من السفارة الأميركيّة. وقروض الصين تكون ميسّرة أكثر من قروض أميركا للدول النامية. والاستقلال عن الغرب هو الفرصة الوحيدة لإنشاء صناعات محليّة. وقد كان للبنان صناعات لكن فتح الاستيراد غير المشروط وغير المقيّد قضى عليها. أنا من جيل كان يفضّل المشروبات الغازيّة من شركة «جلّول» اللبنانيّة، وما زلت أذكر بالكثير من الحنين نكهة «التمر الهندي» لمشروب «جلّول». لن تجد «بيبسي» أو «كولا» بهذه النهكة. لكن مشروبات «جلّول» اختفت من الأسواق كما احتضرت العديد من الشركات المحليّة. وكان وكيل «بيبسي» في لبنان هو النائب توفيق عسّاف (مموّل لحملات كمال جنبلاط الانتخابيّة ـــ كان جنبلاط متصالحاً مع رأس المال المحلي والعربي، مثل خليفته). ولبنان يستورد كلّ أنواع الشوكولا في العالم فيما له شركة عريقة في صناعة الشوكولا وهي لا تحظى بالعناية التي توفرها دول الغرب لصناعاتها (طبعاً، دعم الصناعات الوطنيّة يجب أن يترافق مع تأميم هذا الصناعات لتوفير شروط عمل لائقة للعمّال وللبيئة، ولتوزيع الأرباح بصورة عادلة ـــ ومعمل «غندور» له تاريخ من الاستغلال العمّالي. في أميركا، هناك ظاهرة «مخازن كوستكو»، وهي مخازن كبرى تبيع كلّ حاجيات المنازل لكن بأحجام عملاقة: لا تستطيع أن تشتري هناك علبة «كلينكس»، لكن تستطيع أن تشتري حزمة بـ ٢٠ صندوقاً وبأسعار مخفّضة لأن حجم المبيع مرتفع إلى درجة أنّ المالك يستطيع أن يخفّض نسبة الأرباح التي تُعوّض في حجم المبيع (طبعاً، تستفيد الطبقة الوسطى لا العاملة من هذه المخازن لأنّ العائلة تدفع مبلغاً أكبر لشراء كميّة كبيرة من حاجيات المنزل). و«كوستكو» تجري إحصاء بالمنتوجات الأكثر مبيعاً، من شركات مختلفة، وتقوم هي بتقليدها وتصنيعها مما يزيد من أرباحها. ولبنان يستطيع أن يضع قائمة بالمستوردات الأكثر مبيعاً، لتوفير بدائل صناعيّة محليّة لإنتاجها وبأسعار أرخص بكثير من منتوجات الاستيراد. لكن لبنان يحارب التصنيع المحلّي لأن وكلاء شركات الغرب (الحصريّين) يخسرون لو أنّ التصنيع عمَّ ولو أن الدولة قامت باتّخاذ إجراءات حمائية تقوم بها أميركا، وهي الواعظة الأولى في العالم عن فضائل التجارة الحرّة. وقد أقفل آل الحريري مصنعاً في عكّار لشركة «المستقبل» (لمالكها فؤاد مخزومي) لأنهم خافوا أن تزيد شعبيّتها جراء توظيف عدد كبير من العمّال.

والتصدّي للتغيير الثوري في الاقتصاد يجب أن يفرض ضرائب باهظة على الميراث (بقيمة ٩٠٪ أو أكثر) لإزالة طبقة كبار الأثرياء. كما أنّه يمكن ضرب المباهاة بالثروة ــ التي تسم سلوك الأثرياء من الساسة ومن أصحاب محطات الإعلام ـــ عبر فرض ضرائب باهظة للسيجار المستورد والطائرات الخاصّة واليخوت والأبنية الفخمة. نستطيع أن نقلّد نمط الاقتصاد الاسكندنافي بعد الحرب العالميّة الثانيّة، الذي قلّلَ من طبقة كبار الأثرياء، لكنه عمّم البحبوحة وقلّل من الفوارق الطبقيّة (كما أعطى دوراً أكبر للعمّال في صيغة التكافليّة).

خامساً، السياسة الخارجيّة. لا يمكن تحقيق ثورة في لبنان عبر عزل السياسة الداخليّة عن الخارجيّة. لم تكن الطبقة الفاسدة في لبنان من دون رعاية وحماية أجنبيّة: من النظام السوري حيناً والسعودي حيناً آخر. لكن الغرب هو الراعي الأوّل للطبقات الحاكمة في الدول الاستعماريّة. لا يمكن للبناني أن يستمرّ في استضافة سفارات تقوم بمؤامرات في وضح النهار (مرَّ عرضاً هذا الأسبوع تقرير في جريدة «الشرق الأوسط» عن نصائح من سفير أوروبي باستعمال العنف من قبل السلطة). يمكن فرض اتفاقيّة فيينا على السفارات حتى ينحصر عمل واتّصالات السفارة بقناة وحيدة في وزارة الخارجيّة مع محاضر دقيقة ومسجّلة. سفراء دول الغرب يجولون على كل الوزراء والمسؤولين في مختلف أجهزة الدولة ومن دون حسيب ولا رقيب، ومن دون حضور مندوب عن وزارة الخارجيّة. هذا غير مألوف. لو أراد سفير دولة غربيّة أن يقابل وزير الاتّصالات، يكون ترتيب ذلك عبر وزارة الخارجيّة وليس مباشرة: كنا نرى في ويكليكس كيف أنّ وزير الاتصالات، مروان حمادة (عنوان من عناوين فساد السلطة على مرّ عقود) يقدّم «بريفنغ» (تقرير شفهي) للسفير الأميركي عن معلومات سريّة لوزارته. هل لتصل إلى إسرائيل مباشرة؟ ويجب وضع مراقبة صارمة على حركة أموال السفارات الغربيّة وحركة اتّصالاتها. هل هاتف السفارة اللبنانيّة في واشنطن غير خاضع للمراقبة مثلاً؟ 

هذه ليست إلّا مقترحات تخدم لبلورة مشروع تغيير ثوري، لو أراد اللبنانيّون واللبنانيّات ذلك. لكن محطات الأثرياء الثلاث في لبنان تُفرط في استعمال مصطلحات الثورة لأنها لا تريدها. وعندما يصرّ إعلام النظام القطري والسعودي على إطلاق ثورة في لبنان على الحركة الاحتجاجيّة، فإنّ مراد هؤلاء هو قطع الطريق على الثورة وتضليل الشعب بهدف الحدّ من جموحه الثوري الذي ــ لو نما وكبرَ ـــ سيطيح بالنظام اللبناني وبشبكة أنظمة الطغاة التي تظلّله. لقد قُرعت طناجر في لبنان هذا الأسبوع. هذه وصفة من جين شارب، وقد سرّت كثيرين وكثيرات. لكن جين شارب لم يكن يريد ثورات، والطناجر لا تدكّ جدران الـ «باستيل»، ولو قرعت الشعوب الطناجر والصحون والملاعق. لمن تُقرع الطناجر؟ 

 

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)