الأرشيفعربي وعالمي

هل أصبح لبنان بحاجة إلى مارتن لوثر جديد؟ – حياة الحويك عطية

لبنان ومارتن لوثر

لا يا صاحب الغبطة والسيادة، إثم تجار الهيكل كان أقل من إثم تجار السياسة والمال في لبنان، والسيد الذي تسودون الناس باسمه لم يكن سيد رياض سلامة.

هل أصبح لبنان بحاجة إلى مارتن لوثر جديد؟ سؤال يطرح نفسه بعد أن طرحنا قبله عشرات الأسئلة حول الحصون الطائفية والمذهبية التي يتلطى خلفها الفاسدون الذين أكلوا لقمة عيشنا لعشرات السنين، والمنافقون الذين أغرقوا البلد طيلة نصف قرن بخرافة اقتصاد الخدمات، وليتها كانت ذلك النوع من الخدمات التي يقدمها خبراء التكنولوجيا أو العلوم مثلاً! ومن ثم أدخلونا منذ 3 عقود في أسطورة خلجنة، ينفق أصحابها كأهل النفط من دون أن يكون لديهم نفط، بل يتسوّلون لإنفاقهم أهل النفط وفضلات الغرب، أو لنقل بدقة مخصصات الأجهزة الغربية، لشراء الهيمنة على دول العالم الثالث عبر الرشاوى للكبار وما يسمى مؤسسات المجتمع المدني للصغار؛ تلك التي أصبح اسمها معرّباً “أن جي أوز”، والتي راحت تنفخ التفاهة بالونات ملوّنة تظنّ نفسها كواكب.

كنّا نصرخ أن “سوليدير” اشترت دمار بيروت بتراب المال، لتحوله إلى مليارات في بنوك الخارج، ولكن الأسوأ أن هذه المرحلة اشترت الضمائر بتراب المال، لتحولها إلى “حربايات” سياسية مأجورة مأمورة تسمي نفسها زعامات، وإلى أبواق صحافية رخيصة تسمي نفسها نجوماً وصانعي رأي عام، ولاعبي كشاتبين بمصائر المساكين بكل الوسائل.

كنّا نصرخ أنَّ ثقافة الاستهلاك من دون إنتاج ستقضي على البلد ومن فيه، وكنا نردّد مع آلان كوتا، حامل جائزة “نوبل” للاقتصاد، أن هذه الثقافة هي المدخل الإلزامي للفساد، غير أن كوتا الإيطالي كان يحذر من دور المافيات في حماية الفساد منذ تجربة برلوسكوني، ولم يعرف أن مافيات لبنان الصغير أشد خطراً، لأنها تقيم في حصون طائفية أعظم من سور الصين العظيم، لكنه، حتى لو عرف ذلك، لم يكن ليتصوّر أن تتحول المرجعيات الدينية إلى حامية لهذه الحصون والقلاع.

نعم، شهدنا عشرات المرات رفض أهل المحميات وحرّاسها المثول أمام القضاء أو الاستجابة لأية طلبات محاسبة، وبوقاحة جعلت أحد الزعماء اللبنانيين يبرر حمايته لمسؤول افتضح فساده بجملة غريبة: “هذا صاحبنا من نحنا وزغار”. وشهدنا وزراء سابقين وعسكريين سابقين وحاليين يضربون القضاء بالبيض، ويرفضون التكرم بمقابلته، لكن الذاكرة ظلت تحتفظ في مكان خاص بتصدي مرجعية دينية لمحاولة التحقيق مع فؤاد السنيورة بمنحة الـ11 مليار، ورسمها حوله خطاً أحمر عريضاً، غير أن من درس الصحافة والكتابات السياسية الأوروبية الغربية بعد حرب تموز، يجد بصراحة أن هذه المنحة أعطيت للبنان بأمر أميركي، لإقامة توازن مع مساعدات إيران خلال الحرب وبعدها (أقول هذا لأنه موثق في أحد كتبي). وعليه، ربما اعتبرت المرجعية السنيّة يومها أن هذا المبلغ من حق الرئيس الذي يمثلها، ليوزعها على من يشاء ويسكت بها الجميع.

أظهرت الأيام أنّ هذه القصّة أقلّ مما يحصل الآن. لقد طارت فيها أموال جاءت من الخارج، وهذا ديدن الدول المتسوّلة الفاسدة. أمّا اليوم، فقد طارت أموال الناس؛ أموال الموظّف الذي كان يحرم أولاده من أمور كثيرة كي يوفّر مبلغاً لتعليمهم عندما يكبرون، أموال المرأة الوحيدة التي ظلَّت تقتصد معظم دخلها، لأنها لا تنتمي إلى دولة تتكفّل بها خلال شيخوختها أو مرضها، أموال مريض يقسو على نفسه ويذهب إلى العمل ليوفّر مبلغاً يعينه في ما لو اضطرّ إلى الدخول إلى المستشفى الذي يتركه يموت على بابه ما لم يدفع مسبقاً، أموال شباب وكبار تكبَّدوا الهجرة وتعبها وعذاب أذوناتها وكفلائها كي يحوّلوا الجزء الأكبر من رواتبهم إلى بلد ظنّوه بلدهم، فإذا هو بلد الحرامية، وعاشوا على حلم العودة إليه بحياة كريمة، فإذا هم مضطرون إلى البقاء حيث هم والبدء من الصفر.

كلّ هذا لم يره المصرفيون، فَهِمنا، فَهُم تجار الهيكل، ولم يره السياسيون، فَهِمنا، فَهُم أفاعي الهيكل، ولم يفهمه المنتفعون، فهمنا، فهم جعلوا الضمائر علكة في فم الفساد، ولم يعد يبحث واحدهم إلا عن دكة يقف عليها في سوق الجواري والخصيان، وإن لم يجد من ينادي عليه، فإنه ينادي على نفسه.

أمّا أن لا يفهمها رجال دين، فعليهم، بحسب الطقس، أن يقرؤوا الإنجيل كل صباح ويقرؤوا فيه كيف حمل سيد السلام والمحبة السوط وضرب تجار الهيكل: “اخرجوا من بيت أبي يا أولاد الأفاعي وفاعلي الإثم”… لا يا صاحب الغبطة والسيادة، إثم تجار الهيكل كان أقل من إثم تجار السياسة والمال في لبنان، والسيد الذي تسودون الناس باسمه لم يكن سيد رياض سلامة ولا مكتف ولا كل الفاسدين، بل سيد الفقراء والصيادين… نعم يا سيدي، بهذا، يكون معروف سعد أكثر مسيحية منكم.

لا أقول ذلك لنقص في مسيحيّتي، أنا العلمانية، لأنني أؤمن بالمسيح، ولكن ليس برجال الدين. أؤمن بتعاليمه، ولكن ليس بحماة الفساد. وعليه، كنت أربأ بالكنيسة عن أن تصبح مادة تداول مهينة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ مهينة لأن تهمة الطائفية المسيحية نفسها سقطت، فالقاضية التي هاجمتموها مارونية مؤمنة، وهي تفعل ما فعله سيدها بتعقّب التجار والسماسرة والمرابين بالسوط (المرابون هم أصحاب البنوك بالصيغة الحديثة).

ولسقوط هذه التّهمة التي باتت عادية، نجد أنّ الاتهامات تبدأ من أبسطها: تضييع هيبة الكرسي الديني الذي يفرض على صاحبه أن يكون أثقل وزناً وأقل كلاماً وحركة (هذا في التقليد المسيحي)، لأنه يكون في العمق أكثر اطمئناناً، ولا يقلقه إلا وضع الناس، ثم تنتقل إلى ما هو أخطر: تضييع مبدأ المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم”، والآية القائلة: “أسهل أن يدخل فيل من ثقب إبرة من أن يدخل ثري ملكوت السماء” أو “من أطعم جائعاً فقد أطعمني، ومن كسا عرياناً فقد كساني، ومن سقى عطشاناً فقد سقاني”، وأخيراً وليس آخراً: “لقد خلق السّبت لأجل الإنسان، ولم يخلق الإنسان لأجل السبت”، وفي ذلك ردّ على الذين يقفون عند تجاوز القاضية لبعض القواعد الإجرائية القضائية، هل أذكّركم بالإنجيل يا حرّاس الكنيسة؟

ولأنّكم تجاوزتم الموقف الطائفي الذي أصبح عند اللبنانيين عادياً، وجدنا وسائل التواصل تغصّ بمن يتّهمكم بالرشوة، وبعلاقات مشبوهة، وبتهريب الأموال، في وقت يشنّ الفاتيكان حملة على الفساد، وكأنه يعود إلى أيام الإصلاح الكاثوليكي الذي ردّ على إصلاح مارتن لوثر. مؤلم أن نقرأ هذا. إنه ثقيل على المسيحيين ومهين لهم، بل إنه ثقيل على الإنسانية وقيمها، فهل نحن بحاجة إلى مارتن لوثر لبناني؟

لبنان ومارتن لوثر

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين ولا عم رأي موقع الصفصاف وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.