من هنا وهناك

هل ثمة صفقة قرن؟- منير شفيق

السؤال: هل من السياسة الصحيحة التعاطي و”صفقة القرن” من دون أن يُعلن عن محتواها وبنودها؟ أفلم يكن من الأفضل التركيز على ما هو معلن وملموس من سياسات وممارسات تصدر عن دونالد ترامب ونتنياهو، ونجعلها معركتنا، أو في الأقل نتعامل و”صفقة القرن” باعتبارها في مرحلة الإعداد والمجهول، وليست ذاهبة إلى التنفيذ لا محالة؟

 

بداية، اسمها “صفقة القرن”، وليس لها من معنى.. هل هي مشروع أو مقترح لحلّ ما نسميه القضية الفلسطينية، أو ما تسميه أمريكا: الصراع العربي- الإسرائيلي أو الفلسطيني- الإسرائيلي؟ أو إذا شئت “مشكلة الشرق الأوسط”؟

 

في أية لغة، الصفقة شيء والمشروع أو المقترح، شيء آخر؛ لأن المشروع أو المقترح حين يتم التوافق مع المعنيين عليه، بل حتى حين يوقعون عليه، يمكن أن يُسمى صفقة. وإذا كان بأهمية حلّ القضية الفلسطينية أو الصراع الفلسطيني والعربي ضد الكيان الصهيوني، فيمكن أن يُسمى “صفقة القرن”..

يعني أهم ما يحدث في القرن الراهن، أو في القرن الذي انقضى من عمر المشكلة.

 

ولهذا، فإن استخدام “صفقة” في غير مكانه، إلاّ إذا تم التوسع بما هو مقصود منها، واعتبرت مشروعاً قيد التداول، أو التنفيذ، من أجل الموافقة عليه بما سينتهي إليه من تغيير وتعديل نتيجة التداول، أو نتيجة ما سيسفر عنه التنفيذ من صراع.

 

ولكن إذا اعتُبِر أن المقصود هو مشروع، أو مقترح محدد أو سيتحدد عبر الصراع للوصول إلى حل من قبل المعنيين، فإن السؤال الذي يواجه كل من تعاطى معه: كيف يحق لنا أن نتعاطى مع مشروع، أو مقترح، أو خطوط عريضة، من دون أن يُعلن رسمياً من جانب الإدارة الأمريكية ما هو، وما هي بنوده، حتى يمكن التعاطي معه على بينة، قبولاً أو رفضاً أو تعديلاً؟

 

أما أن نتعاطى مع عنوان لا محتوى له، سواء أكان مشروعاً أم مقترحاً، فهذا يعني أننا نتعاطى مع مجهول، أو ولغز، أو أحجية..

 

والغريب أن كل من تعاطى و”صفقة القرن” باعتبارها مشروعاً أو مقترحاً لحل المشكل، من دون أن ينتظر ليصبح بين يديه، ما هي هذه الصفقة التي يُراد الوصول إليها، أو ما هي بنود هذا المشروع أو المقترح، يكون قد دخل لعبة يحدس فيها حدساً حول ما هو؟ فيما المعنى، كما يقولون، في قلب الشاعر.

 

والسؤال: أوَلم يكن من الحكمة ألاّ نخوض في الموضوع أصلاً، ونقول لصاحبه ما لم تخرج ما في جعبتك، لن ندخل في لعبة الحدس و”الحزر” والتشاطر، ولا نعتبر أن أمامنا حلاً؟

 

والغريب أننا جميعاً قبِلنا أن ثمة “صفقة”، أو مشروعاً أو مقترحات، ورحنا ننتظر أن يُعلن دونالد ترامب أو جيراد كوشنر محتوى الحل المقترح ومما يتشكل.

 

أما دونالد ترامب فقد استمرأ تحوّل كلمة قالها، أو شعار أطلقه، إلى مشروع أو أحجية، فراح يؤجل الإعلان مرة بعد أخرى، تاركاً الآخرين، كل الآخرين، أن يواصلوا التعامل مع المجهول… ومع لغز، ومع أحجية. وقد تستمر هذه اللعبة إلى انتهاء الولاية الأولى له، مما يعني إغلاق الموضوع، أو تجدده إذا نجح ترامب في الدورة الثانية.

 

كان البديل الأفضل للذين رفضوا التعاطي و”صفقة القرن” ما لم تُعلَن بنودها؛ أن يركزوا جهودهم على ما يُعلن من سياسات أمريكية أو يُتخذ من قرارات أو مواقف أو ممارسات. فيشن الصراع ضد ترامب حولها باعتبارها شيئاً ملموساً مؤكداً، ويمكن الذهاب في معارضته حتى النهاية.

 

وكان هذا هو النهج الصحيح في مواجهة السياسات الأمريكية منذ عشرات السنين حتى اليوم، أما اعتبارها جزءاً من “صفقة القرن”، فقد اختلطت بمجهول بدلاً من التركيز عليها مباشرة.

 

لنأخذ مثلاً قرار دونالد ترامب حول القدس، فبدلاً من إحالته إلى الصفقة، كان يجب أن تقوم الدنيا ولا تقعد ضده، باعتبارها معركة راهنة مفتوحة، والسعي لإنزال الهزيمة بها، ولا سيما الإفادة من عزلة قرار ترامب حول القدس، دولياً وإسلامياً وعربياً وفلسطينياً.

 

والأمر نفسه يتعلق بمواجهة ترامب في قراره حول الجولان أو حول وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، أو ما يقوم به ديفيد فريدمان، سفيره في تل أبيب، أو يُعلنه.

 

والأهم، إن وضع ما سمي بـ”صفقة القرن” على الرف ما لم تُعلَن بنودها، ومن ثم التركيز على ما هو قائم، يسمح بفتح المعركة ضد ما تقوم به حكومة نتنياهو من استيطان واحتلال وجرائم ضد المسجد الأقصى، وذلك بإطلاق انتفاضة شعبية عامة في القدس والضفة، تمضي جنباً إلى جنب مع مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت رداً على القرار المتعلق بالقدس. فنحن هنا في غير حاجة إلى انتظار إعلان ما تحتويه “صفقة القرن”، أو هدر الكثير الكثير من الجهد في محاولة التبرع في تقدير ما تعنيه “صفقة القرن”، أو اعتبار كل ما يجري على أرض الواقع مرتبطا بتلك الصفقة المنتظرة التي لم تُعلن حتى الآن، وأُريدَ لها (أو استمرأوا) أن تبقى لغزاً، بدليل أنهم حتى الآن لم يعلنوها، وما ذكروه من أسباب لعدم الإعلان كان واهياً، وذلك ابتداءً من التأجيل الأول، مروراً بالتأجيل بعد رمضان الأخير، ثم بعد الانتخابات في الكيان الصهيوني، ثم بعد تشكيل حكومة نتنياهو، والآن بعد انتخابات الكنيست القادمة.

 

منذ أن نشأت القضية الفلسطينية وراح المشروع الصهيوني يغزو فلسطين ويثبت أقدامه على الأرض، تحت الحراب البريطانية، ثم بعد قيام الكيان الصهيوني حتى اليوم، هنالك وعود حلّ للقضية الفلسطينية، ليعيش البعض على أملٍ بعد آخر، لتمرر وقائع على الأرض. ولكن لا حلّ ولا إمكان لتصفية القضية الفلسطينية، فالقضية الفلسطينية من جهة العدو تقضم خطوة بعد خطوة، والشعب الفلسطيني يقاوم ويصمد ويحافظ على كل ما أمكن للحفاظ عليه، ولا يستسلم، ولا يمكن أن يسمح بتصفية القضية، وفي ظهره دائماً أمته العربية والإسلامية، وأحرار العالم، وذلك في ظروف موازين قوى عالمية وإقليمية وعربية وفلسطينية غير مؤاتية، فكيف اليوم يمكن أن تصفى القضية الفلسطينية؛ وموازين القوى العالمية والإقليمية والإسلامية والعربية والفلسطينية تهب رياحها في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني؟ أي في ظروف أكثر مؤاتاة للمقاومة والانتفاضة، ومواجهة الاستيطان والاحتلال، وما يأخذه ترامب من خطوات ويرسمه من سياسات؟ 

 

فأنّى لـ”صفقة القرن” المزعومة أن تصفي القضية الفلسطينية، ولم تجرؤ أن تخرج من المجهول بعد.

 

فالذين يعتبرون أن ما يجري على الأرض هو “صفقة القرن” وأن “صفقة القرن” ماضية للتحقق، وأن كل شيء في طريقه للانتهاء.. هؤلاء واهمون إن كانوا من المروجين لها. أما إن كانوا من معارضيها، فما ينبغي لهم أن يضعوا الحب في طاحونتها، وذلك بالرغم من أن نيتهم التحريض ضدها من خلال التهويل بما يجري.