الأرشيفالجاليات والشتات

وداعاً «غسان» – مهندس «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»

رحيل مهندس «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» بصمت: وداعاً «غسان»

إذا كانت منظمّة «الجيش الأحمر الألماني» قد اشتهرت بالثنائي بادر- ماينهوف، فإن التاريخ العسكريّ سيذكر «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»» بالثنائي جاكلين إسبر – سليم الخوري، أو ريما وغسّان، الرفيقين اللذين لم يُعرفا إلا كثنائيّ رفاقيّ يكاد يكون توأماً. لم تفرقهما الحياة، حتى وفاة جاكلين إسبر في تشرين الثاني 2016. ويوم الجمعة 18 حزيران 2021، كان موعد لقاء الرفيق «غسّان» بالرفيقة «ريما»، ليجمعهما الموت مجدداً
قبل أن تنشر «الأخبار» قصة جاكلين إسبر بعد وقت على غيابها، لم يكن لدى غالبية الشباب العربي فكرة عن هذه المناضلة الكبيرة. كل ما كان يجري التداول به، صدر عن الأجهزة الأمنية في جبهة الأعداء. كانت المعلومات عنها توزع من قبَل مؤسسة الشرطة الدولية (الإنتربول) والتي زودت بها من قبل استخبارات فرنسا وإيطاليا وأميركا وإسرائيل بشكل خاص. وكان الملف يحوي على معلومات حول عمليّة تصفية الدبلوماسي “الإسرائيلي” في فرنسا يعقوب بارسيمانتوف إلى عمليات أخرى نفَّذتها إسبر بين العامين 1981 و1984، لكن لم يجر التطرق إلى تفاصيلها. وظلت ريما كما غسان يتمسكان بمبدأ عدم الحديث عن أعمال من باب التبجح. بل كانا من صنف المناضلين الذين لا يخرجون إلى الضوء إلا عند استشهادهم أو وفاتهم. الرفيق غسان، عرف بالنسبة لرفاقه بمدبر التفجيرات ضد الأهداف. بقي «غسّان» متخفيّاً قدر الإمكان.
معادياً لعدسات الكاميرات. أصرّ على «مجهوليته» حتى تاريخ 18 حزيران الماضي، عندما مات وأعلن عن اسمه الحقيقي: «سليم جبريل الخوري». ابن بلدة عندقت في عكار، شمال لبنان، شُيِّع في جنازة كبيرة في كنيسة البلدة بحضور مسؤولين في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين التي كان غسان منخرطاً في صفوفها، أو وصفه البعض بالمقرب منها. وهو أوصى بأن يلف جثمانه بعلمي فلسطين والجبهة الشعبية.

«المهندس»


ولد سليم الخوري في الأشرفية 21 كانون الأول 1954، وعاش فيها طفولته والشباب. درس في مدرسة الفرير فرن الشباك. كان المؤثر الأكبر على جاكلين إسبر، ابنة الأشرفية أيضاً، والعكاريّة أيضاً. كان سليم الخوري مصدر قناعاتها الأيديولوجية. انخرط الرفيقان في العمل الفدائي الفلسطيني. وتشاركا في تأسيس «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، التي عرفت بتنظيم عنقودي لأسباب تتصل بطبيعة عملها الأمني. وكان لغسان الدور المركزي في استقطاب وتدريب المنخرطين وإعدادهم لمهمات تلت.
لكنَّ الأهم يبقى أن غسّان / سليم الخوري رصد وخطط ونفذ مجموعة عمليات كبيرة مُهرت باسم «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية». التجربة سترد بتفاصيل كثيرة ضمن كتاب يجري إعداده ليصدر في وقت ينبغي ألا يكون بعيداً، وفيه تفاصيل وشهادات مناضلين من هذه الفصائل، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، يعيش في الظل كما رفاقه الذين سبقوه. وقد أتيح لـ«الأخبار» الاطلاع على أرشيفهم، وجرى تخصيصنا بمقاطع من الكتاب الذي يرجح أن يصدر باسم «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية».
تفجير شارع كاردينيه الباريسي واحدة من العمليات النوعية التي تولى غسان التخطيط لها أو الإشراف على تنفيذها أو تنفيذها بنفسه.
جريمة في بيروت وردّ في باريس
في السابع عشر من أيلول 1982، عشية «روش هَشانا» (رأس السنة اليهوديّة)، وفيما كانت تصل أخبار مجازر صبرا وشاتيلا إلى الدنيا بالصوت والصورة، كان غسّان/ سليم الخوري قد اتخذ القرار النهائي وأعدَّ العدّة لتفجير يهزّ بعثة التسلح العسكريّة التابعة لوزارة الحرب الصهيونيّة في شارع كاردينيه الباريسي. تلك البعثة التي عقدت أهم صفقات التسلح حينها مع الكيان الصهيوني، من بيعه الطائرات الحربيّة إلى الصواريخ وكل مستلزمات الاعتداء على الشعوب العربيّة.
في أحد أحياء الدائرة السابعة عشر من العاصمة الفرنسية باريس، اتخذت البعثة العسكريّة الصهيونيّة عنوان التزود بذخيرتها الكُبرى. هناك تركن سيارات العملاء العاملين فيها. وتتنقل طواقمها قرب المدارس، وتتخذ من الطلاب دروعاً بشريّة، خصوصاً قرب مدرسة الليسيه كارنو.
عملية التفجير التي قام بها غسّان/ سليم الخوري، التي أتت بتوقيتها الدقيق رداً على مجازر صبرا وشاتيلا، هزَّت باريس لا شك، لكنها في العمق تركت أثرها على حسابات العدو الصهيوني وحركات بعثاته. والأهم أنها تركت أثرها في المجتمع الفرنسيّ. فقد صدر بيان من أهالي طلاب الليسيه كارنو، حيث تُركن سيارات بعثة التسلح العسكري الإسرائيلي، يقول: «إننا نعارض ونستنكر الوجود الديبلوماسي “الإسرائيلي” على مقربة من مدارس أبنائنا ومدنيينا الذين لا ذنب لهم ولا دخل في عملية الصراع العربي – الإسرائيلي». وفي البيان نفسه، توجهوا إلى حكومتهم بالقول: «إننا لا نطالب بإنزال العقوبات بالإرهابيين، فلا جدوى منها. ولكننا نطالب بعزل “الإسرائيليين” في مناطق خاصة بعيداً من الشعب الفرنسي المسالم وغير المتحيِّز، فنحن حياديون». هكذا استطاعت العمليّة أيضاً أن توجّهَ إصبع الاتهام إلى أصل البلاء، أي الإسرائيليين الصهاينة، وتالياً بعثاتهم الحربيّة المتمركزة في أحياء سكنيّة.

أمّا عاموس مانئيل الذي أصيب بهذا التفجير، فقد كان من ضبّاط بعثة التسلح العسكري التابعة لوزارة الحرب “الإسرائيلية”، ومعه الزوجَان مانديل – شميت اللذان أصيبا أيضاً. لكن حتى اللحظة لم يفرج العدو الصهيوني عن بيان يقرّ بدور مانئيل المباشر أو رتبته، وكان حينها في الـ61 من عمره.
رصد الشهيد غسّان/ سليم الخوري هذا الهدف على مدى أشهر. ومباشرة بعد اندلاع الحرب واجتياح العدو للبنان، اتخذ القرار بالتنفيذ. رصد سليم حركة سيارة البعثة التسلحيّة -ذات الرقم الديبلوماسيّ 59 CD 233 – وتتبعها. ومع دخول القوات المتعددة الجنسيات لمساندة العدو في ترحيل المقاومين الفلسطينيين عن لبنان، أعد غسان العبوة مستخدماً دراجة ناريّة للتفخيخ. ومباشرة بعد إذاعة الأنباء عن مجازر صبرا وشاتيلا، كان الرد حاضراً. ستة ألواح هيكسوجين، يعادل وزنها تقريباً عشرة كيلوغرامات من المتفجرات العادية، تم ربطها وتغطيتها بالدراجة الناريّة. وعند الساعة الثالثة و25 دقيقة شغَّل عاموس مانئيل محرك سيارته البيجو 504، فضغط «غسّان» على زر التفجير. وكانت العملية (التفاصيل الكاملة في الكتاب، وفي الوثائقي المصوّر عن العمليات وتاريخ المجموعة، اللذين سيصدران لاحقاً).
أمّا بيان التبنّي فقد أُبلغَت به الشرطة الفرنسيّة بعد أقل من ساعة وفيه: «إن هذه العملية هي الرد الطبيعي المتواضع على اجتياح العدو الإسرائيلي أرضنا وعرضنا وعاصمتنا (…) لن ندع العدو “الإسرائيلي” يعمّق خنجره في الجسد اللبناني سنقوم بضرب المصالح الإسرائيلية والإمبريالية الأميركية في كل أنحاء العالم».
هذه واحدة من العمليات النوعية التي تولى غسان التخطيط لها أو الإشراف على تنفيذها أو تولي أمرها بنفسه. المناضل الذي عاش وعمل ومات بصمت. وعاش آخر سنوات عمره مكتفياً بقوت يومه. رفض الأضواء وقاومها كعدو. وظل حتى آخر لحظات عمره، يحلم بالعودة إلى العمل الفدائي، تدريباً أو تأهيلاً أو مساعدة حتى في التنفيذ.

من ملف : رحيل مهندس «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»: وداعاً «غسّان» -الأخبار اللبنانية.