الأرشيفعربي وعالمي

وعد بلفور والتعهد بارتكاب الجريمة – منير شفيق

    حُمِّل “وعد بلفور” من قبل كثيرين أهمية أكثر مما يستحق. فهو ليس الالتزام البريطاني الأول بإقامة كيان، أو دولة، أو “وطن قومي لليهود” في فلسطين. وهو ليس البداية، ولا الأصل، فقد جاء ضمن سياق سابق، وعبّر عن مرحلة جديدة في ذلك السياق. ولهذا أخطأ البعض في اعتباره محصلة مساعٍ ومخططات صهيونية نجحت في “إقناع” بريطانيا عام 1917 بإصدار هذا “الإعلان”، أو هذا “التعهد”. من ثم ما تبعه من تبنٍ بريطاني للمشروع الصهيوني في الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيلاء عليها وتهجير ثلثي سكانها من العرب المسلمين والمسيحيين، وإقامة “دولة إسرائيل” عام 1948.

    إن تفسير صدور “وعد بلفور” بما قامت به الحركة الصهيونية من دسائس ومؤامرات وضغوط ومغريات يشكل ابتعاداً عن الحقيقة. لأنه جاء في سياق استراتيجية بريطانية دأبت على تبني زرع كيان يهودي في فلسطين قبله بسبعة وخمسين عاماً. وقد تواصلت بلا انقطاع طوال هذه المدة. وعندما اقتربت نهاية الحرب العالمية الأولى أطلقت بريطانيا “وعد بلفور”. وذلك بعد أن هُزمت الدولة العثمانية عملياً وأصبحت الجيوش البريطانية على الأرض العربية قريبة من احتلال فلسطين. فتوقيت صدور وعد بلفور جاء مع توقيت اتفاقية سايكس-بيكو، وكلاهما جاءا مع انفتاح البلاد العربية من المحيط إلى الخليج لتصبح تحت حراب الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

فوعد بلفور وما تلاه من تنفيذ له كان ضمن سياق استراتيجية استعمارية بريطانية، وضع قواعدها الأولى وزير خارجية بريطانيا هنري بالمرستون الذي قاد توحيد أوروبا عام 1840 للإطاحة بالدولة العربية الكبرى التي بناها محمد علي. وقد شملت مصر والسودان والجزيرة العربية وفلسطين ولبنان وسورية وصولاً إلى الأناضول. وكاد يسيطر على الآستانة عاصمة الدولة العثمانية.

كانت تجربة محمد علي الكبير الذي أفلت من الطوق وشبَّ عليه، مريرة بالنسبة إلى بريطانيا إذ كاد أن يسيطر على الدولة العثمانية بزعامته التجديدية الإنهاضية، أو في الأقل يبني دولة عربية كبرى شملت وحدة غالبية الدول العربية المشرقية. وقد أرفق ذلك بنهضة علمية وصناعية وعسكرية حداثية. فمثلاً بنى جيشاً “نابليونياً” مستعيناً بعدد من جنرالات نابليون بعد هزيمة الأخير في 1815. الأمر الذي أصبح معه القوة الرابعة أو الخامسة عالمياً.

ولهذا لم تستطع بريطانيا القضاء عليه، ووقف المد العربي الذي مثلته مصر بقيادة محمد علي إلاّ بعد أن وحّدت أوروبا كلها ضده: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا لتطيح به عسكرياً عام 1840.

فغي السنتين 1839-1840 تبلورت في ذهن بالمرستون، أو في الأدق، في ذهن استراتيجيي القيادة البريطانية ضرورة وضع حاجز بشري (عسكري) غريب في المنطقة يشكل حاجزاً بين مصر وتكرارها لتجربة محمد علي. فكان أمامهم اليهود ليوكَلوا بهذه المهمة (الوظيفة). وقد اتجه بالمرستون وصهره شافستري في البداية إلى محاولة تنصير اليهود ثم إرسالهم إلى فلسطين. ولكن تبين بعد عقد من السنين بأن محاولة التنصير بطيئة جداً وستأخذ جهداً كبيراً لصعوبتها. فتقرر أن يكون المشروع يهودياً خالصاً. وهو ما أصبح الاستراتيجية البريطانية منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن التاسع عشر.

إلى هنا لم يكن مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة تيودور هرتزل قد ولد بعد. فمولده كان 1860. ولهذا عندما كتب كتابه “الدولة اليهودية” 1896، كانت بريطانيا قد تلقفته وحولت اتجاهه إلى فلسطين بدلاً من أوغندا أو الأرجنتين أو أية منطقة في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية (تكون وفيرة المياه وغنية بالمعادن وشاسعة وضئيلة السكان). فموضوع فلسطين كان خارج كل حساب بالنسبة إلى المهتمين بحل مشكلة اليهود في أوروبا. وذلك بسبب وجود الدولة العثمانية في حينه وبسبب اصطدامه بالشعب الذي يسكن فلسطين وبأشقائه الشعوب العربية والإسلامية.

بالمناسبة كانت الدولة العثمانية قد سقطت عملياً عندما وصل جيش محمد علي إلى الأناضول، وأصبح على أبواب الآستانة. وذلك بعد أن أنزل الهزيمة العسكرية في الجيش العثماني في معركتين كبريين حسم الأمر ببضع ساعات في كلٍ منهما. وكانت الآستانة العاصمة قد وقعت في قبضة الجيش الروسي الذي استدعاه السلطان محمود الثاني لحمايته في وجه الجيش المصري (العربي) الذي كاد يدخلها بلا عناء تحت ترحيب سكانها به.

فالدولة العثمانية أصبحت عملياً في أيدي بريطانيا وروسيا وعدد من الدول الأوروبية في حالة انهيارها وحلول أوان وراثتها أو تقسيمها بين الدول الكبرى. ولهذا تحولت استراتيجية بريطانيا منذ 1840 (بل قبل ذلك) إلى الحفاظ على الدولة العثمانية (ضعيفة مريضة جاهزة للسقوط) لبينما تحدث متغيرات في ميزان القوى تبعد روسيا وبروسيا (ألمانيا) والنمسا من المشاركة في تقسيم أراضيها. وهذا ما أخّر “وعد بلفور” إلى 1917. وذلك بعد أن تحققت بريطانيا من نتائج الحرب العالمية الأولى بأن حصة الأسد ستكون لها بمعظمها مع شراكة فرنسية في السيطرة، كما عبّر عن ذلك اتفاق سايكس-بيكو، محصورة بسورية ولبنان، في المشرق العربي كله.

فقط القيادات الاستراتيجية البريطانية كانت ترى عسكرياً إمكان وراثة الدولة العثمانية وزرع الكيان اليهودي في فلسطين. فالمسألة ليست مسألة خيارات أيديولوجية أو تفضيلية بين مكان وآخر. لأن القول الفصل هنا لموازين القوى، ولمستقبل الحسم العسكري والهيمنة العالمية بما فيه الهيمنة على العالم العربي- الإسلامي.

فبريطانيا بعد أربعين عاماً من قرارها بإقامة الحاجز اليهودي بين مصر والمشرق العربي حضّت هرتزل وعدد من القادة اليهود للتوجه إلى فلسطين متعهدة بأن تؤمن ذلك من الألف إلى الياء. فبريطانيا هي من ولّد المشروع الصهيوني المعاصر الذي تشكل عالمياً في مؤتمر بازل 1897.

ومن هنا يجب أن تسقط كل الهالة التي راحت تُعطى للحركة الصهيونية العالمية المعاصرة حتى قبل أن تولد، فيما هي منذ تشكلها الأول وانطلاقها من مؤتمر بازل مصنوعة لا صانعة، مروراً بوعد بلفور، وانتهاء بإقامة دولة الكيان الصهيوني 1948. فالفضل الأول والحاسم كان لبريطانيا. ولعل ثمة استثناء هنا وهو الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية العالمية في تغيير استراتيجية الاتحاد السوفياتي لتبني قرار التقسيم 1947، ليدعم إقامة “دولة إسرائيل” عام 1948. وذلك بمبادلته بأسرار القنبلة النووية الأمريكية عبر الزوجين روزنبرغ اللذين أدينا وأعدما، بعد أن ثبت عليهما نقل تلك الأسرار عام 1947.

إن الحركة الصهيونية العالمية ولدت بأحضان الاستراتيجية البريطانية وترعرعت واشتد عودها في تلك الأحضان. ولم تبدأ بالخروج عن الطاعة إلاّ مع مؤتمر بالتيمور 1943. عندما نقلت مركزها الرئيس إلى أمريكا تحت ظل الطائرات النازية التي كانت تقصف لندن. ولكن بعد هذا الانزياح ظلت الأمور تحسم، بعد الحرب العالمية الثانية، في فلسطين حتى 1949 على يد بريطانيا، وذلك بنسبة تزيد عن 80 بالمئة في أقل تقدير.

فلولا الانتداب البريطاني على فلسطين، وحكمها بالحديد والنار من خلال السيطرة العسكرية التي وصلت في بعض المراحل إلى مائة ألف جندي، لما استطاعت مجموعة واحدة من المهاجرين اليهود أن تقيم “مستعمرة” (مستوطنة) قتالية واحدة. فالجيش البريطاني في فلسطين هو الذي ضمن المهاجرين وأمّن تسليحهم، وصولاً إلى مدهم بالسلاح الذي تفوق في حرب 1948 على ما قامت من مقاومة فلسطينية (مجردة من السلاح عملياً)، وعلى ما دخل من جيوش عربية لم يزد عديدها على 23 ألفاً مقابل 66 ألفاً في جيش الهاغناه، وهنالك أرقام تقول 33 ألفاً مقابل 99 ألفاً من جيش الهاغناه إلى جانب تسليم الجيش البريطاني أسلحته عام 1948 إلى جيش الهاغناه عندما قرر المغادرة، بما في ذلك السلاح الثقيل والمصفحات والطائرات.

وبريطانيا في المقابل جردت الشعب الفلسطيني من السلاح، وسيطرت على تسليح جيوش دول الطوق وسياسات دولها في مصر والعراق والأردن إلى جانب فرنسا التي قامت بالمهمة نفسها في لبنان وسورية. الأمر الذي جعل هزيمة الجيوش العربية السبعة التي قادها “غلوب باشا” البريطاني قائد الجيش الأردني في حينه، محتومة مؤكدة. فضلاً عمن انضم من دول كبرى أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفياتي لتأييد إقامة الكيان الصهيوني وإمداده بالدعم السياسي والسلاح والمتطوعين.

مجموعة هذه الحقائق والوقائع التي قررت ما حدث في فلسطين من 1918 إلى 1948 يجب أن تبدد الكثير من الأوهام التي أحيطت بدور الحركة الصهيونية العالمية ومخططاتها ومؤامراتها، وما أسند ذلك من تفاصيل فردية وجزئية (مشوقة) ما كانت لتؤثر في نتائج الصراع الذي أدى إلى إقامة “دولة إسرائيل” في العام 1948، مع ما احتلته من أرض فلسطين، وأنزلته من نكبة في الشعب والأرض والقضية. فالصراع حسمته موازين قوى، كانت لبريطانيا فيها الكلمة الأولى، بما في ذلك تشكيل الحركة الصهيونية المعاصرة نفسها، بما فيه احتضانها ورعايتها واشتداد ساعدها. كما التحضير لمؤتمر بازل 1897 ومتابعة قراراته. فكانت هناك سلسلة طويلة من رؤساء الوزراء البريطانيين الذين أسهموا في إنضاج مشروع “الكيان الصهيوني الحاجز”، ابتداء من هنري بالمرستون 1855- 1865 (وهو صاحب المشروع مذ كان وزيراً للخارجية 1840)، ومروراً بـ بينجامين دزرائيلي 1868- 1880، ووليم غلادستون 1880-1886، وروبرت سيل 1886-1892 ثم هو نفسه 1895-1902، ومروراً بهنري كامبل ليبرمان 1905- 1908 (صاحب المؤتمر المشهور باسمه مؤتمر كامبل 1905-1907)، وأخيراً وليس آخراً ديفيد لويد جورج 1906-1922 (وهو الأوْلى أن يصدر وعد بلفور باسمه)، فهؤلاء هم بناة المشروع ورعاته حتى “وعد بلفور” واحتلال بريطانيا لفلسطين 1917/1918. ويمكن اعتبارها المرحلة الأولى. أما المرحلة الثانية: 1918- 1948 فكانت بريطانيا هي من يشرف على الهجرة اليهودية وزرع المستوطنات وحمايتها وتسليحها وصولاً إلى تقديم فلسطين، مفروشة مزروعة عامرة، للمشروع الصهيوني، على طبق من فضة، إقامة دولة الكيان الصهيوني ونكبة فلسطين، والرحيل منها عام 1948.

إن دور قيادات الكيان الصهيوني وقيادات الحركة الصهيونية العالمية أخذ يتعاظم ويلعب أدواراً كبيرة التأثير بعد 1948: الانتقال من الدور الوظيفي والتابع إلى الشريك وصاحب المشروع القائم بذاته وصاحب النفوذ الواسع في الحكومات والبرلمانات الغربية ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي المرحلة التي أخذ يأفل فيها نجم الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية لتحل مكانها أمريكا الإمبريالية في زعامة العالم الغربي والسيادة العالمية. ويتوجب في هذه المرحلة أن يُقرأ المشروع الصهيوني قراءة ثانية على ضوء ما حدث من متغيرات وتقلبات في موازين القوى والأدوار خلال الحرب الباردة 1949-1991. ثم لا بد من قراءة ما بين 1991-2010، ورابعة خلال العشرية الثانية للقرن الواحد والعشرين.

وهكذا يُلحظ أن “وعد بلفور” 1917 ليس إلاّ محطة في طريق الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية التي تبنت مشروع “الكيان الحاجز” اليهودي في فلسطين. أما الذي يميزه عن المحطات السابقة فهو التغيير الجوهري الذي حدث مع نهاية الحرب العالمية الأولى بسقوط الدولة العثمانية وبدء مرحلة السيطرة الاستعمارية العسكرية والسياسية البريطانية على فلسطين وأغلب البلاد العربية. ومن ثم تنفيذ تلك الاستراتيجية. فلا الوعد هو الذي أوجد تلك الاستراتيجية، ولا الوعد جاء نتيجة الجهود الصهيونية بالرغم من سعيها له. ولكنه شكل شهادة صارخة معلنة على جريمة نكبة فلسطين من قبل مرتكبها، وعنوانها التعهد بإقامة دولة الكيان الصهيوني، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم وقراهم ومدنهم. وذلك بلا أي حق أو قانون عادل عدا قانون القوة العسكرية التي تقتلع شعباً من وطنه لتحل كياناً إحلالياً مغتصباً مكانه.

-2-

المشروع الصهيوني بعد قيام “دولته”

ثمة سمتان خاصتان لإقامة دولة الكيان الصهيوني، تختلفان عن السنن التي تشكلت الأمم والدول على أساسها. السمة الأولى أن قرار إقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين جاء بقرار من هيئة الأمم المتحدة. وهي لا تملك من خلال ميثاقها أو نظامها الداخلي حق إقامة دول أو إلغائها، فضلاً عن أن اتخاذها ذلك القرار جاء مخالفاً مخالفة صريحة للقانون الدولي الذي يحصر تقرير المصير في البلدان المستعمَرة، كفلسطين، على شعبها الأصلي الذي كان يسكنها حال حدوث احتلالها من قِبَل الاستعمار.

أما السمة الثانية فهي تشكّل الجيش قبل أن يتشكل المجتمع تاريخياً على أرض محددة. وقد تشكل الجيش من مهاجرين وفدوا من عشرات الدول التي يحملون جنسيتها، وهم في حالة ميليشيات عسكرية في المستعمرات (المستوطنات) التي أقاموها، كما في حالة جيش الهاغناه الذي تولى شن حرب وجود لاقتلاع الشعب الفلسطيني والحلول مكانه، فضلاً عن خوضه حرب 1948، ضد مقاومة فلسطينية، مجردة من السلاح عملياً، وسبع جيوش عربية لم يزد عديدها على 23 ألفاً مقابل 66 ألفاً عديد جيش الهاغناه في حينه. أما التفوق في السلاح فكان بنسبة 10 إلى واحد، على الأقل، في مصلحة جيش الهاغناه الذي سُلّح بما تركه جيش الاستعمار البريطاني من أسلحة ثقيلة: مدافع، دبابات، طائرات.

مجتمع دولة الكيان الصهيوني ركب على الجيش وتشكل من حول الجيش وهذه عكس حالة المجتمعات التي تتشكل تاريخياً على أرض واحدة، ومنها تتشكل دولة وجيش وشعب وأمة. فمن يراجع تاريخ تشكل مجتمع الكيان الصهيوني فسيجده مخالفاً لذلك تماماً.

فالكيان الصهيوني تشكل خلال ثلاثين عاماً عملياً من 1918-1948 من مهاجرين دخلوا فلسطين بحماية الحراب البريطانية. وقام الانتداب البريطاني من خلال الهجرة اليهودية المتعددة الألسن والجنسيات والمنابت الاجتماعية بإحداث تغيير ديمغرافي في فلسطين. وبهذا خالف القانون الدولي الذي لا يجيز للاستعمار أن يُحدث أي تغيير ديمغرافي، أو جغرافي، في البلد الذي يستعمره. ويعتبر ذلك غير شرعي وتجب إزالته.

تكونت هذه الحالة المخالفة لسنن تشكل المجتمعات والشعوب والأمم والدول في إطار المشروع الاستعماري البريطاني الذي استهدف إقامة “الكيان الحاجز” في فلسطين، أو قل “الكيان الحاجز اليهودي”. وذلك بهدف منع مصر من تكرار تجربة محمد علي في النهضة وفي الوحدة العربية، أو الإسلامية. وبهذا كانت المحصلة المحتومة هي ولادة كيان غريب معادٍ لمن حوله قومياً وثقافياً وحضارياً وأهدافاً ومصالح ووجوداً من حيث أتى.

ومن هنا كان لا بدّ لهذا الكيان من أن يتعلم مؤسسوه ومن يفد إليه بعدهم من مهاجرين، لغة واحدة، وأن يعتادوا على أن تتقارب عاداتهم وعلاقاتهم في ما بينهم من خلال المؤسسة العسكرية أولاً، ومن خلال “المجتمع” الذي تجمع حولها ليخدمها ويرفدها بالمقاتلين ثانياً. الأمر الذي فرض عليه لمدى العقود الثلاثة أو الأربعة الأولى أن يكون متقشفاً ليؤمن، فوق كل المساعدات الخارجية الهائلة، أكبر موازنة للجيش، ليتفوق على كل ما حوله من جيوش وقوى مقاومة. فضلاً عن تأمين التوسع إلى أقصى حد ممكن.

بكلمة، تأسس المجتمع الصهيوني بعد 1949 مجتمعاً عسكرياً محارباً متقشفاً، فكانت التعبئة العسكرية تشمل النساء كما تشمل الرجال. وكان لمن تجاوز سن العسكرية مواقع في الخدمة المدنية في أثناء وقوع الحرب.

طبعاً هذا كله أريد منه أن يصبح جيش الكيان الصهيوني أقوى من أي جيش عربي بل أقوى من أي تحالف لجيوش عربية ضده. ولكن أيضاً مع استمرار الحماية الإمبريالية التي انتقلت تدريجاً من بريطانيا وفرنسا إلى أمريكا وقد تمثل ذلك أول ما تمثل بعد أن وضعت الحرب أوزارها في هُدَن 1949، من خلال البيان الثلاثي الأمريكي- البريطاني- الفرنسي لعام 1951، والذي تعهد بالحفاظ على خطوط اتفاقات الهدنة التي قامت بين الكيان الصهيوني وكل من الأردن ومصر وسورية ولبنان.

إن التعهد بالحماية السياسية والعسكرية الدولية لم يكن كافياً وإنما كان المطلوب أن يُصار إلى دعم الجيش الصهيوني بسلاح متفوق لا سيما في مجال الطيران والسلاح الثقيل والدبابات والتكنولوجيا، ولا تسل عن التدريب والتخصصات. أما في المقابل فقد استمرت استراتيجية الدول الغربية المصدر الأساسي والأوحد للتسلح العربي. ووضع سقف متدنٍ لتسلح الجيوش العربية وتطوير قدراتها وإعدادها. وقد استمر هذا الوضع طوال الوقت حتى يومنا هذا عدا المرحلة التي اخترق فيها جمال عبد الناصر هذا الاحتكار بصفقة السلاح التشيكي عام 1955. ثم تبعته سورية فالعراق فالجزائر. ولكن هنا أيضاً بالرغم من ارتفاع سقف التسلح العربي من الاتحاد السوفياتي ظل أدنى، بشكل واسع، من سقف التسلح الصهيوني وقد تحكّم في هذا الموضوع ما جرى من اتفاقات وتفاهمات بين المعسكرين في مرحلة الحرب الباردة.

باختصار اتجهت الاستراتيجيات الدولية إلى المحافظة على هوّة واسعة بين تسلح الجيش الصهيوني وتزويده بالتكنولوجيا من جهة، وبين تسلح الجيوش العربية فرادى ومجتمعة. وقد اقتضى هذا ما عرفته الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات من حروب واعتداءات وسياسات حصار وضغوط هائلة حتى يبقى جيش العدو هو الأقوى، والقادر على هزيمة أي جيش عربي وتهديد عاصمته. ولا ينبغي لأحد أن ينسى في هذا الصدد الاستراتيجيات الغربية التي ساعدت الكيان الصهيوني على امتلاك القنبلة النووية وإنتاج المئات منها فضلاً عن وسائط نقلها إلى أهدافها. فيما بُذلت كل الجهود لمنع أية دولة عربية من امتلاك القنبلة النووية لا سيما من جانب مصر أو العراق (فمصر أجبرت على إغلاق مركز بحوثها النووية، والعراق قصف مركزه النووي).

وبهذا استطاع الكيان الصهيوني ضمن المعادلة الدولية المذكورة أن يهزم الجيش المصري عسكرياً في حرب العدوان الثلاثي 1956، ثم في حرب 1967، إلى جانب الجيش السوري والأردني. ثم الرد على اقتحام الجيش المصري لخط بارليف عام 1973 وذلك بفتح ثغرة الدفرسوار، كما من خلال الجسر الجوي الأمريكي لإمداده بالسلاح والمعلومات الميدانية، كما استعادة الهجوم في منطقة الجولان السورية في حرب 1973، ثم أضف حربي 1978 و1982 في لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية منه. هذا إلى جانب عشرات الاعتداءات على مواقع عسكرية وقرى ومخيمات.

يمكن القول أن القوة العسكرية التي امتلكها الجيش الصهيوني وما تلقاه من دعم سياسي ومالي واقتصادي وتكنولوجي وتسلحي من بريطانيا وفرنسا ثم، على الخصوص، من أمريكا جعله الجيش الأقوى المعربد في المنطقة العربية- الإسلامية المحيطة لمدى دام ما بين 1949-2000. أي ما يقارب نصف القرن.

هنا أيضاً بقيت الأولوية، أو الفضل الأول، في ما وصله الكيان الصهيوني من قوة وإمكانات وتطور وتقدم علمي وتكنولوجي يعود إلى ألوان الدعم الأمريكي- الأوروبي والسيطرة على الوضع الدولي، بما في ذلك حتى في مرحلة اشتداد ساعد الاتحاد السوفياتي وازدياد نفوذه العالمي.

أما دور الحركة الصهيونية العالمية ودور المشروع الصهيوني لدولة الكيان، فقد تعاظما في التأثير في السياسات الغربية خلال الخمسين سنة المذكورة حتى وصلا إلى ما يشبه حالة الشريك عالمياً، والشريك في السلطة داخلياً. فالكونغرس الأمريكي مثلاً شبهه باتريك بوكانن، وهو كاتب معروف ومرشح سابق للرئاسة الأميركية، بمستعمرة إسرائيلية، إذ لم يعد بإمكان مرشح للرئاسة في أمريكا إلاّ تقديم الولاء للوبي الصهيوني والإعلان عن الدعم شبه المطلق للكيان الصهيوني، شرطاً لوصوله إلى سدة الرئاسة. وعلى ذلك قس أغلب أعضاء الكونغرس بقسميه.

وبالطبع ما كان لدولة الكيان وللأقليات اليهودية الصهيونية واللوبيات أن تبلغ هذا المستوى من النفوذ في بلدان الغرب ولا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لولا ما قام من تبنٍ إمبريالي لإقامة الكيان الصهيوني: مما ساعد الحركة الصهيونية أن تنطلق بتشكيل اللوبيات بحرية، إن لم يكن بتشجيع الدولة والأحزاب المتنفذة. ويمكن أن يضاف هنا عامل الصراع بين المعسكرين في مرحلة الحرب الباردة وما يمكن أن تقدمه الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني من خدمات للغرب في هذه الحرب. ومن ثم يخطئ من يظن أن بإمكان العرب والمسلمين أن يبلغوا ما بلغته الحركة الصهيونية واللوبيات من نفوذ في المجتمعات والدول والبرلمانات الغربية. وذلك إذا ما “تعلموا الدرس” من تجربة الحركة الصهيونية. إن من يظن إمكان ذلك، لم يفرق بين العمل ضمن التيار المساعد والمشجع كما حدث مع الحركة الصهيونية من جهة وبين العمل، من جهة أخرى ضمن التيار المقاوم والمعارض للقضية الفلسطينية والمتواطئ مع الكيان الصهيوني. ويمكن لهؤلاء أن يراجعوا، حال الأقليات اليهودية المنتشرة في كثير من البلاد حين كانت في وضع متناقض مع التيار السائد، أو كان التيار السائد معادياً لها. وقد دام هذا الوضع المتسم بالضعف وعدم القدرة على الفعل والتأثير لمئات وآلاف السنين. ولم يبدأ بالتغير إلاّ بعد تبني بريطانيا، ومن بعدها عدة دول كبرى، مشروع إقامة الكيان اليهودي الحاجز في فلسطين. ولا سيما بعد قيام “دولة إسرائيل”. وأضف احتدام الصراع بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي الإمبريالي في الحرب الباردة 1950-1990.

إن انتقال أقلية إلى مواقع التأثير والشراكة في بلد معين لا يتم بالشطارة ولا بحسن التنظيم والتخطيط، ولا بالمؤامرات والدسائس، وإنما في ظل موازين قوى محددة وسياسات من قبل القوة السائدة، تقتضي الاستعانة بتلك الأقلية وتشجيعها والسماح لها بالتمكن. وهنا تبدأ “الشطارة”، أو التنظيم والتخطيط والمؤامرات والدسائس لتفعل فعلها المساعد والمؤثر. وهو الذي توفر للأقليات اليهودية والحركة الصهيونية في الغرب أي السباحة مع التيار. فأنت لكي تصبح مقبولاً من قبل التيار السائد في الغرب يجب أن تكون ضد الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين. ومع الاعتراف بالكيان الصهيوني والبكاء عند المحرقة، ويجب أن تكون ضد وحدة العرب وضد تحررهم ونهضتهم فعندئذ قد تفتح لك الأبواب (نصف فتحة).

طبعاً هذا لا يعني عدم العمل في الغرب، وإنما يعني عدم التوهم أن في الإمكان التشبه بالحركة الصهيونية فقط، كما يعني عدم رفع سقف التوقعات فوق مستوى معين.

-3-

الكيان الصهيوني والمستقبل

ثمة قراءات عدة يمكن لها أن تتتناول حتمية زوال الكيان الصهيوني بعضها يستند إلى مرجعية دينية، ويعضها يعتمد سنن زوال الكيانات والدول والامبراطوريات، وبعضها يتناولها بالمقارنة بالتجربة الفرنجية (“الصليبية” كما يسميها المؤرخون الغربيون) في فلسطين، أو بتجربة الكيانات العنصرية في أفريقيا. أما القراءة التي ستعتمدها هذه الورقة فترتكز أساساً إلى ثلاثة مرتكزات:

الأول يفترض فقدان الكيان الصهيوني لأهم عامل من عوامل تشكل الحركة الصهيونية المعاصرة وحمايتها ورعايتها وتمكينها من الهجرة إلى فلسطين ثم إقامة دولة الكيان على حساب تهجير ثلثي شعبها. ثم تمكينها لتصبح أقوى قوة عسكرية في المنطقة العربية –الإسلامية. وهذا العامل هو عامل السيطرة الغربية الإستعمارية- الإمبريالية العالمية التي تمثلت، أولاً في بريطانيا ثم بريطانيا-فرنسا، ثم أمريكا- الغرب.

    هذا العامل الذي لعب الدور الأول والأساسي في إقامة دولة الكيان وتمكينها وتعزيز تفوقها العسكري على من حولها يقع تحت حكم السنن التي تنطبق على انهيار الامبراطوريات العالمية الحتمي في التاريخ. وقد أخذت علامات، أو وقائع كثيرة، تبرز على سطح الوضع العالمي والإقليمي تؤكد على بدء تزعزع السيطرة الغربية العالمية، واتجاهها نحو الضعف والأفول. الأمر الذي سيؤثر حتماً في مستقبل الكيان الصهيوني في فلسطين. (حتى لو حاول إيجاد بدائل دولية) وقد يصل الأمر هنا بسبب ما قام من علاقة عضوية بين الكيان والهيمنة الغربية على العالم إلى الاستنتاج بلزوم إصابة الكيان بالضعف والأفول.

على أن هذه العلاقة لم تعد من الناحية العضوية كما كانت في مرحلة تشكل الحركة الصهيونية المعاصرة 1897- 1917، كما لم تعد كما كانت بين 1918- 1948. ولا حتى كما كانت في السنوات الأولى التي تلت إقامة دولة الكيان الصهيوني (في الخمسينيات والستينيات). فقد أخذ الكيان في مرحلة ما بعد تشكل دولته يستقل نسبياً في بناء مشروعه الخاص في المرحلة الجديدة، كما في بناء قوته العسكرية والتوسع في علاقاته الدولية. فعلى سبيل المثال كان امتلاكه للقنبلة النووية يجسد التوجه في عدم ربط مستقبل وجوده بما تؤمنه الحماية الغربية له. وذلك تحسباً لما قد يطرأ على القوى الكبرى من متغيرات قد تنعكس سلباً على وجود الكيان الصهيوني فامتلاك القنبلة واحدة من عوامل عدم الاعتماد على الحماية الغربية اعتماداً مطلقاً.

ويمكن أن يسجل، في هذا الاتجاه نفسه، ما حدث من تطور في نفوذ الحركة الصهيونية حين انتقلت في دول الغرب من الدور الوظيفي إلى دور الشريك بل حتى المسيطر صاحب النفوذ الذاتي على من كانوا بالأمس أولياء النعمة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية. هذا يعني أن مستقبل الكيان لم يعد تحت رحمة ما يحدث من متغيرات في الدول الغربية كما كان في عهوده الأولى وإنما أصبح فاعلاً في تلك المتغيرات. أي أصبح شريكاً إلى حد بعيد في القرار.

ولهذا لا يمكن الخروج بالاستنتاج الذي يعني أن ما سيحدث للسيطرة الغربية العالمية سينعكس تلقائياً وكلياً وفورياً على مستقبل الكيان الصهيوني. ومن ثم فالرابط هنا بين حتمية تراجع السيطرة العالمية الغربية وتراجع استمرار بقاء الكيان الصهيوني ليس حتمياً وتلقائياً. ولكن يظل، في الأقل، عاملاً أساسياً في تراجع شروط بقاء الكيان واستمراريته.

صحيح أن عامل تراجع السيطرة الغربية العالمية يجب أن يبقى على رأس ما يجب أن يحسب عند تناول مستقبل وجود الكيان الصهيوني في فلسطين. ولكن مع ملاحظة كيف سيتطور الوضع العالمي بعد تراجع تلك السيطرة، مثلاً هل ستحل محله سيطرة دول كبرى ونظام عالمي جديد بناء على تلك السيطرة أم ستنشأ دول كبرى ولكن دون أن يكون لها سيطرة عالمية على نظام عالمي يخضع لها. وذلك بمعنى تعادل قوى متنازعة في ظل فوضى ولا نظام، الأمر الذي لا يسمح للكيان الصهيوني أن يضمن بقاءه بالاعتماد على حماية جديدة، كما في السابق، تقوم مقام الحماية الغربية.

احتمالات ما سيحدث من تطورات في العالم بعد تراجع السيطرة الغربية العالمية ستكون متعددة ولا يَسهل “التنبؤ” بها. ولكن أياً من السيناريوهات المحتملة لن تكون في مصلحة بقاء دولة الكيان الصهيوني كما كان الحال في ظل المنتصف الثاني من القرن العشرين إلى اليوم. ولكن في الأغلب ستتراوح رياحها التي ستهب في مصلحته، وضد مصلحته، في آن واحد. الأمر الذي يفرض عليه منذ الآن أن يكون شديد القلق من المستقبل، لا سيما ونحن نتابع تراجع السيطرة الأمريكية منذ عشر السنوات الأخيرة تراجعاً مشهوداً أو ملموساً، وإن لم يصل مرحلة النهاية بعد.

العامل الثاني، إذا كان الكيان الصهيوني قد وصل الآن إلى ما وصل إليه من قوة ذاتية، عسكرياً وتكنولوجياً وإنتاجياً ومالياً، ومن علاقات دولية قوية، مع مختلف الدول الكبرى التي أخذت تحتل مواقع هامة في النظام العالمي الراهن مثل الصين وروسيا والهند، فإن هذه القوة الذاتية العسكرية أخذت تدخل في مرحلة التراجع ليس بسبب تراجع السيطرة الغربية العالمية فحسب وإنما أيضاً بسبب عوامل داخلية ذاتية في الكيان الصهيوني نفسه. وهذا ما كشفته بشكل صارخ هزائمه في حروب أربع هي حرب 2006 في لبنان وحروب 2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة.

  1. فالجيش الصهيوني لم يعد جيش الطلائع، الأولى والثانية، وإنما دخل في مرحلة الترهل عدا قوة النيران والطيران والصواريخ، ولم تعد قواته البرية قادرة على الاقتحام والاحتلال. فالضابط لم يعد يتقدم جنوده، ولا جنوده يتقدمون من دونه. فالجيش منذ 25 عاماً يقوم بأعمال شرطي، وضباطه يترقون من خلال قتل الشباب أو اعتقالهم. وهذا كله منقول عن تقديرات صهيونية أو صديقة للصهيونية عند محاولة تقويم سبب الهزائم في الحروب الأربعة.

  2. والقيادات السياسية الصهيونية هبطت في مستواها عن مستوى القيادة السابقة، وازدادت تطرفاً وفساداً فضلاً عن تخلفها. الأمر الذي يجعلها عرضة لارتكاب الأخطاء الفادحة في السياسة، وفي إدارة الصراع، وفي الوقوع بالعزلة العالمية.

جـ – وكذلك حال المجتمع في الكيان الصهيوني الذي أصبح أكثر انغماساً في المجتمع الاستهلاكي وأكثر ميلاً للانحياز إلى التيارات المتدينة ضيقة الأفق والغبية.

وبهذا يكون توجه الكيان الصهيوني نحو التراجع والضعف قد أخذ يتشكل من خلال بنيته نفسها التي سبقت بالإسهام في تحقيق ما وصله الكيان الصهيوني من قوة ذاتية في مرحلة الحرب الباردة.

الثالث: ثم هنالك العامل الثالث. أي العامل الفلسطيني والعربي والإسلامي الذي كان ما بين 1918-1948 مكبلاً  بالسيطرة الاستعمارية ومشلولاً بسبب التجزئة العربية ومحكوماً بأنظمة مقيدة بالمعاهدات الاستعمارية والسيطرة المباشرة. وقد استمر هذا الوضع المجزأ في عهد الاستقلال محكوماً بنظام دولي وإقليمي وعربي تحت السيطرة الإمبريالية. وأما من أفلت منها أو حاول الإفلات (من السيطرة) كان مصيره التعرض لحروب غير متكافئة مع جيش الكيان الصهيوني، أو تعرض للحصار والمقاطعة والإنقلابات، (مثلاً تجربة عبد الناصر).

ومن هنا فإن هذا العامل إذا ما رفعت السيطرة الغربية عن العالم وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً فستكون ثمة فرص ليلعب دوراً أقوى من أدواره السابقة التي ساعدت على تمرير المشروع الصهيوني في فلسطين وتمكينه. بل يمكن حتى لجزء من بلدين أو أكثر أن يلعب دوراً كبيراً في إنجاز نهاية المشروع الصهيوني في فلسطين وذلك إذا ما جاء تطور العاملين السابقين في اتجاه التراجع والأفول بالنسبة إلى السيطرة الغربية وإلى ضعف البنية الصهيونية في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية. مما قد يفسح المجال أيضاً للرأي العام العالمي ليرى القضية الفلسطينية، من جهة والكيان الصهيوني من جهة ثانية، بعيون أخرى غير التي نظر من خلالها في السابق.

من هنا، وبالتأكيد، لن يكون المستقبل بالنسبة إلى الكيان الصهيوني كما كان ماضيه، ولا كما هو حاضره. فالعوامل والشروط (موازين القوى) التي جاءت به، ستذهب به إذا ما انقلبت وتغيرت بالاتجاه المعاكس. وعندئذ لن تنفعه مئات القنابل النووية، فلا شيء يجدي حين يجيء أوان الأقوى.

وبعد هذا، أضف ما يمكن أن تُقرأ، من خلاله، نهاية الكيان، دينياً، أو تاريخياً، أو حضارياً.