الأخبارالأرشيفعربي وعالمي

أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي: النهضة مجدّداً – أسعد أبو خليل

والرد على مقالة أسعد أبو خليل: الحزب لا يكون حزباً بدون فكر سعادة ومنهجه العلمي المتجدد، والنهضة الجديدة قادمة! ميلاد سبعلي

يكنّ مَن تخرّج من وسط التجربة الشيوعيّة الثوريّة (اللبنانيّة والفلسطينيّة) إعجاباً عَن بعد، وبصرف النظر عن الخلاف العقائدي، لجوانب في تجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهناك صفات عديدة تميّز بها الحزب، وتفوّق فيها على غيره من الأحزاب. ومنها:

١) شخصيّة الزعيم. من ناحية، فإن زعامة أنطون سعادة كانت أسطورة من حيث الإفراط في «عبادة الشخصيّة»، والمقارنة بينه وبين زعامة الأحزاب الفاشيّة كانت لعبة خصوم الحزب.

لكن المقارنة ظالمة من ناحية ومحقّة في جانب منها. فمن جانب، هي محقّة لأن للزعيم سلطات واسعة في دستور الحزب ــ وإن كانت محدّدة ــ كذلك فإنه في كتاباته لا يتورّع عن التنويه بمنجزاته (في مقدّمة «نشوء الأمم» يتحدّث عن ثاني محاولة عربيّة في علم الاجتماع بعد ابن خلدون ويعرض بعض المصطلحات التي اجترحها بالعربيّة مثل «المناقبيّة» وهو في ذلك محقّ. كذلك فإنه يقول في «المحاضرات العشر» إنه أوّل من عرّف الأمّة السوريّة ــ بالطريقة التي عرّفها فيها). لكن من ناحية ثانية، فإن الزعيم كان على تواصل ودود غير اعتيادي مع أعضاء الحزب وأصدقائه، وكان مُحاوراً نشيطاً حتى مع منشقّين عن الحزب. والذي قرأ عنه يُعجَب بأنَّ الرجل الذي اتُّهم بالتفرّد والفوهروريّة كان يحاور تلاميذ المدارس والجامعات بصورة لم نعهدها من زعماء أحزاب يساريّة ويمينيّة صغيرة (قارن ذلك بتجربة بعض أحزاب اليسار واليمين في لبنان حيث لجأ زعيم الحزب المُفدّى إلى اغتيال معارضيه، وببساطة شديدة). حاورَ سعادة مطوّلاً غسان تويني وفايز صايغ ويوسف الخال وغيرهم. تقارن ذلك بسلطة جورج حاوي المطلقة في حزبه (لم تحدّ من سلطاته إلا مشيئة موسكو) أو محسن إبراهيم في حزبه أو أبو عدنان في حزب العمل الاشتراكي العربي ـ لبنان أو نايف حواتمه في الجبهة الديموقراطيّة. لكن هل طقوس تحيّة الزعيم تحتاج إلى إعادة نظر؟ هذه تعود للقوميّين ونظرتهم إلى تراث الحزب التنظيمي.

٢) صلابة القيادة والأعضاء. هناك مميزات خاصة لقادة الحزب وأعضائه. إن لمشهد مواجهة سعادة لحكم الإعدام دلالة كبيرة. تقارن صلابة سعادة في طريقه إلى المشنقة بتجربة ميشيل عفلق أو عزيز الحاج في السجن، أو حتى إنعام رعد في سجون المكتب الثاني. وتقارن صلابة سعادة ورباطة جأشه بمشهد «شهداء لبنان» في ١٩١٦، من الذين لم تقوَ ركابهم على حملهم إلى المقصلة فجُرّوا جرّاً إليها وهم ينتحبون ويرجون جلاّديهم بالرحمة بهم، حسب شهادات شهود عيان يومها. لو أن سعادة واجه إعدامه بغير ما عُرف عنه من شجاعة وقوّة، لكانت رسالته إلى القوميّين مختلفة، ولكان ميراثه أقلّ رسوخاً. هذه الصلابة عرفتها الثورة الجزائريّة، لكنها أقل شيوعاً في التجارب الحزبيّة المشرقيّة. ابتسم أنطون سعادة بوجه جلّاديه ولم يتنازل قيد أنملة عن عقيدته. لكن سعادة في ما تركه لمناصريه من بعده نجح في تخريج مناضلين ومناضلات من طينة صلبة. أذكر في منتصف الثمانينيات كيف أن «جمعيّة خريجي الجامعات العرب الأميركيّين» في أميركا أرادوا إسماع صوت الحركة الوطنيّة لجمهور عربي وأميركي في واشنطن. وجّهوا دعوة إلى جورج حاوي وعبد الله سعادة. كان الفارق بين الرجليْن كبيراً جداً، وشعر الكثير من الشيوعيّين (العرب والأميركيّين) بين الحضور بغيرة إزاء شخصيّة عبد الله سعادة الاستثنائيّة (هذا الرجل الذي منح ابنه شهيداً للثورة اللبنانيّة في مطلع الحرب الأهليّة، والذي عانى ــ ولم يَلِن ــ من تعذيب سامي الخطيب الوحشي). بقدر ما بدا سعادة ثوريّاً وقويّاً وهادراً، كان أداء جورج حاوي تهريجيّاً ومسرحيّاً. ذُهل كثيرون بقدر الخفّة والهزل في تعامل حاوي مع الأسئلة الموجّهة إليه. أذكر تعليقات الشيوعيّين بيننا يومها أننا نتمنّى لو أن سعادة كان زعيمنا بدلاً من حاوي.

٣) ترك سعادة مؤسّسات حزبيّة فيما فشلت الأحزاب اليساريّة في مأسسة العمل الحزبي وترسيخه. كان كل زعيم لحزب يساري يطبع الحزب ببصماته هو، ويأخذ معه مؤسّسات الحزب (وماله في كثير من الأحيان) عندما يغادر الحزب أو عندما يموت. إن ما حدث أخيراً عندما أبطلت محكمة الحزب رئاسة أسعد حردان لولاية ثالثة (رداً على طعن مُقدَّم لها) استثنائي في تاريخ الحزبيّة اللبنانيّة. هذه التجربة ليست لها سابقة، لا في أحزاب لبنان ولا في أحزاب عربيّة أخرى. لم يكتفِ أنطون سعادة بإلهام جماهير حزبه (وفي الإلهام كان مذهلاً في حياته)، لكن الإلهام الأكبر لزعماء الأحزاب هو في الإلهام بعد الممات عبر مؤسّسات الحزب. وهذا ما ميّز الحزب القومي عن الحركة الناصريّة. ليس هناك مَن ألهم الملايين كما ألهم جمال عبد الناصر في حياته، لكن إلهامه لم يستمرّ بعد مماته، لأنه لم يترك لجمهوره عقيدة ولا مؤسّسات حزبيّة تُذكَر (ما سهّل التهاون بأفكاره فيصبح الناصريّون اليوم ــ بمن فيهم أفراد في عائلته ــ مناصرين للطاغية السيسي، حليف نتنياهو). سعادة ترك الاثنيْن: العقيدة والمؤسّسات الحزبيّة. وقدرة مؤسّسة حزبيّة على إبطال قرار برئاسة مَن تربّع على زعامة الحزب لفترة طويلة وبقوّة مستمدّة من تجربة مسلّحة في الحرب الأهليّة (وبعض هذه التجربة كان في المقاومة الفعّالة ضد العدوّ) يشير إلى قدرة الحزب القومي على الحركة الديناميكيّة المستمرّة وعلى التجدّد في الاستمراريّة.

٤) للحزب نموذجٌ في المبدئيّة تفتقر إليه الأحزاب اليساريّة. تجد حالات من قياديّين وأعضاء من الحزب الشيوعي اللبناني ومن منظمة العمل الشيوعي وقد تحوّلوا إلى الحريريّة وإلى اليمينيّة، وبعضهم ارتقى إلى أعلى مراحل اليمينيّة في الجنادريّة، لكن القومي السوري لا يرتدّ ــ وهذه ظاهرة. قد ينزوي القومي السوري في منزله، قد يبتعد عن العمل السياسي، قد يهاجر ويترك الحزب، لكنه لا يرتدّ ولا ينضمّ إلى حركة معادية لعقيدة الحزب. اختلف قوميّون سوريّون مع أسعد حردان، لكنّ أحداً منهم لم يصبح معادياً لمشروع مقاومة إسرائيل، كما حدث في حالات من شيوعيّين تخرّجوا من الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي. هذا ما يميّز الحزب عن غيره من الأحزاب اللبنانيّة، وهذا يرجع إلى تشديد الحزب على التنشئة العقائديّة في سن مبكّرة. أخذ الحزب القومي التثقيف الحزبي على محمل الجدّ، فيما أهملته الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. لم تكن الأحزاب الشيوعيّة اللبنانيّة تطلب من العضو التمرّس في الماركسيّة ــ اللينينيّة، وخصوصاً أن قادة هذه الأحزاب كانوا بالكاد مطلعين على التراث الماركسي أو اللينيني. التثقيف الشيوعي كان مزيجاً من نتفٍ من «ما العمل» للينين (مع حرص على استبعاد «الدولة والثورة» لما في الكتاب الأخير من نزعات فوضويّة ولما في الكتاب الأوّل من نزعات نخبويّة شيوعيّة تفترض تشريب الوعي الطبقي بالملعقة من الطليعة الشيوعيّة للطبقة العماليّة). القراءة الماركسيّة كانت نتفاً من «١٨ برومير» ولم يكن الحديث عنها معمّقاً. كان التراث الماركسي (وبترجمات في غاية السوء عن «دار التقدّم») بعيداً عن الواقع العربي، ولم يكن هناك من تراث ماركسي محلّي كي يُدرَّس. وحدها الجبهة الشعبيّة طلعت بكتيّب «الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة» (وهي بقلم جورج حبش في مرحلة استقلاليّة الجبهة عن موسكو وفي مرحلة قربها المُبكّر من الصين). والكتيّب كان مذهلاً في ثوريّته، لكنه مأخوذ في بنائه وصيغته عن «تحليل الطبقات في المجتمع الصيني» لماو تسي تونغ. لكن مضمون الكتيّب كان يصيب القارئ الشيوعي الملتزم بالحيرة نتيجة التصنيفات الاعتباطيّة للأنظمة البرجوازيّة الصغيرة، التي كانت في حالة تحالف في يوم مع الجبهة وفي حالة تضاد معها في يوم آخر. أحسن الحزب القومي، وتفوّق في الثقيف الحزبي، لأن أدبيّاته كانت محليّة مرتبطة بالواقع المحلّي وكانت تتسم بقرب من مشاكل المجتمع السوري (وحتى العربي).

٥) ومرتبطاً بالفكرة السابقة، تفوّق الحزب القومي (وهذه نتاج فكر أنطون سعادة) في تلقين العلمانيّة ممارسة ونظريّة (مع أن التعبير عن العداء لليهود كيهود تناقض مع علمانيّة الحزب الصارمة وأضفى بعداً مُستورداً من قوميّات أوروبيّة عنصريّة على عقيدة الحزب). الأحزاب الشيوعيّة العربيّة كانت جد متهاونة في التثقيف العلماني، ولهذا ارتدّ الكثير من قادتها وعناصرها نحو الطائفيّة والفكر الطائفي ونحو الدين والتديّن. هذا قلّما يحدث للقوميّين، حتى لو ابتعدوا عن الحزب لأسباب سياسيّة وتنظيميّة.

٦) أثبت الحزب مرونة عقائديّة وسياسيّة يُحسد عليها. كان الحزب في عام ١٩٥٨ حزباً شوفينيّاً مرتبطاً بالحلف الرجعي الإقليمي (الملك حسين)، لكن تجربة السجن القاسية (التي لا تُغفر لفؤاد شهاب الظالم) أدّت بالحزب إلى إجراء مراجعة تحوّلت فيها عقيدة الحزب السياسيّة نحو اليساريّة والتقدميّة بعد تطعيمها بشيء من الماركسيّة.

٧) بالرغم من عبادة الشخصيّة للزعيم التي تُؤخَذ على الحزب، فإن هذا الحزب، مقارنة بكل أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، كان أقرب إلى القيادة الجماعيّة على مرّ السنوات من باقي الأحزاب (وإن شابت قيادة حردان تفرّداً لم يألفه الحزب من قبل). كانت قيادة الحزب تتخذ القرارات، فيما كان جورج حاوي ومحسن إبراهيم وأبو عدنان يتفرّدون بالقرارات المصيريّة والحزبيّة، وغالباً بناءً على إيعاز من رعاة الحزب الخارجيّين.

٨) تمرّس الحزب في فرض هيبته من خلال معاقبة أعدائه على جرائمهم ضد الحزب. لم يعاقب الحزب الشهابيّة على جرائمها ضدّه (وهذا خطأ من أخطاء الحزب، لأن ذلك سهّل من استهداف الحزب من خلال أعدائه)، ولم يثأر لمجزرة حلبا، لكن الحزب عاقب رياض الصلح (وكشف مبكّراً ضلوع تحالف الرجل مع النظام الأردني وعلاقته بالصهيونيّة)، وعاقب الحزب بشير الجميّل على جرائمه الكثيرة.

٩) قد يكون الحزب (تحت قيادة أنطون سعادة) من أوّل مَن بدأ بنفخ النفير من أجل التحضير لمعركة كبيرة مع الصهيونيّة، فيما كانت القيادات العربيّة في الجامعة العربيّة (مثل رياض الصلح، الذي تعرّضت سيرته لتجميل واضح من خلال عدّة كتب استكتبها ورثته في السنوات الأخيرة) تعد الجماهير بخطة «سريّة» لدحر الصهاينة قبل إنشاء دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨. وخلافاً لأحزاب شيوعيّة وغير شيوعيّة، بقي الحزب محافظاً على موقف صلب ومبدئي ضد الصهيونيّة، وتجد أن القوميّين (والقوميّات) في المهاجر هم أكثر العرب جهراً بالدفاع عن فلسطين، وأعندهم في رفض التعاطي مع صهاينة.

لكن إذا كان الحزب يتسم بكل هذه السمات الإيجابيّة، فما هو مكمن الخلل فيه؟ لست في وضع أستطيع أن أدخل فيه إلى منظومة الحزب كي أقدّم تحليلاً تفصيليّاً، لكن يمكن من موقع المُتابع أن يلاحظ المرء أن الحزب وقع في أزمات مثله مثل معظم الأحزاب في جسم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. قد يكون مكمن الخلل الأوّل يتمثّل في التعاطي مع عقيدة الزعيم. يحتاج الحزب إلى مراجعة كتابات سعادة (وبعضها كان كثير الركون إلى الكتابات الأكاديميّة الغربيّة على ما تحمله من نفس استشراقي ومن منهجيّة غير علميّة بمقياس العلوم الاجتماعيّة حاليّاً) بهدف الربط بين الحديث في العلوم الاجتماعيّة التي درسها سعادة وكتب فيها وبين عقيدة الحزب. هذا لا يعني أن سعادة لم يكن ملمّاً بالأكاديميا الغربيّة. كان ملمّاً وهو أكثر اطلاعاً على تلك العلوم، وأكثر تصنيفاً بينها، مما زعم منتقدوه الذين لم يدرسوا كتاب «نشوء الأمم». هذا لا يعني أن الكتاب لم يمرّ عليه الزمن في الدراسات الحديثة. لكن اختزال الكتاب بـ«شكل الجماجم» كما يُؤخذ عليه، لا ينصفه (وكان يصرّ على أن الأمة السوريّة تتضمّن أشكالاً مختلفة من أشكال الرؤوس ــ على نشاز الحديث في الموضوع من أساسه ــ وفضّل امتزاج السلالات على نقاوتها (أعطى مثل تفوّق أثينا على إسبارطة). لنأخذ مثلاً المرجع الذي اعتمد عليه (في «نشوء الأمم») وهو كتاب فريدريك هرتز «العرق والحضارة». هذا المؤلّف هو حتى تاريخه أقوى تنديد بأدب «علم الأعراق» وإبراز عبثيّة فكر كراهيّة الأعراق (والكتاب أثار ضجّة أكاديميّة لأنه حاول أن يثبت أن السود ليسوا أدنى مرتبة عقليّاً من البيض). وقد أُخذ عليه أنه لم يُعرّف العرق، لكن ذلك يعود لأنه (أي هرتز) يرى أن «ليس هناك من أعراق» (ص. ٢٠-٢١) وأن «الانقسامات ليست إلا أسماء مصطنعة». وسعادة رفض فكرة «الخلوص الدموي»، وهو يرفض فكرة «الوحدة السلاليّة»، ويشير إلى «مزيج سلالي متجانس» (المحاضرة الرابعة من «المحاضرات العشر». لكن سعادة يقع في تناقضات حول فكرة تفوّق العنصر. لكنه يعود ليتحدّث عن سلالات ثقافيّة «وسلالات منحطّة»، وفي أحكامه كان دوماً قاسياً على السكّان الأصليّين في القارة الأميركيّة من دون ذكر حضارات قديمة فيها سبقت وصول الرجل الأبيض. ويقول في المحاضرة الرابعة: «لا بدّ من الاعتراف بواقع الفوارق السلاليّة ووجود سلالات ثقافيّة وسلالات منحطّة وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم أسباب تفوّق السوريّين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق، بل إلى نوعيّة المزيج المتجانس». هو يعترف بمزيج الدم في الأمة السوريّة، لكن ذلك لا يمنعه من الإيمان بتفوّق عناصرها. هو يسخر من «التحامل على السلالات» في أميركا، ويسخر من إيمان العرب بـ«أوهام السلالة» («نشوء الأمم»، ص. ٢٦)، وهو ينتقد نظريّة استحالة العبقريّة والنبوغ عند الزنوج، ويرفض نظريّات نقاوة السلالة، لكنه يتحدّث عن «الفوارق السلاليّة» في «المحاضرة الرابعة» ويتحدّث عن تفوّق السلالة الكنعانيّة على سلالة شعوب أفريقيا الشماليّة. وحاجة سعادة إلى إثبات تميّز الأمّة السوريّة عن باقي العرب دفعته إلى تحقير العنصر العربي بصورة غير علميّة (يتحدّث مثلاً في «نشوء الأمم» بمبالغة عن عادة الثأر عند العرب بناءً على أشعار، مع أن الحديث عن الثأر هو ــ مثل مبدأ «العيْن بالعيْن والسنّ بالسنّ» عند الأقدمين ــ من أجل تجنّبه. أي إنه كان وسيلة للشرطة الذاتيّة في غياب سلطة الدولة (وفي هذا حجّة للنظريّة اللاسلطويّة ــ الفوضويّة).

كذلك إن سعادة في تناوله لتاريخ الإسلام نهل من الاستشراق التقليدي ولم يرجع إلى المراجع العربيّة والإسلاميّة (لم يذكر في مراجع «نشوء الأمم إلا ابن خلدون في «المقدّمة» والمسعودي في «مروج الذهب») إلا في تعميمات ابن خلدون عن طبيعة العرب وعصبيّتهم ــ وهذه التعميمات كانت دوماً المفضّلة عند المستشرقين. وطبعاً، اعتنق سعادة فكرة هنري لامنس (تحدّث ماكسيم رودنسون عن «احتقاره» للإسلام) عن تفوّق معاوية والدولة الأمويّة في التاريخ الإسلامي، إعلاءً لشأن العنصر السوري. وإذا كان سعادة يرفض القوميّة بناءً على عامل اللغة والدين، فإنه ينزع نحو التفسير المادّي عن أولويّة الرابطة الاقتصاديّة في «المتحد الراقي» (كان سعادة معجميّاً واجترح عدداً من المصطلحات مثل «المُتحد» للكلمة الألمانيّة «جيمينشافت»). لكنه يهمل عناصر التناحر الطبقي الاقتصادي في الأمّة، مُفضّلاً وحدة المصالح (المتحدة).

واللافت أن سعادة لم يكن جامداً في تعريفه للأمّة على طريقة التعريفات الستالينيّة: فقد استبق كتاب بنديكت إندرسون «المُتحدات الموهومة» (الصادر في عام ١٩٨٣) عندما يتحدّث عن عناصر «موهومة من عادات وتقاليد معيّنة» (ص. ١٥٢ من «نشوء الأمم»). الموضوع يطول في بحث كتابات سعادة، لكن هناك حاجة من «عمدة الثقافة» في الحزب لتوكيل لجنة أكاديميّة حزبيّة من أجل وضع قراءة جديدة (على غرار «القراءة الجديدة» في عام ١٩٧٦ لـ«المحاضرات العشر» من أجل التوفيق بين القوميّة السوريّة والعروبة) للمستندات والقراءات الأكاديميّة لسعادة للأخذ في الاعتبار الدراسات الجديدة التي تجاوزت الكثير من المصادر التي اعتمدها سعادة في كتاباته. ثم هناك مشكلة قبول الحزب باتفاق الطائف. كيف يمكن الحزب أن يقبل بنهائيّة الكيان اللبناني؟ وكيف يمكن الحزب في تحالفه مع النظام السوري أن يتغاضى عن النواحي القُطريّة التي طرأت على خطاب وأيديولوجيا النظام في السنوات الأخيرة، أو حتى على قوميّته العربيّة سابقاً؟ إن تعارض الحزب مع الكيانيّة اللبنانيّة كان في صلب عقيدته، لكنه تهاون في ذلك في السنوات الأخيرة، ربما كي يدخل في النظام اللبناني. كان الحزب يمثّل القوميّة المبدئيّة التي رفضت الكيانات التي ولَدها الاستعمار، وكان هذا الرفض من ميزات الحزب وعناصر جذبه. لا، وشارك الحزب في الحكومات الحريريّة التي مثّلت نقيض عقيدة الحزب (وقبل أن يتولّى وزارة العمل للتغطية على مؤامرة رفيق الحريري في ضرب الحركة العمّاليّة، وهذه تشين تاريخ الحرب). وهناك قضيّة حبيب الشرتوني، العطِر الذكر. إن الحزب القومي مشهود له ــ بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه ــ بالبطولات أو «وقفات العزّ». يحقّ للحزب أن يعتزّ بوقفات سعادة ضد الاستعمار وضد الدولة الاستقلاليّة الحديثة، ويحق له أن يزهو بشهيد الاستقلال (الحقيقي وليس المزيّف) سعيد فخر الدين. كذلك إن الحزب في محاولته الانقلابيّة تصادم مع دولة فؤاد شهاب البوليسيّة (التي لم تزدها المحاولة الانقلابيّة إلا حديديّة). وقد شارك الحزب بفعاليّة في معارك الحرب الأهليّة (من دون أن يغرق في وحول السرقات و«التشبيح» مثل بعض فصائل الحركة الوطنيّة حتى لا نتحدّث عن جرائم ميليشيات إسرائيل في المقلب الآخر)، وهو من المساهمين الأساسيّين في مقاومة العدوّ الإسرائيلي. لكن عمليّة نبيل العلم وحبيب الشرتوني قضت بالضربة القاضية على حلم إسرائيلي بصنع جمهوريّة على المقاس الصهيوني. ابتعد الحزب عن الاحتفال بحبيب الشرتوني والزهو به، وابتعد عن الاحتفال ببطولات نبيل العلم. كيف يعقل أن يسمح الحزب للدولة اللبنانيّة بالمضي في محاكمة الشرتوني، وكيف يعقل أن يغيب الحزب رسميّاً عن حملات المناصرة لحبيب الشرتوني؟ هل هي الأسباب القانونيّة؟ وكيف تكون هناك أسباب قانونيّة فيما تزهو كل ميليشيات اليمين اللبناني بجرائم حربها وبتحالفها مع إسرائيل؟ حبيب الشرتوني مثّل وقفة العزّ في أعلى مراحلها، والحزب تنصّل منه؟ يخجل الحزب من فعل البطولات؟

أما علاقة الحزب بالنظام السوري، فهذه إشكاليّة أخرى. يحقّ للحزب أن يعقد تحالفات كما يشاء، ويحق له أن يسعى إلى توحيد «الأمة السوريّة» كما يراها. لكن هل تحالف الحزب مع النظام السوري أدّى إلى ذوبانه فيه؟ والأنكى، أن الحزب تحالف مع السيئ الذكر، إيلي حبيقة، فقط لأنه كان حليفاً للنظام السوري ورفيق الحريري. ما الذي يميّز الحزب عن فرع حزب البعث في لبنان؟ أذكر أن الحزب القومي أصدر كتيّباً في عام ١٩٧٦ ندّد فيه بـ«الغزو الشامي»، في إشارة إلى تدخّل النظام السوري ضد الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة. أي كان للحزب مسافة في تحالفاته آنذاك. (لكن الحزب اقترب كثيراً جدّاً من قيادة ياسر عرفات ومن القذّافي تحت قيادة إنعام رعد. والتحالف مع القذّافي لا يمكن أن يندرج في نطاق رؤية «الأمّة السوريّة»). الأهم، أن الحزب يمرّ في أزمة، فقد عانى من انشقاشات ومن تجميد للعضويّة، كذلك إن كثيرين وكثيرات من أعضاء الحزب ابتعدوا عنه في السنوات الأخيرة. لقد عمّر الحزب القومي أكثر من غيره من الأحزاب، وهو خلافاً لمعظم الأحزاب اللبنانيّة (بمن فيها بعض الشيوعيّين) بقي في منأى عن الصراعات والغرائز الطائفيّة. لكنه أهمل حمله لواء العلمانية كما أهمل رسالة رفض الكيانيّة في رحم الأمّة السوريّة.

قد تكون هذه المقالة تطفّلاً على شؤون الحزب من خارجه، وقد يكون من حق القوميّين البحث في شؤون الحزب من دون تدخّلات من خارج الحزب. والحزب تعرّض في تاريخه لمؤامرات ومحاربات وحملات قمع قاسية في أكثر من دولة عربيّة. لكن استمراره في الوجود دليل على قوّة أورثها زعيم الحزب لأعضائه عبر مؤسّسات الحزب وعقيدته. لكن كل الأحزاب اللبنانيّة تواجه أخطاراً محدقة والكثير من الأحزاب الشيوعيّة والناصريّة اندثر وطُمر بالتراب. يستطيع الحزب الذي رفع لواء نهضة الأمّة أن ينهض بحركته مرّة أخرى، لو أنه جعل من عقيدته لُحمة جامعة لكل القوميّين (والقوميّات).

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@

:::::

“الأخبار”

العدد ٣١٢٥ السبت ١١ آذار ٢٠١٧

 

● ● ●

رد على مقالة أسعد أبو خليل

الحزب لا يكون حزباً بدون فكر سعادة ومنهجه العلمي المتجدد، والنهضة الجديدة قادمة!

ميلاد سبعلي

عشرات الرسائل الالكترونية تلقيتها منذ الصباح الباكر في توقيت لندن، تتضمن الرابط الى مقال اسعد أبو خليل بعنوان “أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي: النهضة مجدّداً”. معظم هذه الرسائل ترى ضرورة الرد، مع أن معظمها قيّمت المقال بالإيجابي. وانا اعرف أن معظم القوميين الاجتماعيين يبادلون الأكاديمي الناقد الصحافي اللاذع الذي “تخرّج من وسط التجربة الشيوعيّة الثوريّة (اللبنانيّة والفلسطينيّة)” “إعجاباً عَن بعد”… دون أن يعلموا أن والده كان يوماً سورياً قومياً اجتماعياً انتمى الى الحزب في بداية حياته، وصديقاً حميماً لأحد أنصع قيادييهم الأمين الراحل مصطفى عز الدين.

ولا بد أولاً من تسجيل تقديرنا للمنسوب العالي من الحرص والمحبة والتقدير الذي نضح به المقال، والتهذيب الفائق في النقد، من قلم عرف عنه أنه لا يهادن ويتمتع بسوط لاذع من النقد الى حد السخرية مما لا يمر على غربال تقييمه. لم يخلو المقال من هكذا لسعات، مع أن معظمها طال احزاباً وأفكاراً وقيادات عربية ويسارية أخرى، حيث أجرى مقارنة صارخة بين الحزب والفكر القومي الاجتماعي وبينها، مما أعطى تقدماً كبيراً للحزب برغم أزماته وأوضاعه الحالية، فكان نوعاً من جبر الخاطر المشكور، كمثل من يبرر علامات ابنه المتدنية بأن ثمة كثيرين راسبين وأسوأ منه بكثير في المدرسة. في وقت نفضل نحن تلامذة سعادة تقييم حزبنا وفكرنا ومسيرتنا بحسب معايير علمية مجردة وليس فقط بالمقارنة مع تجارب أخرى فشلت أو ترنحت. وربما هذا ما جعلنا نقيّم المقال بالإيجابي والمهذب. ولأنه كذلك، سنسوق في معرض ردنا نقداً ذاتياً لبعض المسائل سيكون أكثر تصلباً من نقد الكاتب المهذب.

ويقسم المقال الى قسمين: الأول يعدد السمات الإيجابيّة، برأي المؤلف، وقد وثقها بشكل منهجي منظم، والثاني يعدد بعض نقاط الضعف التي يرى صاحب المقال أنها من أسباب ازمة الحزب، أوردها بشكل أقل تنظيماً، وختمها بأن المقالة قد تكون “تطفّلاً على شؤون الحزب من خارجه، وقد يكون من حق القوميّين البحث في شؤون الحزب من دون تدخّلات من خارج الحزب”. فنحن نقول له أننا نرحب به وبمقالته وبالبحث العلمي الناقد من أي مواطن حريص على مستقبل أمتنا وبلادنا. فالفكر والحوار والبحث والنقد البناء البعيد عن المهاترات هو برأينا الأوكسيجين الضروري للارتقاء بالعمل السياسي في بلادنا ولتصويب الإداء، وهو ما نفتقره في زمن احتكار العمل السياسي من قبل طبقة سياسية اقطاعية طائفية تتناسخ سلالاتها واتباعها وتطبق على صدر الامة.

في قسم السمات الإيجابية يعدد الكاتب النقاط التالية:

1) شخصيّة الزعيم.

2) صلابة القيادة والأعضاء

3)

المؤسّسات الحزبيّة

4)

نموذجٌ فريد في المبدئيّة عند القيادات والاعضاء

5)

تفوّق الحزب القومي في تلقين العلمانيّة ممارسة ونظريّة

6)

مرونة عقائديّة وسياسيّة من خلال قدرته في السبعينات على التأقلم مع العروبة واليسار

7)

القيادة الجماعيّة مقابل تفرد قيادات أحزاب اخرى

8)

فرض الهيبة من خلال معاقبة الأعداء (الخصوم)

9)

أوّل مَن بدأ بنفخ النفير من أجل التحضير لمعركة كبيرة مع الصهيونيّة

لا يخلو هذا الجزء من النقد:

1- يقول الكاتب أن “زعامة أنطون سعادة كانت أسطورة من حيث الإفراط في «عبادة الشخصيّة»”، وأن سعادة نفسه “في كتاباته لا يتورّع عن التنويه بمنجزاته (في مقدّمة «نشوء الأمم» يتحدّث عن ثاني محاولة عربيّة في علم الاجتماع بعد ابن خلدون ويعرض بعض المصطلحات التي اجترحها بالعربيّة مثل «المناقبيّة» وهو في ذلك محقّ. كذلك فإنه يقول في «المحاضرات العشر» إنه أوّل من عرّف الأمّة السوريّة ــ بالطريقة التي عرّفها فيها)”، ويدافع الكاتب عن تواضع سعادة ومحاورته لمعارضيه مقارنة بتسلط قيادات أخرى. لكنه يتساءل “هل طقوس تحيّة الزعيم تحتاج إلى إعادة نظر؟”. وبنفس الوقت يقر أن “لمشهد مواجهة سعادة لحكم الإعدام دلالة كبيرة” مقارنة بالكثيرين الذين انهاروا في مواجهة الجلادين. واستنتج: “لو أن سعادة واجه إعدامه بغير ما عُرف عنه من شجاعة وقوّة، لكانت رسالته إلى القوميّين مختلفة، ولكان ميراثه أقلّ رسوخاً” “ابتسم أنطون سعادة بوجه جلّاديه ولم يتنازل قيد أنملة عن عقيدته. لكن سعادة في ما تركه لمناصريه من بعده نجح في تخريج مناضلين ومناضلات من طينة صلبة.” فهل يستكثر الكاتب بعد كل هذا الوصف الأسطوري محافظة القوميين على “طقوس تحية الزعيم”؟

2-

في معرض مدحه لصلابة القيادات والأعضاء، ولاحقاً المؤسسات الحزبية والقيادة الجماعية، يُعيد الكاتب هذه الصفات للإرث العقائدي والمسلكي وللمؤسسات التي تركها الزعيم، مقابل قيادات الأحزاب اليسارية المتسلطة، حيث “كان كل زعيم لحزب يساري يطبع الحزب ببصماته هو، ويأخذ معه مؤسّسات الحزب (وماله في كثير من الأحيان) عندما يغادر الحزب أو عندما يموت”.

لا شك أن هناك قيادات في الحزب تولت قيادته في مراحل متعددة تركت أيضاً بصماتها ونهجها على قيادة الحزب، مثل جورج عبد المسيح واسد الأشقر او عبدالله سعادة او انعام رعد، غير أنها لم تستطع الحلول مكان الزعيم أو “أن تأخذ مؤسسات الحزب معها” للسبب عينه الذي ينتقده الكاتب، أي تعلق الرفقاء بزعيمهم وفكره وانتمائهم الى الحزب على أساسه الصلب وليس بناء لمشاريع او طروحات القيادات المتعاقبة، مهما كانت جذابة ومحبوكة. لقد بقيت هذه النقطة التي يعدها الكاتب سلبية، أي تعلق القوميين بزعيمهم وفكره وسلوكه، بشكل قد يبدو اسطورياً “عن بعد”، هي الضامن للمؤسسات والقيادة الجماعية والصلابة، وليس العكس. وهذا سر تجدد الحزب وقيامته بعد كل نكسة وأزمة، وهو واجه من المصائب ما لا يقوى عليه أي حزب آخر برأينا، من اعدام زعيمه وهو في عز عطائه في منتصف العقد الرابع من عمره، الى اقتلاع الحزب من الشام بعد اتهامه باغتيال المالكي في منتصف الخمسينات، الى المحاولة الانقلابية الفاشلة على حكم فؤاد شهاب البوليسي في الـ 1962 وما تلاها من تنكيل وسجون، الى خروج القيادة من السجن ومواجهة الانشقاقات المستمرة ومحاولات السيطرة على قرار الحزب، من السبعينات الى الثمانينات الى يومنا هذا. ويأتي قرار المحكمة الحزبية الأخير بإبطال رئاسة اسعد حردان في هذا السياق، برغم محاولات التسلط وتطويع المؤسسات لمصالح القيادات المتعاقبة ونهجها وقوتها المستمدة من قوة الحزب الذاتية او من تحالفات خارج الحزب. وهذا الربط المباشر بين الأجيال الجديدة من القوميين وبين زعيمهم وفكره ومنهجه العلمي الحاضن للتطور والتجدد هو في صلب اطمئناننا بحتمية خروج الحزب من أزمته الحالية وتجديده لحركة النهضة بشكل أكثر راديكالية وأكثر تفهماً لمقتضيات العصر وتطور علومه وابحاثه وتقنياته. وهذا ايضاً سر ما يصفه الكاتب بــ “قدرة الحزب القومي على الحركة الديناميكيّة المستمرّة وعلى التجدّد في الاستمراريّة”.

3- ويأتي في هذا السياق ايضاً ما يورده الكاتب أن السوري القومي الإجتماعي قد ينزوي “في منزله، قد يبتعد عن العمل السياسي، قد يهاجر ويترك الحزب، لكنه لا يرتدّ ولا ينضمّ إلى حركة معادية لعقيدة الحزب. اختلف قوميّون سوريّون مع أسعد حردان، لكنّ أحداً منهم لم يصبح معادياً لمشروع مقاومة إسرائيل”. إن التعاقد الفردي مع الزعيم من قبل الأعضاء، والعناية التي يوليها الحزب للتثقيف العقائدي ودراسة تاريخ الحزب وتاريخ الزعيم في الحزب، كانت هي السبب الأساسي لهذه الصلابة وهذا الثبات، ولو أنها تفاوتت من مرحلة الى أخرى، ووهنت في زمن الحروب يوم حرص بعض القيادات على إدخال اكبر عدد ممكن من المقاتلين في عداد الأعضاء، مع أن ذلك ترافق في أحيان كثيرة مع محاولات “عسكرة الحزب وعقدنة العسكر”. ويصيب الكاتب عندما يستنتج أن “هذا يرجع إلى تشديد الحزب على التنشئة العقائديّة في سن مبكّرة. أخذ الحزب القومي التثقيف الحزبي على محمل الجدّ، فيما أهملته الأحزاب الشيوعيّة العربيّة”. ولكن الحقيقة الكاملة تفترض إضافة أن شخصية الزعيم الفذة، ومسلكيته البطولية، واستشهاده بالشكل الأسطوري الذي وصفه الكاتب، هي الجزء المكمل للتنشئة العقائدية. وربما ساعد على ذلك غيابه المبكر قبل أن يسجل عليه النقاد والقوميون الكثير من الأخطاء والهنات التي يمكن ان تحصل.

4- يؤكد الكاتب في معرض مقارنته لمنابع الفكر القومي الاجتماعي والأفكار اليسارية الأخرى، أن الحزب القومي “تفوّق في الثقيف الحزبي، لأن أدبيّاته كانت محليّة مرتبطة بالواقع المحلّي وكانت تتسم بقرب من مشاكل المجتمع السوري (وحتى العربي)”، بينما كانت الأفكار اليسارية بمجملها تستقي فكرها من منابع غريبة أوروبية أو روسية أو صينية. وبرغم ذلك يعود وبنتقد تأثر سعادة بالفكر الاستشراقي في تقييمه للعروبة والإسلام. وهذا نقد قد لا يخلو من التعميم أو اهمال المجهود الكبير الذي بذله سعادة في تحليل الواقع والتاريخ والفكر الإسلامي والعروبي، سواء في كتابه الفريد والجريء “الإسلام في رسالتيه” أو كتاباته الأخرى العديدة حول العروبة الوهمية والعروبة الواقعية.

5- يمتدح الكاتب “تفوّق الحزب القومي (وهذه نتاج فكر أنطون سعادة) في تلقين العلمانيّة ممارسة ونظريّة” وعدم ارتداد أعضائه وقيادييه “نحو الطائفيّة والفكر الطائفي ونحو الدين والتديّن” كما فعل الكثير من قادة الأحزاب الشيوعية العربية، ولكنه يستخدم أسلوبه الإعتراضي بين هلالين ليقول أن “أن التعبير عن العداء لليهود كيهود تناقض مع علمانيّة الحزب الصارمة وأضفى بعداً مُستورداً من قوميّات أوروبيّة عنصريّة على عقيدة الحزب”. وهو بالتالي يعني أن العداء يجب أن يكون للصهيونية وليس لليهود كمجموع ديني. وقد كانت هذه النقطة من نقاط الجدل البيزنطي القائم بين اليسار والقوميين الاجتماعيين في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، كما كانت موضع نقاشات طويلة وحادة بين القوميين أنفسهم. وكنا نؤكد دوماً ونؤكد اليوم، أن حربنا مع اليهود ليست حرباً دينية بحتة، حتى لو كان لهم معتقدات وسلوكية لا تتفق مع قيمنا وتراثنا الروحي. فهناك الكثير من الأديان والطوائف في العالم نختلف معها في هذا الجانب، ولم نعلن عدائنا لها لأننا دعاة نهضة في بلادنا ولا تعنينا عقائد العالم الا بقدر ما تتضارب مع حقنا وسيادتنا على وطننا. من هذا المنطلق، فإن عداءنا مع اليهود هو بسبب عدائنا للمشروع اليهودي الذي يريد اقتلاعنا من ارضنا واقتطاع أجزاء عزيزة من وطننا وجعلها وطننا قومياً لليهود، واشادة دولة لليهود عليها، مسخرين لهذا المشروع الاستعماري كل تراثهم الديني. وهم لم يقولوا أنهم يقيمون دولة للصهاينة. وبرأينا أن التطور الذي حصل في كشف هذا المشروع عن هويته مؤخراً من خلال الإعلان ان “إسرائيل” هي دولة اليهود والطلب من الأمم المتحدة الاعتراف بهذا التعريف، يحول النقاش حول طبيعة عدائنا للصهيونية بدل اليهود، نقاشاً مضى عليه الزمن. وحتى في أوج الصراع مع الكيان المغتصب، الذي يسمي نفسه يهودياً وليس “اسرائيلياً” أو صهيونياً، وفي ظل ضرورة تعبئة كل طاقات الأمة في مواجهة هذا المشروع، كان سعادة دقيقاً جداً في توصيفه عندما قال: “ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقنا، إلا اليهود”، ولم يقل ليس لنا من عدو الا اليهود. فهو عدو لأنه يقاتلنا أولاً، ثم لأنه يقاتلنا ليس فقط في ديننا انما ايضاً في أرضنا وحقنا. وبرغم ذلك نؤكد أن هذا لا يعني حرباً دينية بين الديانات السورية المحمدية والمسيحية ضد الديانة اليهودية. بل حرباً قومية لا تخرج الحزب وعقيدته عن الثوابت العلمانية. وقد انتقد سعادة والحزب في الكثير من الأحيان مؤسساتنا الدينية والسياسية لأنها تعاملت مع فلسطين كأنها وقف إسلامي او مسيحي.

6- في معرض مديحه للحزب حول معاقبة الأعداء، ونحن نقول الخصوم الداخليين، ينتقد الكاتب الحزب أنه “لم يعاقب الشهابيّة على جرائمها ضدّه (وهذا خطأ من أخطاء الحزب، لأن ذلك سهّل من استهداف الحزب من خلال أعدائه)، ولم يثأر لمجزرة حلبا”، ولاحقاً في متن المقال انتقد “تنصله من قضية الأمين حبيب الشرتوني”. لا شك أن هذه مسائل لا زالت تحز في نفوس القوميين الاجتماعيين، وبرغم أن الشهابية تآكلت ودفنها النظام الطائفي الاقطاعي نفسه الذي نفخها وطبل لها يوم تصدى لها الحزب، لكن نتائج معالجة مسألة مجزرة حلبا خلال وبعد المجزرة كانت مخزية، برغم كل الجهود المبذولة، ومسألة التعاطي مع موضوع الأمين حبيب الشرتوني والأمين الراحل نبيل العلم كانت ولا تزال معيبة، برغم أن هناك فرصة لا تزال موجودة أمام قيادات الحزب لتعديل الموقف واقفال هذا الملف بشكل أكثر عدالة وكرامة كما سنوضح لاحقاً.

7- يؤكد الكاتب أن الحزب بقي “محافظاً على موقف صلب ومبدئي ضد الصهيونيّة، وتجد أن القوميّين (والقوميّات) في المهاجر هم أكثر العرب جهراً بالدفاع عن فلسطين، وأعندهم في رفض التعاطي مع صهاينة”. وهذا برأينا أقل الإيمان. لا بل إننا في معرض النقد الذاتي وتجديد مشروع النهضة نطالب حزبنا باستعادة المبادرة في موضوع مقاومة المشروع اليهودي، وهو كان سباقاً الى ذلك في الثمانينات، قبل أن يتنازل، بفعل التحالفات ومونة الحلفاء، عن هذا الشرف لحزب الله، الذي برغم بلائه بلاء مميزاً نتيجة الدعم المفتوح وكفاح افراده وقيادته، الا أن ذلك صبغ مسألة المقاومة بصبغة مذهبية، أدّت بعد أن نجحت أميركا بتأجيج الصراع المذهبي السني الشيعي في المنطقة، الى عداء قسم كبير من شعبنا والشعوب العربية الأخرى لمفهوم المقاومة نتيجة الأحقاد المذهبية. ومن هنا فإن استعادة قيادة الصراع مسألة جوهرية واستراتيجية لتحريره من اتهامات المذهبية وإعادة اجتذاب أوسع شريحة ممكنة من شعبنا الى هذا الموقع.

أما في القسم الثاني من المقال، الذي يتساءل فيه الكاتب عن مكمن الخلل في الحزب برغم كل السمات الإيجابية، فيورد النقاط التالية:

1- “التعاطي مع عقيدة الزعيم (وبعضها كان كثير الركون إلى الكتابات الأكاديميّة الغربيّة على ما تحمله:

أ- من منهجيّة غير علميّة بمقياس العلوم الاجتماعيّة حالياً

ب- من نفس استشراقي)”

2- مشكلة قبول الحزب باتفاق الطائف. كيف يمكن الحزب أن يقبل بنهائيّة الكيان اللبناني؟

3-

تنصل الحزب من قضيّة حبيب الشرتوني، العطِر الذكر

4-

إشكالية علاقة الحزب بالنظام السوري وذوبانه فيه

5-

الحزب يمرّ في أزمة، فقد عانى من انشقاقات ومن تجميد للعضويّة

يمكن القول أولاً أن الكاتب لم يعطِ هذا القسم نفس الاهتمام والتعمق الذي أعطاه للقسم الأول، على الأقل من ناحية المنهجية والتنظيم والشمولية. فالسؤال الأول، اذا نظرنا الى كل هذه النقاط وسلمنا جدلاً أنها كلها من مكامن الخلل، فهل هي كافية لتوصيف أسباب الأزمة المتفاقمة منذ زمن؟ 

وهل هذه أسباب أم نتائج لأسباب أخرى أكثر جذرية؟

لننظر الى اهم النقاط التي أوردها الكاتب ونحللها:

1- في التعاطي مع عقيدة سعادة. كان الكاتب راقياً ومهذباً، ويمكن اختصار وجهة نظره بهاتين الجملتين التي بدأ وختم بها هذا الباب: “يحتاج الحزب إلى مراجعة كتابات سعادة بهدف الربط بين الحديث في العلوم الاجتماعيّة التي درسها سعادة وكتب فيها وبين عقيدة الحزب”، و “هناك حاجة من «عمدة الثقافة» في الحزب لتوكيل لجنة أكاديميّة حزبيّة من أجل وضع قراءة جديدة للمستندات والقراءات الأكاديميّة لسعادة للأخذ في الاعتبار الدراسات الجديدة التي تجاوزت الكثير من المصادر التي اعتمدها سعادة في كتاباته”.

هذه مطالب محقة وهي في صلب نهج سعادة العلمي، الذي لو كان موجوداً اليوم لكان حتماً تابع آخر ما توصل اليه العلم الحديث ونقده أو تبناه على ضوء منطلقاته العقائدية، لا بل كانت له الجرأة لتعديل بعض هذه المنطلقات لو رأى ضرورة لذلك بسبب نقض العلم الحديث لبعضها. وهذا ما يجب ان يقوم به الحزب بغيابه. ولنا من مراجعات سعادة وتنقيحه لأهم كتبه “نشوء الأمم” في الـ 1947 دليل على ذلك. إذاً تحصيل حاصل ما يطالب به الكاتب من الربط بين الحديث من العلوم الاجتماعية التي درسها سعادة وبين العقيدة، ومن وضع قراءة جديدة للمستندات والقراءات الاكاديمية لسعادة، للأخذ بالاعتبار الدراسات الجديدة التي تجاوزت الكثير من المصادر التي اعتمدها سعادة. ونحن نصف الكاتب بأنه مهذب في نقده، لأنه لم يقل أن هذه الدراسات قد تكون تجاوزت بعض مناحي العقيدة نفسها وليس فقط المصادر التي اعتمدها سعادة. ونحن ندعي أن نهج سعادة العلمي الحاضن للتطور يحتّم على الحزب ومؤسساته وأعضائه الاطلاع على الدراسات الجديدة ومقارنتها مع كافة مباحث العقيدة، والمساهمة الجريئة إما بنقد تلك الدراسات الجديدة وتقديم أفضل منها، أو بتعديل ما يجب تعديله حتى في العقيدة فيما لو كان هناك حاجة لذلك. وسعادة كان دائم الاطلاع على أحدث الأبحاث والمنشورات العالمية في مجال بحثه، وهو في كتابه نشوء الأمم (1936) مثلاً يستخدم إضافة الى الكتب المرجعية التاريخية المعروفة، مراجع وابحاث تعود الى سنوات قليلة قبل تاريخ كتابته، مع صعوبة الحصول على هكذا مراجع في ذلك الزمن الذي كانت فيه بلادنا متأخرة عن الركب العالمي، ووسائل التواصل معدومة نسبة الى اليوم، خاصة وأنه كتب الكتاب في سجون الانتداب. وهو كان استخدم نفس المنهج لو كان موجوداً اليوم.

2- على ضوء ذلك، ننظر الى الأمثلة التي ساقها الكاتب، وقال عنها أن الأبحاث الجديدة تجاوزتها، ونسأل هل هذه الأمثلة هي في أساس البناء العقائدي أم هي أجزاء ثانوية مكملة للأساس العقائدي الصلب؟ والكاتب يعلم أن علوم الاجتماع والسياسة والفلسفة التي لامسها سعادة او ارتكز اليها عندما وضع نظرياته الفكرية، هي مسائل لا تتغير بين ليلة وضحاها، لأنها مسائل بعضها شغل الفكر الإنساني منذ الاف السنين. والدليل أن هناك كتباً ونظريات واتجاهات عمرها آلاف السنين من أيام الفلاسفة السوريين القدماء وسقراط وافلاطون وارسطو وزينون الرواقي وصولا الى مفكري زمننا الحاضر، وما زالت حاضرة بقوة في عالم الأبحاث والعلوم الحديثة. وهي ليست بطبيعتها مثل علوم الهندسة او التكنولوجيا او حتى الإدارة تتطور وتتغير بسرعة كبيرة. من هذا المنطلق، ننظر الى نقد الكاتب لبعض النظريات عند سعادة، وموافقته سعادة على البعض الآخر.

فهو يوافق سعادة على رفض نظرية السلالات والنقاء السلالي، مع أن ذلك كان حاضراً بقوة في الأبحاث وفي العقائد الأوروبية أيام سعادة. وقد تناول سعادة موضوع السلالات في الفصل الثاني من كتابه نشوء الأمم، قبل أن يتقدم في الكتاب ليتناول مواضيع اكثر تطوراً وعلاقة بأساسات البناء العقائدي الذي جاء به، مثل الأرض وجغرافيتها وأهمية البيئة للإنسان والجماعة وشخصيتها وتاريخها، ثم الاجتماع البشري وتوزع البشر ونشوء الجماعات، ثم المجتمع وتطوره من المجتمع البدوي الى التطور الثقافي والثقافة العمرانية وتطورها وصولاً الى الثورة الصناعية، ثم نشوء الدولة وتطورها، وأشكالها وحقوقها وتاريخها والدولة الدينية والمدنية والديمقراطية القومية ، ثم يخلص الى تحديد المتحد وتحديد الأمة. من كل هذا البحث القيم، ينتقد الكاتب وعدد من النقاد الآخرين، بعض ما قاله سعادة بما يخص علم السلالات، مع أن سعادة قال ما يلي في مطلع الفصل الثاني حول السلالات من نشوء الأمم: “نقول إن البشر جميعهم يؤلفون نوعاً واحداً بالمعنى الطبيعي الحيواني (الزّولوجي) ولكنهم يتقسّمون الى سلالات متعددة تتوارث كل واحدة منها صفاتها ومزاياها الخاصة. وما ندخل هنا في أيّ بحث يتناول تعليل حدوث هذا التقسّم التنوّعي لسببين: أولهما – أنه ليس غرض هذا الكتاب التحقيق في هذا الموضوع المستقل، والثاني – أن آراء العلماء وأدلّتهم ليست متفقة بهذا الصدد فيكون الخوض فيه خطراً. ولكنه لا بدّ لنا في سياق البحث، من أن نعرض لبعض النظريّات العلمية في ذلك، من باب التوسّع الذي لا يدخلنا في خطر إصدار أحكام عامة جازمة.”

وهذا دليل آخر على نهج سعادة العلمي واحترامه للتطور والبحث العلمي بشكل عام وفي هذه المواضيع بشكل خاص. فهل يجوز بعد هذا الكلام نقد ما ذكره او استنتجه من هذه الأبحاث وقتها، في هذا الموضوع الجانبي الذي لا يشكل اساساً لما خلص اليه في الكتاب من تحديد للامة، والذي كان في أساس البناء العقائدي للحزب؟ وهل كان سعادة ليتمسك بأبحاث قديمة في موضوع جانبي لو كان عاصر انتقال البحث العالمي في هذا الموضوع من شكل الرأس الى التركيبة الجينية والـ DNA ومزيج الكروموزومات البشرية نتيجة التفاعل والمزيج السلالي؟ وهذا ينطبق على ما اذا كان المزيج السوري متفوقاً على غيره (خاصة العربي) واستخدام ذلك للقول بريادة الأمة السورية وقيادتها للنهضة العربية الشاملة. وهل يغير شيئاً في ضرورة تحديد الأمة وتحريرها وتوحيدها ونهضتها اذا كان المزيج السلالي السوري ارقى من غيره او متساوي مع الاخرين؟ وهل توحدت الأمم والبيئات العربية وتحررت ونهضت ووصلنا الى الاختلاف على من يقود الجبهة العربية وطالبنا بذلك كسوريين مرتكزين الى علم السلالات وابحاثه القديمة؟

3- يتابع الكاتب: “وإذا كان سعادة يرفض القوميّة بناءً على عامل اللغة والدين، فإنه ينزع نحو التفسير المادّي عن أولويّة الرابطة الاقتصاديّة في «المتحد الراقي» (كان سعادة معجميّاً واجترح عدداً من المصطلحات مثل «المُتحد» للكلمة الألمانيّة «جيمينشافت»). لكنه يهمل عناصر التناحر الطبقي الاقتصادي في الأمّة، مُفضّلاً وحدة المصالح (المتحدة).”

إن سعادة حدد العوامل الأساسية لتشكل الأمة، بالتفاعل بين المتحد والبيئة، بجيث تنشأ عن هذا التفاعل وتقويه أو تضعفه عوامل أخرى منها اللغة والدين. وهو لم يرفضها بالمطلق لكنه حدد وظيفتها من ضمن حركة التفاعل. ولم يحصر التفاعل بالجانب المادي الاقتصادي فقط بل أعطاه بعداً آخر احتماعي روحي، وبالتالي ابتدع مصطلحاً جديداً هو المدرحية، المادية-الروحية. وهو فعلا أهمل عناصر التناحر الطبقي الاقتصادي في الامة، لكن من قال ان نظرية التناحر الطبقي هي الأصح والأفضل من نظرية التفاعل ووحدة المصالح التي قال بها سعادة؟ هنا يخرج الكاتب عن موضوعيته العلمية الى رحاب الاختلاف الأيديولوجي، وهو خروج مرحب به على قاعدة الحوار العلمي المدعم بالأبحاث الحديثة، لا التفاضل الأيديولوجي المبسط.

4- يقول الكاتب: “إن سعادة في تناوله لتاريخ الإسلام نهل من الاستشراق التقليدي ولم يرجع إلى المراجع العربيّة والإسلاميّة (لم يذكر في مراجع «نشوء الأمم إلا ابن خلدون في «المقدّمة» والمسعودي في «مروج الذهب») إلا في تعميمات ابن خلدون عن طبيعة العرب وعصبيّتهم ــ وهذه التعميمات كانت دوماً المفضّلة عند المستشرقين. وطبعاً، اعتنق سعادة فكرة هنري لامنس (تحدّث ماكسيم رودنسون عن «احتقاره» للإسلام) عن تفوّق معاوية والدولة الأمويّة في التاريخ الإسلامي، إعلاءً لشأن العنصر السوري”.

إن في هذا الكلام تعميم وتعمية. فسعادة عندما يكتب كتاباً علمياً مثل نشوء الأمم، في العام 1936، من الطبيعي أن يستعين بآخر ما توصل له العلم العالمي في المجال في حينه، وبعض ما هو متاح من الأبحاث العربية ذات القيمة والعلاقة بالموضوع. وعلى هذا الأساس، لو نظرنا الى مراجع الكتاب الأجنبية، نرى هذه الأسماء: ماير، مكيور، ونغر، ديودروس، هرتمن، جنكس، كولر، فركنط، غيغر، ويسمن، ملر، لير، دلا بلاش، شرادر، وينرت، هرتس، تايلر، كبرس، جوليان، بواس، مير، هدن، فن لوشان، رتسل، شتينطال، ويلز، وينرت، وقلدشمت. ولم يكن أي منها مستشرقاً، بل كانوا علماء عصرهم في العلوم التي تناولها الكتاب. أما المراجع العربية فتشمل: النابغة الذبياني، ابن خلدون، كيتاني، فيليب حتي، المسعودي، وبعض المجلات المصرية في علم الجيولوجيا. ومن المعروف أن نشوء الأمم قد يكون الكتاب الأول من نوعه باللغة العربية بعد مقدمة ابن خلدون. لذلك كانت المراجع العربية محدودة. أما أن نحكم على كامل فكر سعادة حول تاريخ الإسلام من خلال نشوء الأمم، فهذا تعميم آخر. فلسعادة عشرات الكتابات في مجالات لها علاقة بالفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي، جمع قسم قيم منها في “كتاب الإسلام في رسالتيه” اعتمدت القرآن الكريم والكثير من المراجع الإسلامية والعربية. وقد تكون راقته بعض نظريات الاب لامنس أو غيره التي تدعم تأسيسه لفكرة الأمة و”اعلاء لشأن العنصر السوري” في عصر بلبلة العقائد والانتماء وتحديد الهوية، لكن القول أنه “طبعاً، اعتنق” فكرة هنري لامنس فهذا اتهام يتناقض مع منهج سعادة العلمي وشخصيته الفذة التي تكلم عنها الكاتب.

إذاً، نحن تلامذة سعادة نوافق الكاتب ان على الحزب ومفكريه وباحثيه القيام بمجهود بحثي استثنائي ومستمر لربط الفكر بآخر ما توصل اليه العصر من علوم على صلة بالمنطلقات العقائدية وكتابات وابحاث سعادة ومراجعها، ونقول أكثر من ذلك، لمراجعة الفكر على ضوء تطورات وابحاث العصر، ان كنا نريد أن نكون أمناء لمنهج سعادة العلمي والبحثي. ونقول أيضاً أنه لا بد من إعادة النظر بأليات العمل، وتطوير العمل الحزبي ليواكب العصر حتى يستطيع القيام بأعباء النهضة على كافة الصعد في هذا العصر. وهذا ما كتبنا به مراراً ونعمل عليه، مع أنه قد يفترض تجديداً ليس فقط بالآليات بل بالرفقاء والقيادات التي ستطور هذه الآليات. وهذا يتطلب البدء بتطوير عملية ومواصفات بناء الانسان النهضوي الجديد وإضافة مجموعة من المهارات العلمية الحديثة الى جانب البناء العقائدي الصلب. وهذه تؤسس لتجديد الحزب وآلياته وبنيته وخططه واستراتيجياته ليستطيع استئناف العمل على تحقيق غايته بنجاح وتفوّق.

5- أما بقية النقاط، مثل القبول باتفاق الطائف، والمشاركة في الحكومات اللبنانية المتعاقبة مع ما رافق ذلك من شوائب، فهي مسائل تتعلق بالبرنامج السياسي للحزب، الذي تبنته القيادات المتعاقبة بحكم الرعاية او التحالف مع النظام الشامي. والقوميون بمعظمهم، مثل الكاتب، غير راضين عن أداء الحزب في هذا الجانب، وهم متحسسون من لبننة الحزب وتأقلمه مع الكيانية، منذ أيام نعمة ثابت في غياب الزعيم في الاربعينات من القرن الماضي، مع اعتقادنا أن هذه السياسات لا يمكن أن تعدل حرفاً في الثوابت العقائدية للقوميين، الذين عادة ما يتسامحون مع قياداتهم مؤقتاً بحكم النظام، لكنهم لا يسمحون بأن تتحول هذه السياسات الى جزء من عقيدتهم. وهنا أيضاً تكمن أهمية ارتباط القوميين بسعادة كمؤسس وواضع لأساسات البناء العقائدي، ولا يلبثون أن ينفضوا عنهم بقايا النهج السياسي المتناقض مع هذه الاساسات، كما حصل عدة مرات في تاريخ الحزب، مثل ادانة مرحلة نعمة ثابت، او مرحلة الخمسينات، أو غيرها، حتى لو قدروا الظروف التي حدت بقياداتهم بانتهاج سياسات مرحلية محددة.
6- وينطبق نفس التحليل على التحالف مع النظام الشامي، الى حد التماهي والذوبان، حيث يتساءل الكاتب: ” ما الذي يميّز الحزب عن فرع حزب البعث في لبنان؟” و”كيف يمكن الحزب في تحالفه مع النظام السوري أن يتغاضى عن النواحي القُطريّة التي طرأت على خطاب وأيديولوجيا النظام في السنوات الأخيرة، أو حتى على قوميّته العربيّة سابقاً؟ إن تعارض الحزب مع الكيانيّة اللبنانيّة كان في صلب عقيدته، لكنه تهاون في ذلك في السنوات الأخيرة، ربما كي يدخل في النظام اللبناني. كان الحزب يمثّل القوميّة المبدئيّة التي رفضت الكيانات التي ولَدها الاستعمار، وكان هذا الرفض من ميزات الحزب وعناصر جذبه”.

الحزب لم يتخل عن مبدئيته القومية برغم بعض البرغماتية التي تفرضها التحالفات أو الظروف. وهو لم ولن يتحول الى فرع لحزب البعث لا في لبنان ولا في الشام. وليس هذا مطلوباً، باعتقادنا، حتى من النظام الشامي نفسه. لا شك أن بعض القيادات الحزبية على مدى تاريخ الحزب، قد تحولت بحكم المصلحة او العادة الى جزء من منظومة الحلفاء، من فتح ومنظمة التحرير، الى النظام الشامي، الى حزب الله والتيار الوطني الحر وغيرهم، الى حد الظهور، عن بعد، بمظهر التبعية او التماهي مع الحليف، أو انتظار التعليمات والتمويل منه. لكن هذه الحالة غير طبيعية ويلفظها الحزب في انتفاضات دورية يجدد بها خطه ومساره، كما حصل سابقاً، وهذا ما قد بدأت بوادره بالظهور في هذه المرحلة أيضاً بأشكال ومواقع متعددة. ليس المطلوب بالطبع التناقض مع الحلفاء حتى نثبت تمايزنا، ولا المطلوب التماهي والذوبان وفقدان التميز والفرادة الفكرية.

7- أما موضوع الأمين حبيب الشرتوني ومحاكمته، وبرغم التقصير الفاضح في مواقف المؤسسات الحزبية، فإننا لا نعتبر أن هناك تنصلاً بالكامل، ونأمل من قيادة الحزب الحالية في كل المواقع تصدّر مهمة الدفاع عن هذه المسألة، لأن العملية التي نفذها الأمين حبيب لم تكن عملية شخصية حتى تعالج قضائياً وجزائياً فقط، بل كانت عملية سياسية بامتياز استهدفت رأس المشروع الصهيوني وقتها باعتراف قادة الكتائب والأحزاب الوطنية، ولو كان هذا الرأس أي شخص آخر لما كانت العملية استهدفت شخص بشير الجميل. وقد صرح الكثيرون ومنهم الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي أن أكثر من طرف، بما في ذلك الحزب الشيوعي كان يحاول التخلص من بشير، لكن حبيب سبقهم. فالمسألة اذا وطنية عامة، تتعلق بخيارات لبنان والحكم فيه، للاختيار بين نظرية “التحالف مع الشيطان” بحجة حماية لبنان، أو اختيار المقاومة لمواجهة الأطماع الإسرائيلية في لبنان والمنطقة، والتي وصلت وقتها الى بيروت وأمنت وصول بشير الى سدة الرئاسة.

وقد صرح الكثير من المصادر، بينها الأميركي والإسرائيلي، عن مدى الصدمة والإحباط الذي ساد المعسكر الإسرائيلي بعد العملية، مما أدى لاحقاً الى انطلاق عمليات المقاومة الوطنية وبدء أفول العصر الإسرائيلي. اذاً الدفاع عن العملية ليس تمجيداً للقتل ولا يستهدف عائلة الجميل ولا نكئ الجراح وإعادة فتح ملفات الحرب، بل السعي الى اغلاقها بشكل عادل يحفظ الكرامة والخيارات الوطنية الكبرى. وهذا لا يجب أن يتأثر له سلبياً رئيس الجمهورية، الذي يضم تياره الكثير من البشيريين السابقين، ولا حلفاؤه الى اليمين (القوات) او الى اليسار (حزب الله). ليس عدلاً أن يُدفن الملف ويبقى الأمين حبيب مشرداً ومطلوباً على قاعدة المسايرات ومسح الذقون. لا بل يجب إما فتح محاكمة المرحلة الإسرائيلية بكاملها، وهو ما لم يحصل بعد الحرب، أو إجراء مصالحة وطنية وطي هذا الموضوع على قاعدة العفو عن الأمين حبيب والالتزام الوطني من قبل كل الأطراف بعدم الرهان على إسرائيل مجدداً تحت أي ظرف لتحقيق مكاسب في الداخل. وهذا الكلام، يجب ان تتبناه قيادات الحزب، وقيادات الأحزاب الوطنية الأخرى التي كانت تناضل لنفس الهدف، حتى لو أدى ذلك لخسارتنا لبعض المواقع النيابية في بعض المناطق، او زعل بعض الحلفاء المستجدين. فهذه خسائر جانبية امام مسألة مركزية وطنية بهذا الحجم. لا بل ان إقفال هذا الملف على قاعدة عفو كما حصل مع سمير جعجع والإسلاميين، المدانين بجرائم قتل واغتيال لا تقل عنفاً، يؤسس لانهاء العداء التاريخي بين أطراف عديدة على الساحة اللبنانية. أما ابقاؤه جرحاً مفتوحاً يلجأ اليه البعض كلما احتاجوا لاستدرار العطف والاصوات الانتخابية فهي مسألة لا يجوز أن تستمر.

نختم هذا المقال بشكر الصحافي اللامع الأستاذ أسعد أبو خليل على إثارة هذا الموضوع، وفتحه للحوار الفكري السياسي الراقي، وحرصه ونقده المهذب من موقع المحب والمعجب بالحزب ولو “عن بعد”. كما نحييه تحية المحبة القومية لإيمانه بأن الحزب “الذي رفع لواء نهضة الأمّة” يستطيع “أن ينهض بحركته مرّة أخرى، لو أنه جعل من عقيدته لُحمة جامعة لكل القوميّين (والقوميّات)”. ونعاهده أننا سنعمل بكل ما أوتينا من قوة من أجل هذه اللحمة وتوحيد الحزب واستعادة دوره مجدداً في النهوض ليس فقط بحركته بل بالأمة جمعاء. أما الغوص أكثر في الأسباب الأخرى للأزمة وتفاصيل كيفية الخروج منها فهذا بحث آخر وله مكان ووقت آخر.

 

المصدر: صفحة الفيس بوك للكاتب Milad Sebaaly*
 

اترك تعليقاً