الأرشيفثقافة وفن

فيسبوك والصداقة وثلاثة كتب… ضد التفاهة وفي حب الأدب

مازن مصطفى “فيسبوك” – Mazen Mustafa

ما بدأتُه بنيّة التسلية سرعان ما انقلب إلى بحثٍ فكري رصين. الحديث هنا عن كتاب “الفيسبوك والفلسفة: بمَ تفكّر؟”، من تحرير دي. إي. وتركوور (D.E. Wittkower) – و”تحرير” هنا تعني أنه عمل جماعي، شارك فيه أكثر من عشرين مفكرًا. وقد تُرجم إلى العربية وقدّمه ربيع وهبة، وصدر عن دار المحروسة.

(وبالمناسبة، لا يصح إدخال “أل” التعريف على الأسماء الأجنبية، فلا نقول “الشانزيليزيه” ولا “الفيسبوك”، بل ترد الأسماء كما هي).

في هذا الكتاب، تناول الكتّاب جوانب متعدّدة لاستخدام “فيسبوك” كأداة من أدوات التواصل الاجتماعي، من زوايا نفسية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، وأخلاقية. وقد يجد كل قارئ ضالته في واحدة من هذه الزوايا، سواءً أكان مهتمًا بالتأثيرات النفسية، أو بانعكاسات الفيسبوك على الهوية، الخصوصية، الاقتصاد، أو حتى على مفهوم الصداقة.

فيسبوك والصداقة: حين يتقلّص المعنى

ما شدّني أكثر هو باب الصداقة. فـ”فيسبوك” – رغم كونه منصة رقمية – يقوم أساسًا على فكرة تبادل الصداقة: مجلسٌ رقميّ، أو صالون افتراضي، لا تدخله إلا بموافقة متبادلة. ليس صحيفة ولا إذاعة، بل مساحة مغلقة بين من اختاروا بعضهم أصدقاء. ورغم ذلك، فإن الباب موارب أمام المتلصّصين، إذا ما أراد صاحب الصفحة إبقاءها مفتوحة.

شخصيًا، أرفض قبول “صداقة” من يُغلق صفحته أو يخلو محتواه من أي معنى أو حضور. فماذا يمكن أن يجمعنا إذن؟

الصداقة كما يراها الكُتاب المشاركون

يقدّم هذا الكتاب، عبر أصوات متعددة، إعادة تعريف لمفهوم الصداقة في العصر الرقمي. تتراوح الآراء بين من يرى أن الصداقة الرقمية لا تعدو كونها معارف سطحية، ومن يرى إمكانية بناء روابط قائمة على الثقة والمحبة رغم المسافة.

لكن يتفق الجميع تقريبًا على أن فقدان العمق في تلك العلاقات يقلل من قيمتها الوجودية والأخلاقية.

يرى بعض المشاركين أن “فيسبوك” يخلق وهْم الحميمية: إعجابات وتعليقات قد توحي بالقرب، لكنها غالبًا ما تكون تفاعلات سطحية لا تصنع صداقة حقيقية. ويطرح أحدهم سؤالًا فلسفيًا: هل حذف صديق على فيسبوك يُعد فعلًا أخلاقيًا؟

كاتب آخر يلفت إلى خطر تسليع الصداقة، حين تتحول إلى مجرد وسيلة للتباهي بعدد الأصدقاء، فيُفرغها ذلك من بعدها الإنساني، لتُصبح أداة للعرض وليس رابطًا روحيًا.

وعن نفسي، أرى أن قبول الصداقة عبر “فيسبوك” هو بمثابة عقد أخلاقي ونفسي. وغالبًا ما أبدأ هذه العلاقة برسالة خاصة أقول فيها: “أهلًا بك صديقًا، لك التقدير والمحبة”. أفهم هذا القبول كموقف معرفي، روحي، وإنساني.

في أدب الصداقة… ضد التفاهة

أعادني هذا الكتاب إلى عملين عظيمين في أدب الصداقة، أحسب أنهما من أهم ما كُتب عربيًا في هذا الباب:

1. “في أدب الصداقة” — عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي

كتاب يضم أكثر من 140 رسالة متبادلة بين الروائي عبد الرحمن منيف والفنان التشكيلي مروان قصاب باشي، كتبها الصديقان خلال 14 عامًا. هذه الرسائل ليست مجرّد وثائق شخصية، بل هي شهادة ضد التفاهة، وضد العابر والهش في العلاقات الإنسانية.

تُجسّد هذه المراسلات شراكة فكرية وروحية حقيقية: في المنفى والحنين، القلق والإبداع، اليأس والأمل، والموت والوداع. ليس هذا فقط أدب صداقة، بل هو مأثرة إنسانية خالدة.

2. “الصداقة والصديق” — أبو حيان التوحيدي

رسالة فلسفية عميقة، كتبها التوحيدي بأسلوبه الساحر، وتدور حول جوهر الصداقة وندرتها. يرى التوحيدي، من واقع تجربته، أن الصداقة الحقيقية نادرة جدًا، وأنها إن لم تُبْنَ على الوفاء والصدق، فلا معنى لها. وفي رأيه، العزلة خيرٌ من صحبة المنافقين أو المزورين.

يعبّر عن هذه القناعة بمرارة وشجن، وقد ذاق الغربة بكل وجوهها. حتى أنه — في لحظة من اليأس — أحرق كتبه. ومع أنني لا أتفق معه في كل ما ذهب إليه، إلا أنني أتفهم ألمه، وأحترم صدقه. وللكتاب في تراثنا مكانة مرموقة لا تُنكر.

ضد التفاهة… فيسبوك مرة أخرى

أعود أخيرًا إلى “فيسبوك” لأقول: ليس مطلوبًا أن يكون الفضاء الرقمي مكانًا للبلاغة والنخبوية، لكن من الجميل أن يكون، ما أمكن، مساحة مضادة للتفاهة. أن نحاول أن نكتب فيه — حتى ولو أحيانًا — كما كتب منيف وباشي، أو كما عبّر التوحيدي: بصدق، وأدب، ومحبة، وعمق إنساني

29.05.2025