الأرشيفوقفة عز

أبو علي حليحل المُجَبِر والمُسَحِر – نضال حمد

من الجليل الى مخيم عين الحلوة فالقبر، سيرة حياة مخيمية بانتظار عودة لم تتحقق.
عندما تهجرت عائلات بلدات وقرى ومدن فلسطين المحتلة الى لبنان قام بعض اللاجئين بتسجيل اسماءهم غير كاملة، مثلاً بدل كتابة الاسم الرباعي أو الثلاثي اكتفوا بكتابة الاسم الثنائي، فتحول الواحد منهم فجأة وفي لحظة من محمد محمود أحمد المحمد مثلاً الى محمد محمود أو محمد أحمد. هناك أيضاً من اللاجئين من نسبوا أنفسهم الى بلدات غير بلداتهم في الجليل وفلسطين. مثلاً هناك إخوة سجل كل واحد منهم اسمه بشكل مختلف وسجل أنه من القرية أو البلدة الفلانية، نسبة للنسبة الكبرى من اللاجئين الذين كانوا يتجمعون في ذلك المكان المعين بعد النكبة، حيث تصادف وجوده معهم بنفس المكان وقت التسجيل والإحصاء، فأصبح واحداً منهم بجرة قلم كما يقول المثل الشعبي.
يعني ممكن يكون الواحد من بلدة الصفصاف وشقيقه من بلدات طيطبة، قديثا أو علما والخ. هكذا كان حال البعض من آل حليحل في مخيم عين الحلوة بلبنان. كلهم في الأصل من بلدة قديثا قرب الصفصاف قضاء صفد في الجليل الأعلى الفلسطيني المحتل. قديثا التي لازالت ترقد على سفح جبل الجرمق هي بلدة جدتي (فاطمة اليوسف – الشاويشية – بنت الشاويش المعروف لأهل قديثا قبل النكبة). هي والدة أمي رحمها الله. أنظروا الى آل حليحل في مخيمات اللجوء في لبنان الآن فمنهم من هم من قديثا والصفصاف وطيطبة. لكن في الأصل كلهم من نفس الجذر والعائلة والبلدة.
تلك كانت مقدمة ضرورية للحديث عن بطل حكايتنا الراحل أبو علي حليحل أو أبو علي (المُجَبِر) أو (أبو علي المُسَحِر – المسحراتي). فقد عمل في المهنتين، لكنه ترك مهنة المسحراتي لسبب سأعود لاحقاً على ذكره في مقالتي هذه.
كان المرحوم واحداً من آل حليحل، لكنه ليس من الصفصاف وليس من قديثا فقد سجل نفسه من طيطبا. فأصبح من طيطبا كما ولو أنه سافر الى النرويج أو ألمانيا وحصل على لجوء انساني أو سياسي وفيما بعد قام بتغيير في سجله المدني بعد حصوله على الجنسية. لكن في لبنان لا جنسية ولا معاملة أخوية، بل هناك كم كبير من العنصرية والكراهية والطائفية والمذهبية. دفع الفلسطينيون في مخيمات لبنان ثمن صراعات الطوائف واللصوص والتجار. فقد استخدموا حجة من البعض لتشريع طائفيتهم وانعزاليتهم وعنصريتهم، ومن البعض الآخر لتشريع تحالفاتهم مع الصهاينة وإجرامهم بحق شعبنا.
سكن المرحوم أبو علي حليحل في مخيم عين الحلوة وتحديداً على الشارع الذي يصل الى النبعة وطلعة سيروب ومفرق الفيلات وطلعة كرم أبو نمر، ومنزل الشاعر المرحوم الأستاذ محمود صبحة. إذا تابعنا صعودنا عبر الحاجز مباشرة سنجد على اليمين موقع النبعة القديم، الآن هناك موقف للسيارات يمكن لشخص من الصفصاف من آل شريدي، لكن يقوم بحراسته ومسؤول عنه علي حليحل، وهو ليس إبن أبو علي حليحل بطل قصتنا. نجد أيضاً منزل الطيار (كتائبي من أعداء الفلسطينيين). ثم أمامنا مباشرة كرم أبو نمر وبعد مسافة نجد منزل العم أبو نزار، محيي الدين شريدي رحمه الله، تحته وادي ومغارة نسيت اسمها كنا في طفولتنا وصبانا نلهو عندها. على يمين بيت محي الدين نجد الطلعة الترابية المؤدية الى مخيم المية ومية وعلى يستارنا وتحت الطلعة شجرة الخروب الشهيرة (الخروبي). هكذا أذكر المنطقة. لكن الآن كل شيء تغير تماماً ولم يعد هناك شيء مما أتذكره في مخيلتي.
كان منزل الحاج أبو علي حليحل يقع بالقرب من منازل المرحوم ابراهيم السيد – أبو محمد (سعسع). وآل العينا -غنوم )علما) والآن منزل أبنا خالتي عطرة حمد رحمها الله أحمد وثائر عبدالله حمد (الصفصاف). فيما يعتبر البيت في مكان غير بعيد عن منزل آل الشرقاوي (الجش). بالمناسبة فإن آخر بيت فلسطيني هناك هو بيت أهل صديقي جمال العلعل _حليحل) من (قديثا) وبعده هناك جاجز الجيش اللبناني.
أبو علي المسحراتي والمجبراتي
إشتهر أبو علي حليحل بإتقانه مهنة تجبير الكسور، من الطب العربي. مارسها في المخيم منذ النكبة وحتى وفاته فكان معروفاً للجميع. تعرفه كل عائلات المخيم فقد مرت عليه مئات وربما آلاف الأيدي والأرجل التي تكسرت خلال سنوات الإقامة في لجوء مخيم عين الحلوة. قام بتجبيرها وإعادتها لوضعها الطبيعي. لكنه عمل كذلك في مهنة المسحراتي وهي مهنة تطوعية، يأخذ خلالها المسحر على عاتقه ايقاظ النائمين لتناول السحور في شهر رمضان المبارك. فيقوم بالدق على الطبلة دقات متقنة وفنية وينادي بأعلى الصوت وبطريقة مقبولة للسامع ومريحة للأذن. من كلمات المسحرين:”يا نايم وحد الدايم”، “قوموا لسحوركم إجا رمضان يزوركم”.
في بلاد المغرب العربي يسمى المُسِحِر أو المسحراتي بالنفار. يتلقى النفار أو المسحراتي بعض العطاءات والهدايا والأموال من الناس عند انتهاء شهر رمضان المبارك وقبل حلول يوم عيد الفطر.
قصة إعتزال أبو علي حليحل للتسحير
عندما كان الحاج أبو علي حليحل يعمل مسحراتياً في شهر رمضان الكريم وأثناء سيره ليلاً في أزقة خارته بالمخيم، للقيام بعمله بعد منتصف الليل وقبل الفجر، هاجمته مجموعة من الكلاب الضالة والجائعة. لا أعرف كيف انتهت المواجهة بينه وبينها وهل تمكنت الكلاب من عضه أم لا. لكن ما أعرفه أنه منذ تلك الليلة التاريخية والمرعبة بالنسبة له ترك التسحير وأبقى فقط على التجبير.
بالمناسبة هذه القصة تذكرني بحادثة أخرى عن موت كلب من كلاب المنطقة كان يعرفه الشاعر محمود صبحة – أبو شوقي رحمه الله. فذات يوم رأى الشاعر من نافذة بيته المطل على طريق المخيم والنبعة مجموعة أطفال يقومون بتشييع الكلب. على إثر ذلك كتب قصيدة معروفة يرثي فيها الكلب ويهجو الذي قتله.
توفي أبو علي حليحل في مخيم عين الحلوة كما الغالبية الساحقة من أبناء جيله، جيل نكبة شعب فلسطين سنة 1948. فله الرحمة وهو الآن تحت التراب بين يدي الله.
نضال حمد
29-7-2021
أبو علي حليحل المُجَبِر والمُسَحِر – نضال حمد