الأرشيفوقفة عز

أحمد خضر المقدح، شهيد فوق العادة – نضال حمد

ولد شهيدنا أحمد المقدح في مخيم عين الحلوة ومنذ شب قليلاً أخذ يحلم بفلسطين الكاملة وبالسُبُل وأقصر الطُرُق للعودة الى الغابسية، مسقط رأس ذويه في فلسطين المحتلة. تعلم في مدارس الانروا في المخيم ثم تدرب في معسكراته وقواعده. صار فدائياً كما غالبية أبناء جيله في مخيم عين الحلوة ومخيمات لبنان. أعجبته فكرة وشعار تحرير كامل التراب الفلسطيني والسلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية… والمقاومة المسلحة وحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، والكفاح المسلح هم الممثل الشرعي والوحيد .. الخ.. كما وأطربه صوت الحقيقة كل الحقيقة للجماهير، شعار مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي اطلقه الشهيد الأديب والمبدع غسان كنفاني. في مرحلة الفتوة أنشد مع رفاقه ضمن صفوف الشبيبة التي جمعتهم صغاراً “يا زهرة النيران في ليل الجليل، إما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل”… تربى كما رفيقه القائد الميداني زاهر السعدي – هاني الشبل – على صوت الزعيم الحكيم جورج حبش، الرفيق الملهم، الحكيم الثوري العربي الفلسطيني بصوته الهادر، صوت جيلنا الفدائي، صوت شعبنا وأمتنا وثورتنا ومقاومتنا وعزتنا ومخيماتنا. كان الحكيم مثال حيلنا، المثال الثوري الأعلى… كانت الجبهة الشعبية مكان أحمد وجيل كامل من الفلسطينينين، مكانه الطبيعي ومكان كل رافض للحلول السلمية والمشاريع الاستسلامية. بالمناسبى وفي هذه الأيام والظروف كلني أمل أن الجبهة ستبقى كذلك.. ففي هذه الأيام الفلسطينية العصيبة والصعبة والدقيقة لا مجال للخطأ… لذا أمل أنها سوف تتجاوز قصة الانتخابات ومشاركتها بها، عبر اقناع الرفاق في تنظيم الجبهة داخل فلسطين المحتلة وفي السجون والمعتقلات الصهيونية، وعلى رأسهم أمين عام الجبهة القائد الأسير الفذ أحمد سعدات بخطأ المشاركة في الانتخابات، حتى ولو كان للجبهة رؤيتها وشعارها الذي ستخوض به الانتخابات وهو حسب رؤيتها شعارٌ مغايرٌ لشعار أوسلو. لا يوجد انسان على وجه البسيطة يمكنه المزايدة على الأسرى لكن من حق كل إنسان فلسطيني وصديق للجبهة أن يرسل لها النصح… وأن يختلف معها في موضوع معين، خاصة موضوع هام كما هي الانتخابات السلطوية التشرعيية الاوسلوية التي تمس جوهر وصميم الثوابت الفلسطينية.

بداية الغزو الصهيوني واحتلال لبنان صيف سنة 1982، توطدت علاقة الشهيد أحمد المقدح مع الشهيد زاهر السعدي فقاما بتأسيس مجموعة “محكمة الشعب” الجناح العسكري السريّ للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحت الاحتلال في مخيم عين الحلوة. مارسا العمل السريّ واستهدفا العملاء وقوات الاحتلال الصهيوني كما كان حال مجموعات “حتماً سنلتقي” التابعة لجبهة التحرير الفلسطينية بقيادة الأمين العام الشهيد طلعت يعقوب.

من أهم العمليات التي خططا لها ونفذاها كانت عملية تدمير برج المراقبة التابع للعدو على تلة جبل الحليب المطلة على مخيم عين الحلوة، حيث قتل وجرح عدد من جنود العدو الصهيوني… وحيث تناثرت وتطايرت أشلاء ثلاثة من الجنود الصهاينة في المكان المذكور. لم ينسَ الصهاينة لأحمد ولزاهر ما صنعاه وفعلاه بجنودهم في جبل الحليب، إذ يعتقد بعض رفاق واصدقاء أحمد بأن الغارة الجوية الصهيونية التي استشهد فيها أحمد المقدح في مخيم عين الحلوة، كانت عملية اغتيال وتصفية له. وأن نفس الاحتلال الصهيوني أوعز لعملائه بإغتيال الشهيد زاهر السعدي في حي الرأس الأحمر بمخيم عين الحلوة أيضاً.

كل من عرف أحمد المقدح الشاب الوسيم والقوي والرفيق المرهف الحس والفدائي المثقف الثوري، الذي برز سريعاً بعد الاحتلال والغزو. وهو ابن ال23 عاماً يوم استشهاده، كان يرى فيه مشروع كادر فدائي ميداني. لطالما ذكرني أمثال الشهداء أحمد وزاهر وأبو سمرة وغيرهم من أبطال المخيم الأشاوس بالرفيقين الشهيدين ماهر اليماني وأبو كفاح فهد.

كان مع الشهيد زاهر السعدي من قادة المجموعات التابعة للجبهة الشعبية، العاملة في ظل الإحتلال، التي قاومته. كما أنها قامت بعدد كبير من العمليات البطولية ضد الإحتلال وعملاؤه حتى تاريخ اندحاره عن المخيم وصيدا عام 1985. تلك المجموعات القتالية الفدائية سواء “محكمة الشعب” أو “حتماً سنلتقي” أعادت لشعبنا الجريح بسبب الغزو وتخاذل البعض. كما بسبب فرار البعض الآخر مثل الحاج اسماعيل وزبانيته وأشباهه سواء بقرار من قيادتهم أو بدون قرار، أعادت له كبرياؤه وعنفوانه وثقته بنفسه وبمقاتليه وفدائييه، حيث كانت إهتزت كثيراً بسبب نتائج الغزو والاحتلال سنة 1982.

أحمد خضر المقدح عمل بجد ومثابرة من أجل تحقيق أمنيات شعبه بالعودة والتحرير والنصر. عمل هو ورفاقه الشهداء ورفاقه الآخرين الأحياء. منهم من كانوا أسرى ومعتقلين، ومنهم من أصيبوا بجراح مختلفة تركت على أجسادهم عاهات مستديمة، ومنهم من لازالوا على قيد الحياة، يراقبون الوضع الذي وصلت إليه ثورة العودة والخيام والمخيمات، ثورة تحرير الأرض والانسان، ثورة، ثورة… ثورة حتى النصر، التي تحولت الى ثروة بالنسبة للبعض، ومصدر نهب وسلب وارتزاق واستبداد واستعباد بإسم فلسطين .. آه يا فلسطين كم طعنك الأوباش في ظهرك وفي وجهك… وكم تسببوا لك بالأذى ولشعبنا بالخجل. هؤلاء وأولائك الذين استنسختهم شبه الثورة في عصر القرود لا في زمن النار والبارود… تلك الثورة التي ماعادت تشبه ثورة الشهداء والفدائيين ولا ثورة المخيمات واللاجئين. لأنها الآن تشبه شركة نصابين، عصابة لصوص ومنافقين ومحتالين ومنتفعين، مافيا قتلة ومأجورين ومارقين، قبيلة همجية أو زريبة لتجميع البهائم البشرية، تحتوي وتحوي كل منحطي وسفلة وحثالة شعبنا وقضيتنا ومسيرتنا التي كانت ثورية وحولها اللصوص والأوغاد الى مسيرة انحدار مأساوية.

يا للفرق الشاسع بين زمن ثورة أنجبت الشهداء أحمد المقدح وزاهر ومنير السعدي وسهيل خريبي وعبد حمد وشحادة أيوب وقاسم حجير وشربل البني ومصطفى ورد ومحمود الشامي ويوسف مسعد وغسان كايد ونظمي المجذوب وحاتم حجير و الختيار القائد أبو صالح الأسدي وآلاف الشهداء الآخرين… وبين ثورة لم يتبقى منها سوى اسمها.. وبين زمن الفدائيين الحقيقيين وزمن أشباه الفدائيين من المسلحين مغيبي الانتماء والولاء لفلسطين أولاً وأخيراً… زمن الذين ينتمون لعصابات استولت على الاسم والعنوان، عصابات الوطن المحتل والمنفى.

يا رفاقي الشهداء هي الآن فقط بقايا ثورة مغدورة نحرها بالسكاكين أصحاب الحياة مفاوضات وقبل ذلك رافعي شعار القرار الفلسطيني المستقل وغصن الزيتون.. هي بقايا لبقايا ونتاج مدرسة الفساد والافساد، مدرسة شراء الذمم والضمائر والعقول وتغييب الوعي والقيّم والمبادئ. مدرسة دمرت كل التضحايات والانجازات وحولت الفدائيين الى وقائيين فمهزومين ومستسلمين ومنسقين أمنيين (يعني بكل لغات الكون “عملاء”) وشرطة على غرار جيش عملاء حداد ولحد في الجنوب اللبناني قبل التحرير سنة 2000.

في الليلة الظلماء يفتقد البدر، فحين يغيب البدر تدمس ظلاماً حياة الناس وتسود حلكة الظلام وتطفو طحالب الفساد والهزيمة والانحراف على سطح بحرنا الثوري الفدائي وفوق مخيمنا الفلسطيني. الحمدلله الذي مَنَّ عليك يا أحمد بالشهادة المشرفة قبل أن ترى عصر الانحطاط والسقوط والعار في فلسطين وشتاتها. قبل أن تشاهد بأم عينيك عصر سقوط ثورتنا ومنظمتنا، التي لاعادت ممثل شرعي ولا وحيد ولا صاحبة قرار مستقل.. ذاك القرار المستقل الذي كادت تُباد المخيمات الفلسطينية في لبنان تحته كشعار سياسي وميداني للقيادة المتنفذة في ذلك الوقت بمنظمة التحرير الفلسطينية. فنفس أولائك الذين إبتدعوا ذاك الشعار هم كانوا أول من تخلى عنه حين رهنوا القرار “للي بيّسوى وللي ما بيّسوى” كما كانت تقول سِتاتنا يعني جَدَاتنا. ثم أنتهوا منسقين أمنيين مع الاحتلال ويقضون الحياة مفاوضات ونكران للنضال وللتضحيات وللعودة وللمخيمات.

في خضم الصراع وتحت سحب اللهب وفي قلب النيران وبين القنابل والرصاص وفي المخيم عاش الفتى الثائر أحمد خضر المقدح،كما مئات آخرين من جيله وأبناء وبنات المخيمات… عاش مشروعاً للتضحية والفداء والتواضع والعمل الميداني. عمل في وقت سابق كان فيه الشريف معروفاً والسحيج والشبيح معروفاً.. كان فيه الرعاع والشبيحة والسحيجة وجنرالات زمن ما بعد أوسلة الثورة الفلسطينية، مختصون بالاستعراض في التظاهرات والتجمعات كما في الأفراح والأتراح، كذلك عبر الوقوف الاستعراضي بأسلحتهم على أبواب المستشفيات والجبانات، بانتظار وصول الجرحى من الفدائيين المقاتلين أو جثامين الشهداء. هناك بعيداً عن خطوط المواجهة وجبهات القتال. كانوا يعدون مسارحهم ويعرضون مسرحياتهم. أما الآن فتعج بهم ما كانت تسمى منظمة التحرير وما كانت تسمى حركة التحرير والدولة المسخ تحت الاحتلال، وليدة صفقة القرن وحصاد ما بعد بعد اتفاقية أوسلو، الدولة التي تسمى فلسطين ولا شيء فيها يشبه الدول.. على كل حال لهم فلسطينهم ولنا يا رفيقي فلسطيننا.

هل كنت يا رفيق أحمد تتوقع ذلك؟

بالتأكيد لا… ولا حتى في أسوأ الكوابيس. مثلك – مثلنا ومثل رفاقك، رفاقنا الشهداء لا يقبلون بذلك وسوف يثوروا على هذا الواقع السوداوي المأساوي. المسألة مسألة وقت وشرارة فقط لا غير.

يا أحمد كل هذا السواد الحالك إجتاح منظمتنا فأصبحت لا للتحرير ولا للعودة ولا للكفاح، غدت منظمة للاستسلام والتطبيع والتسول من كل حدب وصوب. أصبحت المنظمة التي أسسها الراحل الكبير الزعيم أحمد الشقيري، والتي كانت الممثل الشرعي والوحيد جسراً للتطبيع العربي والعالمي مع العدو. لم تعد جامعة لشعبنا ولا موحدة لقواه. لم تعد منظمة الحكيم وكنفاني واليماني وطلعت يعقوب وأبو جهاد الوزير وماجد أبو شرار وأبو صالح الأسدي وبلال الأوسط وعبدالله صيام وكل شهداء فلسطين. صارت منظمة المستسلمين الفلسطينيين والمتفرغين أو الموظفين الذين يتلقون مرتباتهم بالفيزا كارت ووفق الكونترول الأمريكي. منظمة موديرن فعلت فيها القيادة المستسلمة فعلها الإجرامي.

ماذا قال عن الشهيد أحمد خضر المقدح رفاقه ورفيقاته:

أحمد المقدح .. صعب أن نختصر تاريخه بكلمات وهو الشهيد والقائد والإنسان والمناضل بحق

أحمد المقدح في هذا الزمن الرديئ … ما أحوجنا وأحوج مخيمنا لرجال… رجال  … من طرازك.

نحن بحاجة لقيادة تصون وتحمي شعبها لا أشباه رجال تدعي القيادة زوراً وبهتاناً.

من رفيقة له: “من فينا ما بيذكر أحمد المقدح ذاك الشاب الجميل الخلوق. صدقاً كم نحن بحاجة لأبطال كأحمد المقدح. أذكره كحلم جميل وبعيد. لقد عادت بنا الذاكرة الى الزمن النظيف كأنه البارحة استشهد لن ننساه أبداً”.

أحمد أكبر من الكلمات. قاتل بصمت وسواه أخذ المكاسب.

أحمد المقدح موجود دائما بيننا في حديثنا وبين كلماتنا… أنت وجميع الشهداء الشرفاء .

يا زينة الشباب وفخر المناضلين.

كان أخاً وصديقاً ورفيق الدرب ونحن على العهد باقون.

الرحمة للشهداء..و لابد من أن نذكر ونجل ونستذكر دائما المناضلين الأحياء الذين ما زالوا بيننا بكل التقدير والفخر علي تضحياتهم، أمثال المناضل …… رفيق الشهداء وضميرنا الذي دائما يصحوا ليذكرنا بقضيتنا وعدالتها وتضحيات رفاقه، الذين لا نعرفهم ولكن هم يعرفوننا، وضحوا من أجلنا.. من أجل كل فلسطيني يحمل بوصلة واضحة ولا تخطئ.

سيذكرني قومي اذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر… في ذكرى استشهادك… بهذا البيت الشعري نذكرك… بطلاً…ا لله يرحم ترابك يا أحمد… سيذكرني قومي اذا جد جدهم … وفي الليله الظلماء يفتقد البدر.

ختاماً يا أيها الأوفياء لشهداء شعبكم وثورتكم وأمتكم وقضيتكم أقول لكم: الشهداء لا يموتون لأنهم يحيون معنا وفي المسيرة الطويلة ولأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

بقلم نضال حمد – من كتاب شهداء على درب تحرير فلسطين-.

10-3-2021

أحمد خضر المقدح 1964 – 1987 – شهيد فوق العادة