الأرشيفعربي وعالمي

أربعة أيّام في كريت !! – رشاد أبوشاور

بعد ثلاثة وعشرين عاماً عدت إلي كريت، الجزيرة اليونانيّة العريقة الحضارة، والتي هي جارتنا علي المتوسّط، ويتداخل تاريخها وجغرافيتها بتاريخنا وجغرّافيتنا.
لم أزرها طوعاً قبل ثلاثة وعشرين عاماً، برغبة سياحيّة يدفعني إليها فضول حب الاطّلاع على أرض، وأساطير، وعادات، لجيران طالما نشأت بيننا وبينهم نحن العرب واليونان بعّامة، لا جزرها حسب.. صلات تجاريّة، وثقافيّة، وحضاريّة حميمة.
زرتها على متن واحدة من السفن_ سولفرين_ اليونانيّة القبرصية التي حملتنا كرهاً بعد حرب طالت عام 82 لم تهّب فيها جيوش دول العرب لنجدتنا، نحن العرب اللبنانيين والفلسطينيين، مّما أدّى إلي إبرام اتفاقيّة رحيلنا، أو ترحيلنا، حتي لاُتدمّر بيروت العريقة على رؤوس أهلها الشجعان.
لا، لم تكن زيارة، ولكنها مجرّد مرور عابر حزين بجوار شواطئها، ورسو السفينة للتموّن بالزاد لألف ومئة فلسطيني، وملء الخزانات بالوقود الكافي لاستئناف الرحلة إلى ميناء (بنزرت) التونسي…
لنقل إنني عدت إلي (كريت)، وهذه العودة تختلف، فأنا هنا ضيف باسم فلسطين، وفدت لقول كلمة بمناسبة تكريم موسيقار اليونان الكريتي العالمي ميكيس ثيودراكيس، وبلوغه الثمانين.
مثل غيري سمعت موسيقى (زوربا)، وانشرحت نفسي برقص (أنطوني كوين) الذي بدا كريتيّاً قحّاً، إبناً للطبيعة والبساطة، وصاحب فلسفة تنبع من سعة ورحابة أفق الإنسان المدرك لجوهر رحلة الإنسان، ومروره الخاطف في هذه الحياة الدنيا.
كازانتزاكي الروائي اليوناني العملاّق أبدع (زوربا اليوناني)، وثيودراكيس حوّل الكلام والمشاهد الي رقصة ل(زوربا) في الفيلم الشهير، ثمّ حولها إلى (أوبرا) و(باليه)، بالموسيقي ملأ فضاء العالم بروح اليونان عبر جسد (زوربا( البدائي العفوي.
منذ سنين بعيدة تابعت نضالات ثيودراكيس، نزوله إلى الشارع في مقدمة الجماهير اليونانية التي تصدّت لحكم الكولونيلات الانقلابيين المستبدين، وتعرّضه لمحاولة القتل، حتى إن القتلة المأجورين اعتدوا عليه في الشارع وهشّموا رأسه. آنذاك رأى العالم جسد ثيودراكيس ممدّداً على الرصيف، ثمّ تابع نهوضه واستئنافه قيادة التظاهرات، وتعرّضه للسجن، ومن ثمّ الهجرة من وطنه، والانخراط في العمل السياسي اليومي رغم بعده عن وطنه، إلي أن سقط نظام الكولونيلات، وعادت اليونان حرّة…
تأملت جبال كريت التي تبدو بركانيّة وحشيّة، وغاباتها الخضراء المبهجة، وبحرها الشديد الزرقة والبهاء، ووصلت مدينة (هاينا) مساء 28 تمّوز، بعد رحلة قصيرة من مطار (أثينا) حيث استقبلني الإخوان (أبو الفهد) و(صبري).
كريت تحتفي بابنها بحضور ضيوف وفدوا من الدول الاسكندنافيّة، وألمانيا، وهولندا، و..أنا العربي الوحيد، الذي سيحيي روح ثيودراكيس المنتميّة إلي قضايا حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة.
انحياز هذا الفنّان الكبير إلي كل قضايا الحريّة لا يحتاج لسوق البراهين، فهو مع (فلسطين) وشعبها، وهو الذي حضر إلي (بيروت) عام ال81، وعزف موسيقي النشيد الوطني الفلسطيني الذي (وزّعه) موسيقيّاً معلناً زفّ العروس (اليونانيّة) إلى (الأمير) الفلسطيني، وكفاح جنوب أفريقيا، والانحياز لصوت مانديلاّ العظيم، وإدانة العدوان علي العراق، وزيارة العراق بعد العدوان الثلاثيني، ووصفه لبوش بأنه هولاكو وهتلر العصر…
فنّان عملاق شجاع، اختط لنفسه طريقاً ينبع من حبّه لوطنه: اليونان، ومن رؤيته لمصلحة وطنه وشعبه، وهذا ما قاده للخروج من صفوف الحزب الشيوعي اليوناني، وتأسيسه لاتجاه يساري ماركسي مستقّل لا يقبل بالألاعيب السياسيّة، والمناورات، وقد دفع ثمن استقلاليته بوعي تام…
في اليوم الثالث( للسيمينار) الذي دُرست فيه أعماله الموسيقيّة : الأغاني، الأناشيد، السيمفونيّات، الباليهات، الأوبرات، جاء دور ثيودراكيس للحديث…
رغم أن الجلسة تواصلت من العاشرة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر، فقد تحدّث في كلمة مطوّلة عن تاريخ اليونان المعاصر: الحرب الباردة، انقلاب الكولونيلات، صراعات اليمين واليسار، رؤيته لمسيرة الحزب الشيوعي اليوناني وتقييمه لدوره وممارساته، أخلاقيّات العمل السياسي في اليونان.
فنّان لا يكتفي بالتأليف والتلحين، وكتابة الشعر.. هو شاعر معروف جيداً في اليونان، ودوره كخطيب مفوّه محرّض على حّب الحريّة والتضحية من أجلها. ثيودراكيس منحته الطبيعة قامة ضخمة باسقة ببنية قويّة لم تحنها الثمانون رغم أثقالها وهمومها…
يقول: كنت أعرف أن الجنرالات يريدون حذفي من ذاكرة الأجيال اليونانيّة الجديدة، فعملت ليل نهار وأنا في المنفى الباريسي على كتابة أعمال موسيقيّة ستدهش اليونانيين. كنت أريد أن أقول لهم: انظروا ماذا كنت أعّد لكم وأنا في المنفى. كنت أعرف أن الحريّة آتية والجنرالات راحلون، لذا عملت بلا كلل، وعندما جاءت اللحظة، عدت إلي اليونان بكّل ما أعددته من موسيقي…
يقول بحماسة : كيسنجر عندما رأى ما يفعله المثقفون والمبدعون اليونانيون، قال: يجب أن نقوم بالهجوم المعاكس عليهم،قبل استفحال خطرهم !…
في ملعب كرة القدم في مدينة خاينا أقيمت الحفلة الموسيقيّة، في جو شعبي مفرح.الفنّان مزهو بهذه الحفاوة، بفنّه الجماهيري الذي يذهب إلي الناس، باستقبال الأبطال، بصيحات(هورّا) الروسيّة التي أطلقها وفد مسرح (البولشوي)الموسكوفي الذي قلّد ثيودراكيس أعلى وسام ثقافي في روسيا نيابة عن الرئيس بوتين، والذي حضر بطائرة خاصة من موسكو.
جامعة خاينا في طقوس بسيطة وحميمة تمنح ثيودراكيس الدكتوراة التقديريّة لكّل ما قدّم، ويقف ثيودراكيس فيتقدّم شاب أسمر – إنهم يشبهوننا، متوسطيون مثلنا- ويبدأ بصوت قوي جبلي في غناء مواويل بدون موسيقى، كلّها مديح لهذا العملاق، الموسيقار، المناضل، عاشق الحريّة، ابن كريت، فيميل ثيودراكيس بقامته الضخمة العالية على الشاب، ويأخذه بين ذراعيه معانقاً.
اقترب منّي الرجل الذي كان يرتدي الزّي الكريتي التقليدي وهمس لي ونحن نأكل الحلوى : أخي الفلسطيني، ليس ثيودراكيس فقط معكم، أخرج إلي الشارع وسترى أن كل كريتي معكم. نحن قاتلنا أربعمائة سنة من أجل الحريّة، نحن نحّب عنادكم، كل اليونانيين معكم…
في الطائرة العائدة بنا من كريت إلي أثينا رأيته يجلس مرهقاً، ابتسمت له وحييته فابتسم بتعب، وأحني رأسه فلم أثقل عليه بتذكيره بالوعد باللقاء معه.
رجل في الثمانين، بعد كل هذا التعب، وهذا الإبداع، من حقهّ أن يُكّرم كل هذا التكريم، أن يعتّز به وطنه، ويكرّمه شعبه، بل الإنسانية كلها..
القدس العربي
2005/08/17

رحل الموسيقار العالمي يوم الخميس 2أيلول 2021عن عمر ناهز السادسة والتسعين. لقد تشرفت بأن كنت الفلسطيني والعربي الوحيد الذي شارك في احتفالية تكريمه قبل 16عاما، وقدمت كلمة باسم فلسطين، وعشت أربعة أيام مدهشة في كريت التي يعود نسب تيودراكيس إليها، والتي يعتز أهلها بقربهم من شعب فلسطين.

الفنان الثائر التقدمي صديق فلسطين، وجنوب أفريقيا، والمقاوم لدكتاتورية الجنرالات رحل تاركا إرثا موسيقيا، وشعريا، وفكريا سيبقى ملهما لمقاومة الشعوب المظلومة، ولكل فنّان ومثقف جاد يؤمن بحقوق الشعوب في الحياة الحرّة الكريمة.