بساط الريح

أسلوبان أو منهجان في التحريض والتعبئة – منير شفيق


الأسلوب، أو المنهج الأول تمثل في المبالغة والتهويل في وصف المؤامرات والمخططات التي تُعَدّ ضدّ الأمّة العربية عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، حتى تحسب أنك أمام خطر داهم لا سبيل إلى مواجهته إلاّ بالصمود والتضحية دون أمل في انتصار.

من يراجِع أغلب البيانات التي كانت تصدر من فصائل المقاومة في الساحة الفلسطينية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى اليوم سيجدها تعجّ بتلك المبالغة وذلك التهويل. الأمر الذي يوجب أن تتشاءم وتقطّب الجبين.

أما الأسلوب، أو المنهج الثاني فقد تمثل في أن يُقدّم تحليل للأوضاع يُبرز نقاط ضعف لدى مدبّري تلك المؤامرات والمخططات مما يسمح بمواجهة منتصرة عليهم. أو في الأقل عرقلتهم إلى حدّ ملحوظ. ومن ثم أصبح من الشاذ أن تكون متفائلاً لا ترى الوضع سواداً في سوادٍ في سواد، كما يفعل الأسلوب أو المنهج الأول.

فالسوداوية في قراءة الصورة كان يغلب على الكثيرين، تحت حجّة الواقعية، وعدم خداع النفس وتغليب الأمانيّ. والغريب أنهم كانوا كفصائل يتقدمون ويشتد ساعدهم. وكانت المؤامرات تفشل أو تدخل مآزقها، ومع ذلك تظل السوداوية هي السمة الملازمة لتحليلاتهم حول الأوضاع كما بياناتهم وخطاباتهم.

طبعاً لم يسبق أن مرّ وضع لا يحمل مخاطر ومآزق ولا يُواجِه مؤامرات. ومن ثم كان دائماً ثمة وقائع تدعم السوداوية وتقود إلى التشاؤم. ولكن المشكلة كانت في التهويل والمبالغة من جهة وكانت في عدم البحث عن الشقوق والثغرات في جبهة العدّو أو الخصم. مما يؤدي إلى درجة من التفاؤل من خلال تحليل يسمح بإمكان الانتصار ولو جزئياً.

وجاء عهد محمود عباس الذي تبنّى استراتيجية المفاوضات وقمع المقاومة ومناهضة الانتفاضة، ليضيف المزيد من عوامل تشجيع قراءة الأحداث بأسلوب ومنهج إبراز قوّة المؤامرات والمخططات كما إبراز المخاطر الداهمة وتغليب القراءة التي يغلب عليها التشاؤم العام بالنسبة إلى الانتفاضة والموقف منها ناهيك عن قراءة الوضعين العربي والفلسطيني.

على أن متغيّرات هامّة وأساسية حدثت على مستوى موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية يفترض بها إدخال تعديلات جوهرية وأساسية على كلٍ من ذيْنك الأسلوب أو المنهج في قراءة الأوضاع والسياسات واتجاهات الأحداث.

وإذا لم تُلحظ هذه المتغيّرات عند التعاطي مع انتفاضة القدس وكيفية تقدير الموقف ومن ثم التحريض والتبعئة في تناولها فسوف يصبح الخلل أكبر حين يستمر استخدام الأسلوب أو المنهج الأول السابق في قراءة موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية، كما في تقدير وضع الكيان الصهيوني الراهن. أما السبب فيرجع إلى الفارق بين أن نتعامل مع الانتفاضة بأنها في حالة الهجوم على العدّو وتستهدف إنزال هزيمة به من جهة أو التعامل معها من جهة أخرى باعتبارها في حالة الدفاع وتُواجِه مؤامرة لسحقها وتصفية القضية الفلسطينية.

لقد جرت الإشارة إلى أن أغلب فصائل المقاومة الفلسطينية مالت منذ النشأة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى اتفاق أوسلو وما بعده وحتى اليوم، إلى التعامل مع الوضع الفلسطيني بأنه يواجه مؤامرة لسحق ثورته ومقاومته وتصفية قضيته. ومن ثم ما علينا إلاّ أن نكون في مواقع الصمود والدفاع أو في مواقع تقديم التنازلات والتخاذل. الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة الخطأ في السياسة والممارسة إذا كانت موازين القوى وتقدير الموقف يسمحان للانتفاضة بأن تكون في حالة هجوم، ويجب أن تُعامَل بروح هجومية تضع نصب عينيها الانتصار.

إن الأسلوب أو المنهج في قراءة الأوضاع حين يتجه إلى المبالغة بسوء الأوضاع، وبالمخاطر التي تواجه النضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية وإشاعة حالة من اليأس سواء أقُصدَ ذلك أم لم يُقصد، لأن المقدّمات تحتم نتائجها، ولو لم يقصد مقدمها أن يُعمّم اليأس والقنوط أي النتائج المترتبّة عنها.

هذا الأسلوب والمنهج كان خاطئاً حين لم يبحث عن الشقوق التي يمكن أن ينْفَذَ منها، أو نقاط الضعف التي تتضمنها المؤامرة. وهو في حالة الدفاع والعدّو في حالة الهجوم. لأنه لم يساعد على الصمود والإفلات حين لم يُبّقّ أمام المُدافِع غير مجرّد الصمود والحفاظ على المبدأ من دون إبقاء كوّة أمل بإمكان عرقلة المؤامرة والإفلات ولو المؤقت منها من أجل جولة جديدة في ظروف جديدة. بل ساعد على المضيّ بطريق التنازلات والمفاوضات.

يجب أن نعي أن هذا الأسلوب أو المنهج ولنصطلح على تسميته الأسلوب أو المنهج الذي يُسّوِّد الأوضاع، أو الصورة، يؤدّي، ولو لم يقصد، إلى التشاؤم ولا تنفع دعوته إلى الصمود والمواجهة. لأن نتائج مقدّماته تؤدي إلى تثبيط الهمم هروباً من المواجهة أو تقديماً للتنازلات.

هذا الأسلوب أو المنهج راح يتعاطى مع انتفاضة القدس باعتبارها مؤامرة لسحق وتصفية القضية فيما الانتفاضة انطلقت للهجوم على قرار تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى ثم انتقلت بعد إحباطه إلى الهجوم على الاحتلال والإستيطان وهو ما يفعله شبابها وشاباتها وذووهم من أمهات وآباء، كما الألوف المشاركة في الجنازات منذ سبعة أشهر. وقد راحوا يتحدّون الإعدامات في الشوارع ويضربون عرض الحائط بكل الداعين إلى وقف الانتفاضة أو المتردّدين، أو المنسقين مع العدّو ضدّها.

فالمطلوب اليوم على ضوء متغيّرات موازين القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني وعلى ضوء انتقال انتفاضة القدس أن يختلف الأسلوب أو المنهج الذي نتعاطى به معها عن الأسلوب أو المنهج السابقيْن. وذلك بالتشديد على نقاط الضعف التي يتسّم بها وضع نتنياهو وهو المعزول دولياً. وجيشه المهزوم في أربع حروب، فضلاً عن نقاط ضعف أخرى. كما قراءة ضعف موقف محمود عباس وفشل سياساته. مما سيعيد بناء المعادلة الفلسطينية في مصلحة الانتفاضة.

فالانتفاضة أصبحت القاطرة التي يجب أن تقود إلى الوحدة الوطنية من خلال الانخراط فيها وصولاً إلى تعزيزها بتحرّكات شعبية واسعة تتحوّل إلى عصيان مدني سلمي لا يتراجع قبل أن يدْحَر الاحتلال وتفكك المستوطنات من القدس والضفة الغربية ويطلق كل الأسرى ويفك الحصار عن قطاع غزة. وبلا قيدٍ أو شرط. وهو ما يجب اعتباره المشروع الوطني الذي يمكن أن يوحّد كل القوى تحت أهدافه وفي ظل استراتيجية الانتفاضة التي انطلقت منذ سبعة أشهر.

ومن ثم لا يجوز أن يختلف أحد الآن حول ماذا يجب أن يكون بعد دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة من خلال استراتيجية انتفاضة القدس. فبعد ذلك لكل حادث حديث. وإذا كان لا بدّ من الاختلاف حول ما يجب أن يكون. فمن جهة يُترَك للشعب ليُقرّر، ومن جهة ليكن الاختلاف لاحقاً وليس الآن.

اترك تعليقاً