الأرشيفمن هنا وهناك

أمريكا وروسيا وأوروبا بعد كورونا – منير شفيق

 

إذا كان الوجه الرئيسي للصراع الدولي بعد كورونا متجهاً نحو المواجهة بين أمريكا والصين، فهل سيأخذ الشكل الذي هو عليه الآن في زمن كورونا، وكان عليه أيضاً قبلها؟ أي مواجهة أمريكية- صينية كأنها مواجهة بين ملاكمين على حلبة، فيما الدول الكبرى الأخرى في موقع المشجع أو المحايد أو المؤيد، بصورة غير مباشرة، وفيما الصراعات الإقليمية لا سيما في منطقتنا العربية- الإيرانية- التركية لا علاقة لها مباشرة بالملاكمين، وهما يكيلان الضربات لبعضهما البعض. وكذلك الحال في الصراعات الإقليمية الأخرى.

 

ينقسم العالم في الحروب العالمية، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكما في الحرب الباردة العالمية، إلى حلفين وجبهتين، وفي بعضها تكتل ثالث (الحرب الباردة). أما أن تندلع مقدمات حرب عالمية بين عملاقين عالميين كأنهما في حلبة ملاكمة، وباقي العالم مهتم بشؤونه وقضاياه، أو يلعب دور المشاهدين في مباراة الملاكمة، فهذا من العجب العجاب والمخالف لسنن الحروب العالمية، ناهيك عن الحرب التي تشنها أمريكا على إيران لحساب الكيان الصهيوني، وقد ذهبت إلى أبعد مدى.

 

الحرب العالمية بين أمريكا والصين لم تندلع بعد، لا من الناحية العسكرية، ولا من ناحية التهيئة الاستراتيجية والتكتيكية لها، لا سيما من جهة بناء التحالفات وتحضير الجبهات، الأمر الذي يطرح السؤال: هل ستبدأ بعد كورونا مرحلة التهيئة الاستراتيجية والتكتيكية من ناحية بناء الأحلاف وتحضير الجبهات، أم ستستمر على سمة صراع ملاكمين على حلبة في ظل قطبية متعددة تتسم بالسيولة والفوضى وازدواجية العلاقات؟

 

بالنسبة إلى هذا التساؤل فإن دونالد ترامب هو المسؤول عنه، وقد كان من المولعين بالملاكمة، ويُقال إنه رعى بعض مبارياتها. طبعاً يفترض ألاّ تكون لهذا علاقة بإدارته الصراع مع الصين، لأن له علاقة بسياسات ترامب العامة التي راحت تشتبك مع ألمانيا وفرنسا وحتى بريطانيا، في موضوع المشاركة المالية المرهقة في حلف الناتو، مما يتطلب المسّ بموازنات الدول الثلاث، مقابل ما تقدمه أمريكا من حماية لأوروبا. وهو ما طبقه بفظاظة، أيضاً، مع المملكة السعودية، إذ راح يبتزها مالياً ابتزازاً فاضحاً، مقابل ما يدعيه من حماية أمريكا لها. وهو ما فعله، بصورة أقل فظاظة مع دول الخليج ومع كل حلفاء أمريكا سابقاً. وهو ما فعله أيضاً بالتعامل المالي الأمريكي مع المؤسسات الدولية، وهيئة الأمم من حيث تخفيض المساهمة المالية الأمريكية، أو سحبها كلياً، كما فعل مؤخراً مع منظمة الصحة العالمية.

 

أراد ترامب من ذلك كله أن يحسّن الوضع الاقتصادي الداخلي الأمريكي، ليخدم هدفه الأول المتمثل بإعادة انتخابه رئيساً مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في خريف 2020. أما من ناحية ثانية، فقد كانت المحصلة أن أمريكا ترامب لم تترك لها صديقاً في العالم إلاّ نتنياهو، ومع ذلك لم تختبره بعد في المواجهة مع الصين حين تأتي لحظة الفرز.

 

إن الإشكال الحقيقي في سياسات ترامب تتمثل في تناقضها مع استراتيجية الحرب على الصين، والتي تستوجب تشكيل أوسع تحالف عالمي مع أمريكا ضدها. ويرجع السبب في هذا الإشكال إلى شعار “أمريكا أولاً”، كما شعار “ترامب أولاً” لتأمين إعادة انتخابه من خلال إنجاز اقتصادي، ولو بالابتزاز المالي المفضوح.

 

إن مبدأ “أمريكا أولاً”، ومبدأ الإنجاز الاقتصادي من خلال الابتزاز، يتناقضان مع مبدأ قيادة أمريكا للعالم، والذي يتطلب حشد الحلفاء وراءها، وهو ما يفسر كل ما قدمته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية من مشروع مارشال لكسب أوروبا الغربية، ومشروع النقطة الرابعة لكسب الدول المستقلة حديثاً، وما خصصته لحلف الناتو وحلف السنتو ولهيئة الأمم المتحدة، وللمنظمات الدولية، فضلاً عن موازنة القواعد العسكرية الأمريكية في العالم. وكان هذا كله ثمناً لتربعها على عرش قيادة “العالم الحر”، وكان هذا ثمناً لمواجهة الاتحاد السوفييتي والصين وحركة عدم الانحياز.

 

وقد عادت هذه السياسة على أمريكا مالياً بأكثر مما دفعته. وهنا يخطئ ترامب حين راح يحسب ما خرج من جيب أمريكا، ولم يحسب ما دخل جيبها نتيجة تحكمها في العالم. مثلاً لم يحسب ما جنته، وما زالت تجنيه، حين أصبح الدولار رسمياً مكان الذهب، غطاءً لعملات العالم، بل أصبح عملة التجارة العالمية.

 

لكن ما فعله ترامب من ابتزازٍ مالي، لتأمين نجاحه في الانتخابات القادمة، أجهضته أزمة كورونا، وقطعت عليه هذا المسار حين عرّته بسبب سوء مواجهته لها، ففرضت تعطيل الحياة الاقتصادية، وتوسعت بالبطالة، مما جعله يعيش الآن رعب السقوط في الانتخابات، بعد أن كانت النتيجة شبه مضمونة. كما راح يواجه أخطار التناقض بين الحكومة الفيدرالية والولايات، بسبب تخصيص الأموال لمواجهة المشاكل الاقتصادية.

 

فالمعركة الانتخابية الرئاسية القادمة ستكون حامية الوطيس. وياللهول إذا سقط ترامب، وهو أمر لا يستطيع ابتلاعه والتسليم له، فيما أنصاره المتعصبون العنصريون المسلحون سيُدخلون أمريكا في مأزق لم تعرفه لعبتها الديمقراطية من قبل. ولكن حتى لو مر ذلك بسلام، وجاء رئيس ديمقراطي فسيواصل استراتيجية وضع الصين العدو رقم 1، مع تغيير أساسي في إرساء سياسات جديدة في تحشيد أوسع جبهة دولية ضد الصين؟ فأمريكا، وبإجماع، لا تستطيع احتمال استمرار الصين في تطورها نحو التفوق عليها.

 

وفي هذا يتساوى الحزبان الجمهوري والديمقراطي، بيد أن ترامب نفسه إذا فاز في الانتخابات فلن يكون بمقدوره مواجهة الصين، مواجهة جدية، وهو يعادي العالم، ولا سيما الأوروبيين واليابانيين والهنود المهيأون للتحالف معه ضد الصين.. ولكن ليس في ظل “أمريكا أولاً” والابتزاز المالي المرفوض، وليس من دون ثمن يدفعه ترامب، مما سيجبره على إعادة بناء أوسع تحالف، الأمر الذي سيشكل وضعاً عالمياً جديداً، ليس بفعل كورونا، وإنما بسبب احتدام الصراع الأمريكي مع الصين.

 

إن انتقال ترامب في الصراع مع الصين من شكل ملاكمين على حلبة في ظل تعدد قطبية، كل قطب له استراتيجيته وسياساته، إلى مرحلة جديدة يُبنى فيها حلف عالمي ضد الصين؛ سيؤدي (إلى جانب ما ستفعله الصين وروسيا والدول الأخرى في العالم) إلى تشكل وضع دولي جديد متعدد القطبية، ولكن بأحلاف أو محاور متعددة، وبحرب باردة من نمط جديد يختلف عن السابقة.

 

لقد تجاوزت روسيا والصين التناقض الحاد السابق، وتقاربتا خلال السنوات العشر الماضية تقارباً حميماً دون سقف التحالف العسكري- السياسي. والسبب يرجع إلى معاداة أمريكا لروسيا، ظاهراً بسبب أوكرانيا وسوريا، وأساساً بسبب انطلاق سباق تسلح في عهد ترامب، تفوقت فيه روسيا في مجال الصواريخ البالستية التي تفوق بسرعتها الصوت بعشرين مرة. طبعاً وفي مجالات تقنية عسكرية أخرى.

 

بيد أن انتقال ترامب في مؤتمر ميونيخ الأخير (شباط/ فبراير 2020)، من خلال وزير دفاعه إلى الإعلان أن الصين هي العدو رقم 1، يكون قد غيّر من المساواة في العداء ضد كل من روسيا والصين، وفتح باباً للسؤال: هل ستترتب على ذلك محاولة تحييد روسيا أو المساومة معها ضد الصين؟ وهذا ما تفرضه أولوية الحرب على الصين، ولكن أنّى لدونالد ترامب أن يكون مستعداً لتقديم الثمن المطلوب روسياً.

 

ما تطلبه روسيا من أمريكا يتلخص في إبعاد الناتو عن حدودها، وأن تعترف أمريكا بها شريكاً ندا في إدارة السياسة العالمية. وهو ما سيترتب عليه من نفوذ عالمي يشكل شرطاً لتطورها الاقتصادي، وتلبية لطموحها بعيد المدى. وهو تنازل أمريكي ترفضه أمريكا بإجماع وليس ترامب وحده، فضلاً عن معارضة أمريكية مبدئية لما تحدثه روسيا من تطوير لصواريخها البالستية وقدراتها العسكرية التكنولوجية.

 

هذه المعادلة تجعل التناقض بين أمريكا وروسيا أشد من التناقض بين أمريكا والصين، لولا أن الصين راحت تتقدم اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً بمستويات تفوق تحمل أمريكا، وتهدد بإنزالها من عرشها كدولة كبرى رقم 1 بين الدول.

 

ومن هنا، فإن ما بعد كورونا سيكون أمام ترامب الفوز في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، أو إذا سقط فأزمة أمريكية داخلية خطيرة. أما فوزه فسيرفع عن كاهله هدفه الذي حكمه طوال عهده الأول، وهو التجديد له، مما سيسمح له بتصحيح علاقات أمريكا مع أوروبا واليابان والهند وعدد من دول العالم الثالث ضد الصين. ولكن لكل هذا أثمان على ترامب أن يدفعها، فهل سيدفعها؟ وهذا يناقض عقليته التي عرفناه بها حتى الآن، ويناقض ما وضعه من أولوية في الحرب ضد إيران. بل هو مناقض للوضع العالمي الذي كان قبل كورونا وفي أثنائها. وهذا كله هو الذي سيقرر عالم ما بعد كورونا، والذي لا علاقة مباشرة لكورونا به.

 

وبكلمة، علاقة أمريكا بأوروبا وروسيا هي التي ستقرر موازين القوى الدولية بين أمريكا والصين