ثقافة وفن

البدانة والطيبة والتغييب – رشاد أبوشاور

أوّل ما لفت انتباهي، وتوقفت عنده مطولاً، وتأملته بتمعن شديد، تفشي البدانة في أجساد الأمريكيين، ذكورا وأناثا، شبابا وكهولاً، وأطفالاً.

كنت قبل حوالي سنة قد قرأت تقريرا حول (وباء) البدانة أمريكيا، والتي تحوّلت إلى ما يشبه ( المرض) الشامل، ولكنني لم أتوقع ما شاهدته، وهو ما أذهلني: البدانة المفرطة البشعة المنّفرة!

ما أكتبه ليس هجاء ( للأمريكيين)، فأنا كزائر شاهدت ما لفت انتباهي بقوّة، ثم أخذت في تأمل الظاهرة، فماذا وجدت؟

يتنقّل الأمريكيون بالسيارات من بيوتهم إلى عملهم، ذهابا وإيابا، أي إنهم لا يمشون، ولا يبذلون أي جهد بدني، وهم يعودون إلى بيوتهم فيجلسون أمام شاشات التلفزيون، ويتناولون عشاءهم بسرعة،وغالبا يحضرونه معهم جاهزا، و..ينامون مبكرين استعدادا للانخراط في العمل في اليوم التالي.

تأملتهم في ( المولات)، وهم ينهمكون في الشراء، ثم في التهام الأطعمة السريعة الدسمة، مع أكواب عملاقة من( الببسي) و( الكوكا)، وهي مشروبات مفرطة السعرات الحرارية لما تحتويه من سكرّ.

أنتم لا تتخيلون بدانة الأمريكيين، وأنا عندما قرأت لم أتخيّل ما نقله التقرير الصحفي، والمعزز بالصور، وظننت أن الأمر يدور حول ( بعض) البدناء الذين يُشكلون حالات محدودة.

الاحتكاك بالأمريكيين ، من شتى الألوان، والأصول، يعرّفك بناس طيبين لطفاء ودعاء، و( في حالهم) كما نقول، فهم يعيشون حياتهم برتابة، وبانسيابية ، تماما كما انسيابية سياراتهم في مساربها السريعة، و..هذا هو ( سيستيم) حياتهم: السرعة، والعمل، والأكل، والنوم…

و( هم) ، ملايين الأمريكيين، لا يعرفون شيئا عمّا يدور في العالم من حولهم، فحولهم لا يوجد عالم، لأن انتباههم يتوجه لعملهم، وتأمين احتياجات حياتهم، والتفرّج على التلفزيون، وما تبقّى متروك( لشريحة) محدودة ( تُسيّر) حياة أميركا كلها، وهؤلاء كما قال لي الصديق الدكتور عبد الحميد صيام: رؤساء الشركات، والبنوك، ومراكز البحث والدراسات، والبنتاغون، ولوبيات السلاح ..الخ.

في أميركا، وحيث أقمت في مدينة ( سيكرامنتو) عاصمة ولاية كاليفورنيا، تابعت معركة رئاسة أمريكا بين ترامب وكلينتون، وتأملت مستوى المرشحين، وبذاءاتهما، وانعدام أدنى حدود الأخلاق في حملتيهما، وتأكدت من أن ساسة أميركا( الديمقراطية) يقترفون كل المحرمات من أجل الفوز بالسلطة، وأن وسائل الإعلام: تلفزيون، صحافة، مراكز استطلاع، تكذب وتزوّر وتضلل، وهو ما افتضح في نهاية حملتي المرشحين…

أمّا : كيف فاز ترامب وفشلت كلينتون، فهذا يحتاج لدراسات تغوص عميقا في مكونات المجتمع الأمريكي، مجتمع المهاجرين، والذي يدّعي فيه البيض ( الواسب) بأنهم الأصل، لأنهم أول من( وصل) إلى تلك البلاد المنكوبة شعوبها وأممها صاحبة البلاد ..والتي أبيد ملايين أصحابها، وتمّ التطهير العرقي عليهم، كما لم يحدث في التاريخ.

بعد تأمل البدانة الصادمة ، لفت انتباهي التزاوج بين الأعراق، فأنت ترى يابانيا مثلاً، أو صينيأ، أو آسيويا، مع بيضاء، وأسود مع شقراء، وأشقر مع سوداء، وأمريكيا لاتينيا مع سوداء.أو صينية..وهكذا.

رأيت هذا في المدن التي زرتها، فرأيت ( بابل) التي تتحدث بكل السنة الدنيا..وأمريكا، كما يبدو_ ولنتذكر أنها بلد مهاجرين_ ذاهبة إلى فقدان ( شقرتها،و( بياضها) الأوربي المنشأ، ولعل ترامب أيقظ في معركته الرئاسية مخاوف البيض من الزحف الأمريكي اللاتيني، والآسيوي، والصيني، والإسلامي..حتى إنه وصف الصين بالاستعمار الذي ( يبلع) أميركا!!

في أمريكا: لا ديمقراطية، بل استعباد للإنسان، ومسخ، وحذف، وتغييب، فأنت لو سألت أي أمريكي: أين تقع سورية التي تتآمر دولته عليها، أو العراق الذي دمرته جيوشه، أو أي بلد في العالم، لما عرف!

هناك أصدقاء أكاديميون يُدرّسون في الجامعات الأمريكية أكدوا لي أن الأمريكي العادي لا يعرف شيئا عن الولاية المجاورة، وقد يعيش ويموت وهو في ولايته التي لا يغادرها!!

هناك آلة رهيبة تدوّخ الأمريكي، تستهلكه بالاستهلاك، وتغرقه في مديونية مهلكة مستنزفة، وهذه الماكنة يملكها هؤلاء الذين يديرون البنوك، والصحافة، والشركات، والصناعات الحربية، وتجارة الأسلحة…

ليس بالخبز يحيا الإنسان: هذا ما قاله السيّد المسيح، فالإنسان روح، وقلب، وعقل، وضمير…

وهم هناك يدوخونه الأمريكي البسيط بشعار: إعمل بقوّة ..واستمتع بقوّة:

work hard enjo hard

هل هكذا حياة ممتعة؟!

طيلة الوقت وأنا أتساءل: كيف تستنفر( الإدارة) الأمريكية الهائلة هذه ملايين الأمريكيين الطيبين البريئين الطيبين، وتأخذهم إلى حروب عدوانية على شعوب لا يعرون عنها شيئا ، وعن حضارتهم، وقضاياهم أدنى شيء ؟!

إنني أترك الجواب للقارئ العربي، ولا أراهن على ( وعي) المواطن الأمريكي ( المُغيّب) …

في أمريكا تكتشف بالملموس أُكذوبة الديمقراطية، وأبشع عملية مسخ للكائن البشري.

 
 
 

             

اترك تعليقاً