الأرشيفبساط الريح

السفارة والنكبة…والولايات المتحدة! – عبد اللطيف مهنا

بدت واحدةً من متوالية فرائد الغرائب الترامبية، هذه التي بدأ العالم يعتادها، إذ لم تعد مع الوقت تدهشه وبات يتوقع المزيد منها. بغيرها ترامب ليس ترامب، ولا هو المنتج المنسجم والمعبّر، كما هو حاله، عن جزء وازن ومستنفر من مجتمعه، ويعتبر أن له وحده حق استمرارية امتلاك امتياز تأسيس الولايات المتحدة الأميركية والانفراد باستثماره المستدام، بمعنى البيئة التي انتجت ترامبها، ومن ثم من هو يستند إليها في صراعه المحتدم مع معارضيه، وتحديداً مع “دولة الأمن القومي”، وفي مجتمع بات منقسماً إلى فسطاطين من أول لحظة دخل فيها الوافد المتفرّد عن سابقيه إلى حمى البيت الأبيض.

هذه الواحدة… تمثلت في أن يقترح رئيس الدولة الأعظم كونياً تسليح معلمي المدارس في بلاده لتأمين حماية تلاميذها ضد غائلة المذابح شبه الدورية، هذه التي ابطالها تلاميذها، والتي باتت شبه سمة تفرَّدت بها المدارس الأميركية دون سواها في هذا العالم! إنها أمر ليس بالمفارقة، وبلوى ليست بالطرفة، واستغرابها لا يصمد أمام هوليودية محاولات سد النقص في عراقة التاريخ وستر عوراته الفظيعة عبر اسطرته باختراع أفلام الكاوبوي، ومن ثم تعميم ثقافتها بكثافتها، والتي هي، وإذ تربت أجيال على ضفافها في بيئتها، فقد تعدتها لتطوف كامل اطراف المعمورة واضحت من بضائع العولمة، مع امتياز السبق عليها بأمد. العولمة، كاختراع امبريالي أميركي المنشأ، هي بنت العقدين الأخيرين، والمفارقة أن الكاوبوي ترامب جاء الآن سابحاً بعكس تيارها…سمسار العقارات لا يهمه أن يبدو مدير المدرسة في بلاده نسخة محدثة من “الشريف” في أفلام الغرب الأميركي، يتحلق من حوله المدرّسون ومسدساتهم تتدلى على خواصرهم وعيونهم على تلاميذهم، ما دام هذا الأمر يكسبه تأييد كارتيلات صناعة الأسلحة النهمة!

في مثل هذه العجالة لسنا بصدد معالجة ظاهرة ترامب الأميركية الأصيلة نسباً ومنطقاً، لقد أُشبعت كتابةً، وكغيرنا عالجناها مراراً ومن أوجه تعددت. كما لسنا هنا بصدد ملاحقة اعراض مرحلة سن اليأس التي غشت الإمبراطورية الأميركية بفعل الصيرورة التاريخية لكافة الأمبراطوريات التي عرفها التاريخ. هي اعراض سابقة على قدومه للسلطة وقدومه بذاته واحدة من هذه الأعراض، أو المؤشرات إلى بدايات، ونشدد على البدايات، في خطوها باتجاه الأفول…سنكتفي بواحدة من آخر مما هو يمسنا بالمباشر كعرب من البلطجة الأميركية في طورها الترامبي، وهو تسريع تطبيق قرار نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، بعد اعلان الاعتراف بها كعاصمة لمحتليها. إذ بدلاً مما أُعلن سابقاً بأن نقلها سيستغرق إنجازه ثلاثة أعوام يتطلَّبها إتمام بناء مقرها المقدسي، أُعلن عن الشروع في عملية هذا الانتقال بحيث تتم فيما لا يزيد عن شهر ونصف، كما وحدد بعمد أن يكون في الرابع عشر من شهر أيار/مايو القادم…أي اليوم الذي يحتفل فيه المحتلون بمرور سبعين عاماً على نكبة العرب في فلسطين وقيام كيانهم الغاصب على انقاضها.

هذا التسريع ليس فقط، كما تصوِّره البعض، لقطع الطريق على الموهوم المرحوم “حل الدولتين”، فهذا قد تم دفنه تهويدياً منذ أمد، وتم البصم على وفاته اميركياً لاحقاً عبر قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الغاصب، وملاحقة الأنروا للإجهاز على حق العودة، والذي هو جوهر القضية الفلسطينية. كما وليس لمجرَّ تصهين الإدارة الأميركية الراهنة الزائد، والمتجلي في ايكال مسألة تصفية القضية الفلسطينية للثالوث المتطرف في صهيونيته وعدائه للفلسطينيين، صهره  كوشنر، ومبعوثه غرينبلت، وسفيره فريدمان، ورابعهم ملياردير دعم التهويد المتفاني ادلسون، على ما لهؤلاء من دور واضح في التسريع وقبله الاعتراف…بل لأن الولايات المتحدة كانت ولا زالت وتظل تنظر إلى اسرائيلها لناحية نشوئها نسخةً على شاكلتها، وتذكّرها بذات نشوئها الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. العلاقة بين الثكنة والمركز كانت وتظل عضوية وتخادمية، قبل ترامب ومن بعده، وبالمناسبة، قرار نقل السفارة سابق الاتخاذ على قدوم ترامب بأكثر من عقد. بمعنى أن كافة الإدارات هي متصهينة أصلاً منذ أن كان الصراع العربي الصهيوني.

نحن هنا لا نتحدث عن المسيحيين المتصهينيين، ونائب الرئيس واحد منهم، ولا عن اللوبي الصهيوني الذي يجري التزيد في تضخيم سطوته، ولا عن المحافظين الجدد بمراحلهم المختلفة، والحض على غزو العراق وتدميره واحدة من مآثرهم، وإنما على ما هو الأوسع والأشمل، على البيئة التي انتجت ترامب وستنتج نسخاً متطورةً عنه عند الطلب…وإلا، ما السر في الاقتحامات الأخيرة المتقاربة للحرم القدسي والتي على رأسها كلٍ من السيناتور سكوت تبتون وديفيد ماكينلي؟!

…تسريع نقل السفارة إلى القدس المقرر منذ أمد، والأمر الذي تم تأجيله المرة تلو الأخرى، وقبله اهدائها عاصمةً لمحتليها، وتطابق تنفيذ نقلها المتعمَّد مع مناسبة مرور سبعين عاماً على النكبة العربية في فلسطين، كله مرده لتعلة واحدة لا غير، إنها الفرصة التي وفَّرتها اللحظة العربية والإسلامية والفلسطينية وتلقفتها الولايات المتحدة الأميركية ولم تجد ما يمنعها من اغتنامها…الفرصة التي تمثَّلت فيما وصفته مندوبتها المتنمّرة في الأمم المتحدة نيكي هيلي بعدم انطباق السماء على الأرض، بل بقيت مكانها!