الأرشيفوقفة عز

الشهيد محمد علي اليوسف – أبو عامر – 1943 – 1973 – نضال حمد

مواليد الصفصاف سنة 1943 عاش أقل من خمس سنوات من عمره في بلدة الصفصاف على سفح جبل الجرمق في الجليل الفلسطيني الأعلى. قضى تلك السنوات مع أهله بين حقول التبغ والتين والزيتون والتفاح كما كل أقرانه من أطفال البلدة. عرف خلال ذلك الوقت القصير بعض معالم البلدة والجبال والأحراش والأراضي والبلدات المحيطة بها، مثل الجش وبيت جن وقديثا وعين الزيتون وميرون والخ… ربما عرف أيضاً أنواع العصافير والطيور في المنطقة، التي ربما كان يميزيها من خلال زقزقاتها.. وربما كان يلهو ويلعب بالقرب من مدرسة الصفصاف والشارع المؤدي الى صفد وعكا وسعسع والخالصة والغجر وشبعا وبنت جبيل وصولاً الى سوريا ولبنان. لكن كل تلك المشاهدات واللحظات والمحطات مضت كأنها لم تكن حين استطاع عصابات اليهود الصهاينة احتلال فلسطين وتهجير شعبها.

في ذلك الوقت لم يكن يعلم الطفل محمد أن العصابات اليهودية الصهيونية سوف تقلب حياة وطنه وشعبه وبلدته وأهله الى جحيم ربما أصعب من جحيم يهود أوروبا في الحرب العالمية الثانية. ففي الثامن والعشرين من شهر أكتوبر – تشرين الأول 1948 اجتاح الصهاينة البلدة بعد معارك مشرفة وصمود وقتال أوقع خسائر كبيرة بالمعتدين. في ذلك اليوم سقطت الصفصاف، فقام الصهاينة باعتقال وجمع من تبقى من شباب ورجال في البلدة،  قاموا باعدامهم جميعاً ، لا أذكر أن النازيين والفاشيين الأوروبيون فعلوا ذلك مع الأسرى والمعتقلين.قامت العصابات تلك باغتصاب ثلاث فتيات وبقطع اصابع الضحايا وسرقة مجوهراتهم، باعتراف اليهود الصهاينة أنفسهم، كما نهبوا محاصيل البلدة كلها. ونهبوا بيوتها وممتلكاتها. ثم فجروا ودمروا معظم بيوتها ودورها. أبقوا على بعض البيوت القليلة وعلى المدرسة. وضعوا جثث ضحايا الكجزرة في عين الماء الاثرية التي عمرها مئات او ربما آلاف السنين، فتلوثت مياه الشرب. مما عجل في فرار  من تبقى من السكان وجلهم من العجزة والنساء والأطفال. فروا من الصفصاف باتجاه لبنان لأن القرى المجاورة كانت أيضا قد سقطت بأيدي الصهاينة. ولأن المعتدين أعدموا الأبرياء والمدنيين وأغتصبوا كما أسلفنا ثلاث فتيات.

وصلت عائلة علي اليوسف المُلقب “علي نورا” الى لبنان. في قرية يونين على حدود فلسطين استراحت العائلة والتقطت أنفاسها تحت شجرة من شجراتها التي لا تفرق عن شجرات الصفصاف، فالأرض واحدة والشعب واحد واللغة واحدة والمصير واحد والاقتصاد والعمل والتجارة واحدة ولا حدود عملية غير التي وضعها الاستعمار في سايكس بيكو تمهيدا لاحتلال فلسطين ولتقسيم الأمة العربية.

في تلك الرحلة الصعبة والشاقة الى المجهول، كان الأب علي اليوسف، يحمل الطفل محمد فيما الأم كانت تحمل شقيقته. كما كانا يحملان بالإضافة لهما بعض الطعام والزوادة وربما الملابس. بعد أن استراحوا قليلا وشربوا بعض الماء، وقد كانوا في حالة نفسية صعبة وفي صدمة نتيجة هول ما شاهدوه في الصفصاف، قرروا متابعة طريقهم باتجاه بنت جبيل حيث كانت تتجمع غالبية جموع اللاجئين الفلسطينيين الفارين من قراهم ومدنهم في الجليل.

عند الوصول الى بنت جبيل سألت الأم زوجها أين محمد؟ ذهل العم أبو محمد عندما وجد في يده كيس الزوادة واللباس ولم يجد نجله الصغير محمد. فقد نسياه هناك تحت الشجرة. عاد مسرعاً الى يونين فوجد طفله محمد لازال جالساً تحت الشجرة نفسها لكنه كان يبكي ولم يكن يعرف ماذا يفعل والى أين ذهب والداه وتركاه في هذا المكان الغريب. سعد العم أبو محمد أيما سعادة حينما عثر على محمد حياً وبدون أذى، ففي تلك المناطق تكثر الضباع وغيرها من الحيوانات. عانق طفله وحمله ومضى به الى بنت جبيل حيث كانت أمه وشقيقته تنتظران قدومهما.

بعد 25 سنة من تلك الواقعة عاد الطفل الذي غدى رجلاً، الفدائي محمد الى المناطق القريبة من يونين، لينفذ مع رفاقه من أبناء مخيم عين الحلوة عملية فدائية في مستعمرة المنارة بالجليل الفلسطيني المحتل على الحدود الفلسطينية اللبنانية. في هذه المرة بقي هناك هو ورفيقيه الشهيدين علي سليم أيوب – أبو فراس- (إبن عمتي) من بلدة الجش جارة الصفصاف، ومن سكان حي الطوارئ في المخيم. كذلك الشهيد محمود محمد زبيدات من عرب زبيد، ومن سكان حي البركسات في مخيم عين الحلوة، استشهدوا في مستعمرة المنارة على أرض فلسطين الطاهرة. فأصبحوا بالنسبة نحن أطفال العشر سنوات في ذلك العام رمزاً للشهادة وللنضال وللكرامة وللحرية.

لطالما اعتز العم علي نورا – أبو محمد بأبنه الشهيد، نجله البكر، محمد علي– أبو عامر – الذي استشهد في عملية فدائية في مستعمرة المنارة سنة 1973. أذكر ذلك من طفولتي. كما وأتذكر ابن عمتي الشهيد علي سليم أيوب – أبو فراس – أو “علي المختار” نسبة لوالده المرحوم سليم أيوب، مختار بلدة الجش في الجليل الأعلى بفلسطين المحتلة. كما لا ننسى الشهيد “محمود محمد زبيدات” رفيقهم في الشهادة. كذلك المرحوم “وجيه الجوخ” الذي خرج سالماً وعاد الى المخيم، ثم توفي في وقت لاحق، بعد حياة كد وعمل وتعب لأجل لقمة عيش عائلته وأولاده. وكان العم الراحل وجيه الجوخ صاحب صوت مميز ومرتفع، نتذكره نحن أبناء الصفصاف وأولاد حارتنا من طفولتنا حيث كان شخصاً محبوباً ومزيحاً وبشوشاً ومبتسماً ومحباً للتحدث مع الآخرين.

يوم استشهدوا كان عمري 10 سنوات فقط لا غير وكانوا بالنسبة لي مثالاً للفدائيين وللتضحية وللشهادة وللثورة المستمرة. وما كتابتي عنهم وعن سيرتهم وشهادتهم البطولية المشرفة إلا تقديراً لهم ووفاءا لتضحياتهم وتخليدا لمسيرتهم. ولكي تتعرف الأجيال الجديدة على أبطال شعبنا ومخيماتنا وقضيتنا ونضالنا الوطني الطويل. فالأبطال الشهداء والجرحى والأسرى والأموات والأحياء منهم ناضلوا وقاتلوا لأجل تحرير فلسطين كل فلسطين، لأجل عودة شعبنا وازالة الكيان الاحتلالي. لا لأجل حفنة من القيادت الكرتونية التي لا علاقة لها بالنضال والقيم والمبادئ والأخلاق الفدائية الثورية، فالقيادات الورق ورتبها العسكرية الكرتونية منذ تساقطت هي وقياداتها السياسية والتنظيمية تعتاش على الأموال الدولية مقابل تصفية القضية الفلسطينية. لقد إمتصت ولازالت تمتص دماء أبناء وبنات شعبنا. لكن سيأتي يوم تعرف فيه جماهيرنا التي قدمت أولادها شهداء لأجل العودة والتحرير كيف تقتص من هؤلاء وتحاسبهم.

المجد والخلود للشهيد أبو عامر ولرفاقه الشهداء ولزوجته أم عامر التي اسشتهدت في قصف عصابات سمير جعجع على مخيم عين الحلوة سنة 1985. ولنجله البكر عامر الذي استشهد في قصف حركة أمل لمخيم عين الحلوة سنة 1987.

نضال حمد

 

المرحوم علي اليوسف “علي نورا” أبو محمد

الشهداء محمود محمد زبيدات، علي سليم أيوب و محمد علي اليوسف

الشهيدة أم عامر اليوسف

 

الشهيد عامر محمد علي اليوسف