الأرشيفوقفة عز

العم المرحوم محمد علي أسعد حمد – أبو علي عليوة – نضال حمد

المرحوم العم محمد علي أسعد حمد – أبو أحمد – أو (أبو علي عليوة) حسب التسميات والألقاب المتداولة بين أهل الصفصاف. من مواليد سنة 1905 في قرية الصفصاف، بالجليل الأعلى في فلسطين المحتلة. له شقيق شهيد مع ثوار ال 1936 وهو البطل أحمد علي أسعد حمد – أبو صولي – الذي استشهد في وادي المغير قرب دير حنا، خلال غارة للطيران الاستعماري الاحتلالي البريطاني على مجموعة من ثوار الجليل، منهم ثلاثة من الصفصاف واحد من آل يونس وأثنان من آل حمد. كما لازال قبر مجموعة الشهداء تلك، الذين تم دفنهم في مغارة بالوادي موجودا، فقد أقام لهم أهالي بلدة دير حنا نصباً تذكاريا يليق بشهادتهم المشرفة ونضالهم الجهادي وكفاحهم المبدئي وجهادهم الايماني. لقد كان لي شرف تزويد القائمين على فكرة النصب التذكاري في دير حنا بأسماء مجموعة من الشهداء المذكورين، حدث ذلك قبل أكثر من عشرين سنة.

قبل النكبة كان العم محمد علي أسعد حمد – أبو أحمد – الذي إعتدنا منذ الصغر على لقبه المتداول صفصافياً “أبوعلي عليوة” يعمل في التجارة بين لبنان وفلسطين.. وكانت أوضاعه المادية جيدة بالنسبة لغيره من سكان البلدة. بقيت أوضاعه كذلك حتى في زمن اللجوء والتشرد في مخيم عين الحلوة. فهو من القلائل الذين وجدوا فرص عمل بالرغم من الجحيم والنكبة واللجوء والتشرد والتيه والضياع والألم والجراح.

عند حدوث النكبة واحتلال الصفصاف والجليل وغالبية مدن شمال وساحل فلسطين سنة 48 لجأ مع عائلته وزوجته وأولاده الى لبنان، مثله في التشرد واللجوء والشتات مثل معظم أهالي شمال فلسطين. سكن في الخيام في المخيم العتيق كما معظم أهالي الجليل وأفراد عائلتنا. في ذلك الوقت كان المخيم العتيق يسمى “كمب العتيق” وكان “الختايرة” الفلسطينيين يلفظونه “كم العتيق” هذا آنذاك، أما اليوم فأسمه مخيم الطوارئ.

بعد تلك المرحلة الأولى انتقل العم أبو أحمد مع عائلته للسكن في حي الصفصاف بالمخيم. وبعد مرور سنوات من العيش في المخيم تم بناء مسجد الصفصاف من تبرعات أهل البلدة في عين الحلوة والآخرين المسافرين والعاملين في دول الخليج وخارج لبنان. كان العم أبو علي من المساهمين الأولين في بناء المسجد حتى أصبح هو المؤذن الرسمي للمسجد، ثم إمامه حيث ألقى خطباً وأمَ بالمصلين. لا أعرف هل كان أول مؤذن أم سبقه أي شخص آخر لتلك المهمة.

عمل لسنوات في مجال الصيرفة إذ كان يأخذ الشيكات المجيرة ويقوم بصرفها من شركات وبنوك ومحلات صيرفة في العاصمة اللبنانية بيروت. كما عمل في مجال التجارة من خلال شراء ويبيع الذهب. كان ذو عقل عملي ومؤسساتي، كما كان جريئاً في دخول مجالات العمل التجاري والمالي. أسس مع آخرين من العائلة صندوق آل حمد لمساعدة المحتاجين من أبناء وبنات العائلة، وبالذات الفقراء والطلبة الذين كانوا يسافرون للتعلم خارج لبنان. كما كان يساعد شباب العائلة في زواجهم من خلال تأمين سلفة مالية لكل فرد منهم من أمواله الخاصة. بشرط أن يقوم الشخص المستدين أو الذي يحصل على المساعدة بردها بعد زواجه وخلال ممارسته العمل. أذكر أن والدي أبو جمال حمد حدثنا عن ذلك وكان واحداً من الذين استلفوا المال من عمه أبي أحمد يوم قرر الزواج من والدتي وردة ابنة عمه علي قاسم حمد.

العم أبو علي عليوة يعتبر أول من اشترى واقتنى سيارة لأبنه الشهيد فيما بعد الضابط عدنان ليشتغل كسائق تاكس أو سيارة أجرة. لكن عدنان أبى إلا أن يذهب ليتدرب مع كتائب الفدائيين الفلسطينيين الأولى في العراق أيام الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم. تدرب هناك مع ستة رفاق آخرين من مخيم عين الحلوة ومن المخيمات الفلسطينية في لبنان، وأصبح برتبة ضابط نالها من الكلية العسكرية العراقية، كل ذلك من أجل حبيببته فلسطين. لكن القدر لم يسعفه إذ استشهد في منطقة قرب الحدود العراقية السورية اثناء توجهه مع بعض رفاقه الى سوريا لملاقاة عائلتهم التي جاءت من لبنان الى سوريا خصيصاً للقاء بهم. على الطريق عند الحدود السورية العراقية سقطت طائرة تدريب سورية على الحافلة التي كانت تقله مع رفاقه وركاب آخرين مما أدى الى استشهادهم. حدث ذلك سنة 1966. تم دفنه هو ورفاقه الستة الفلسطينيين في مقبرة عسكرية في بغداد. ومن الشهداء هناك الشهيد محمد عثمان من بلدة ترعان والشهيد يوسف منصور من بلدة صفورية وآخرين.

تقول ابنته فاطمة:(كان يحكي الوالد عن حياتهم في فلسطين… كان الوالد تاجر وميسور الحال بعد النكبه وكان يتاجر بالذهب وعنده مثل بنك صغير بيصرف الشيكات المرسلة من المسافرين للأهل في عين الحلوة. وأذكر أن الوالد كان إمام في مسجد الصفصاف ويلقي خطبة الجمعة. لكن وللأسف لم يتركه البعض في حاله.. أحضروا شيخاً بدلاً منه ليتولى مسجد الصفصاف، شيخ مسيّس ومحسوب على طرف مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، فلم يعارض وذهب للصلاة في مسجد آخر ولم يلتقِ بالشيخ ولم يره ولم يعرفه… لكن في يوم جاء شخصان وأصطحبا الوالد ولفقا له تهمة أنه طرد الشيخ من المسجد… وأنه قال في خطبة الجمعة  شيء مستحيل وتستغرب من أين أتوا به… والله لأخجل أن أقولها وأرددها وهي “أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن جمال عبد الناصر رسول الله”).

كنت سمعت هذه الرواية أيضاً حول الشهادة المفبركة من نجله أحمد -أبو عدنان- قبل سنوات في مخيم عين الحلوة عندما طلبت منه أن يحدثني عن والده. على إثر تلك الحادثة سُجِن العم -أبو علي عليوة- ستة أشهر في سجن الرمل، في بيروت، الذي أقيمت مكانه فيما بعد جامعة بيروت العربية في حي الفاكهاني. بحسب البعض فإن الذي كان يقف خلف هذه القصة هم جماعة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني. لأن العم كان من أنصار الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ولم تكن علاقته بالمفتي وجماعته على ما يرام. عند بدء جلسة المحاكمة استطاع أولائك الأشخاص أحضار خمسة شهود على ما يبدو من الشبيحة والسحيجة كشهود ضد العم. قام الخمسة وبعضهم من بلدة الصفصاف بالإدلاء بشهادة بمضمون واحد ضد العم أبو علي. وأصروا على أقوالهم فحكمت المحكمة بحبس الشيخ العم أبو أحمد حمد ستة أشهر. يقول أولاده أنها ظلماً وعدواناً، فهو حقيقة لا نطق بما نَطَقُوه زوراً ولا شهد بأن ناصر… كل القصة لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل، بل كان الضحية لأنها قصة نفوذ وصراع على النفوذ والتوسع والزعامة والمحسوبية.

أنا بين أبي وأمي

شخصياً أذكر عمي أبو علي عليوة وأحب أنا أناديه بهذا اللقب من طفولتي، فقد كان رجلاً صاحب شخصية قوية جداً وله هيبة كما يقولون بالبلدي. كان يرتدي دائما الحطة والعقال على رأسه فيما لبسه لباس حديث وعادي، بنطال وقميص وليس اللباس التقليدي الفلسطيني كما الآخرين من كبار السن. يعني أنه مزج بين التقليد والحداثة وبين اللباس الجليلي الفلسطيني واللباس الحديث فكان تقليدياً مُحَدِثاً. كنت أراه كل يوم تقريباً بحكم مسارنا اليومي من البيت الى الشارع الفوقاني أو التحتاني. فقد كانت بيوت عائلتنا “حمد” غربي شارع الصفصاف في الحارة التحتا متجاورة، يفصل بين بيتنا وبيته، بيت دار عمي محمود أبو محمد رحمه الله. وبيت شقيقته أم محمد اليوسف رحمها الله. ذات يوم وقد كنت صغيراً 12 سنة كان عمري يومها، كنت مع الأطفال الآخرين نلهو ونشاغب على الشارع الفوقاني، لا أتذكر بالضبط ماذا فعلت يومها، لكنني قمت بعمل سيء، ورآني في تلك اللحظة العم أبو علي فنهرني بصوته الحاد، خفت ولم انتظره ولم اتجه نحوه بل هربت منه باتجاه بيتنا. وما أن وصلت البيت ونزعت نعلي من قدمي حتى دخل هو الى البيت وقام بمعاقبتي وضربي والصراخ علي، تحت أعين والدي الذي شاركه عقابي. رحمهما الله. كانت تلك أيام لا تنتسى.. عنوانها احترام كبار السن وتقدير مكانتهم والانصات لما يقولونه والعمل بنصائحهم.

نضال حمد في 20-4-2021

“العم المرحوم محمد علي أسعد حمد – أبو علي عليوة”