الأرشيفبساط الريح

المبادرة الوطنية الأردنية – جورج حدادين

 
في الآونة الأخيرة شاع وعمّ مصطلح تغيير النهج، فما المقصود بهذا المصطلح؟ 
النهج: خيار منظومة متكاملة عملية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، تخدم تحقيق التنمية في كافة المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية والسياسية، وتخدم تحقيق تطور وازدهار ورقي وسعادة المجتمع.
وحين ينتج عن تطبيق النهج أزمة ما، ويعجز القائمون عن تحقيق الأهداف المرسومة لتطوير الدولة والمجتمع، يصبح لزاماً على القيادة السياسية والاقتصادية تغييره والانتقال إلى نهج آخر، وغير ذلك من الطبيعي أن تتولى قوى المجتمع ذاته مهمة إحداث التغيير المطلوب.
خيار النهج يعني خيار طريق تطوير الدولة والمجتمع، في الحالة الأردنية، وقع هذا الخيار بفعل قوة خارجية – الاستعمار البريطاني –  لخدمة مصالحه الاستعمارية الخاصة، وليس خدمةً للمصالح الوطنية للمجتمع الأردني والدولة الأردنية،
استمرتا القيادتان: السياسية والاقتصادية بتبني هذا النهج المفروض فرضاً، وبالرغم من كل الأزمات والكوارث التي تسبب بها تطبيقه، أصرت القيادة السياسية والاقتصادية على الاستمرار في تطبيقه.
وللتعرف على ماهية هذا النهج، لا بد من التطرق إلى أهم سماته:
اعتماد المنح والمساعدات الخارجية طريقاً لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، مما أدى إلى حجز التطور الطبيعي للمجتمع الأردني، وحجز تطور قوى الإنتاج الوطني، وكان من أهم تداعيات تطبيقه القضاء على القطاعات المنتجة لصالح القطاعات المستهلك، حيث تم تدمير القطاع الحيواني و قطاع الزراعة وتهميش الصناعات التحويلية وحجز استثمار الثروات الطبيعية الهائلة، لصالح قطاع السماسرة والمضاربين، فتم تسليع الأرض، وتسليع الخبرات والكفاءات، وقوننة حرية حركة رؤوس الأموال الأجنبية المضاربة، تحت شعار جذب الاستثمار.
اعتماد سياسة تحفيز الاستهلاك بديلاً عن تحفيز الإنتاج، وتحفيز المستهلك مقابل معاقبة المنتج، وتعزيز الثقافة الغيبية والقيم الظلامية على حساب الثقافة الوطنية  وعلى حساب القيم الإنسانية النبيلة، حيث نلمس نتائج هذه السياسة في مناخ خانق في الواقع اليومي المعاش.
المستهلك لا يمكن أن يكون منتمياً، وحده المنتج هو المنتمي، المستهلك غير مستعد للدفاع عن الأوطان، وقابل للتطويع والتوظيف، بالمقابل المنتج غير قابل للتطويع والتوظيف ضد مصالح وطنه ومجتمعه، ومستعد للدفاع عن بلده بكل ما أوت من قوة.
اعتماد خيار النمو بديلاً عن التنمية، النمو سياسة تتعلق بالجانب المالي والمضاربة في الدورة الاقتصادية، الجانب الطفيلي، حيث تكون البورصة المالية  مقياس ومؤشر النمو بشكلٍ أساسي.
لا تزال القيادة السياسية والاقتصادية ترى في الأزمة الخانقة القائمة أزمة مالية، ولا تزال تركز على معالجة الاختلالات المالية: عجز الموازنة والمديونية، ولا تزال تتمسك باستجداء المساعدات والمنح والقروض، وتتعمد رفع الضرائب وتوسيع مروحة دافعيها، وترى في هذا طريقاً للخروج من الأزمة البنيوية المعاشة، بدلاً من أن ترى الأزمة موضوعياً كما هي في الواقع، أزمة بنية دولة ومجتمع، أزمة نهج وأزمة خيار،
لا يمكن الخروج من هذه الأزمة المستعصية إلا من خلال تغيير النهج وعلى كافة المستويات.
النمو يبحث عن تحفيز الاستثمارات الخارجية، هي في الواقع رؤوس أموال تبحث عن الربح، والربح وحده مقدساً لديها، ولا تهتم بتنمية المجتمعات التي تدخل سوقها، لا بل تعمل على امتصاص رؤوس الأموال الوطنية، وترحل تاركة ورائها الخراب والدمار والجوع والفقر والعوز.
المطلوب معالجة جذرية للأزمة، وإلا فأن مصير الدولة والمجتمع إلى الانحلال، فإما أن تسيطر على الأزمة وتخرج منها سالماً،  وإما أن تخرج الدولة والمجتمع من التاريخ، كما حصل مع كثير من الامبرطوريات عبر التاريخ، وليس ببعيد انهيار الاتحاد السوفيتي.
بالمقابل التنمية نهج يعتمد التخطيط الاستراتيجي المركزي للارتقاء بالمجتمع والدولة، من خلال تعزيز دور القطاعات المنتجة، التي تشكل ركيزة بناء الاقتصاد الوطني المستقل، وركيزة الدولة المنتجة المستقلة والمجتمع المنتج المنتمي، ويعتمد التراكم الرأسمالي الوطني والتراكم المعرفي جناحي التنمية.
التنمية مشروع بناء دولة ناجزة الاستقلال ومجتمع مزدهر معافى.
الدول والمجتمعات تعتمد مبدأ المردود، ولا تعتمد مبدأ الربح والخسارة، الذي هو جوهر منظومة النمو.
التنمية بالمقابل تعتمد المردود كهدف شمولي: سياسي اقتصادي واجتماعي وثقافي وروحي.  
 
التنمية: عملية تحويل الثروات الطبيعية والمقدرات والمدخرات الوطنية إلى خيرات مادية وروحية ( بضائع، سلع، خدمات، ثقافة، فنون، موسيقى وقيم إنسانية نبيلة…الخ)  بواسطة القوى المنتجة،
التنمية تستهدف تطوير قوى الإنتاج الوطني، وتحقيق الاستقلال الناجز لصالح المجتمع، من أجل تحقيق التقدم والرفاه والمعافاة والسعادة والرقي والأمن الاجتماعي والنفسي لإفراد المجتمع وكافة شرائحه الكادحة والمنتجة.
النمو: يعتمد عقل محاسب،
التنمية: تعتمد عقل استراتيجي شمولي تكاملي
للتنمية شروطها ومتطلباتها، فما هي؟
شروط التنمية الوطنية تتمثل بعنصرين أساسيين: التراكم الرأسمالي والتراكم المعرفي بشقيه التقني والثقافي، اللذين يكتسبهما الإنسان المنتج إما تجريبياً و/أو نظرياً.
مقاربتان متضادتان تتصارعان لإحداث التراكم الرأسمالي:
أولاً: مقاربة التراكم الرأسمالي المحلي الوطني، عنوان التنمية، حيث يوجه الرأسالمال الوطني نحو بناء القطاعات المنتجة: الصناعة والزراعة والسياحة،
وثانياً: مقاربة الاستثمار الأجنبي، عنوان النمو، أي جذب رؤوس أموال أجنبية تبحث بالضرورة عن الربح، وتتجه بالضرورة وبالتجربة على أرض الواقع، إلى قطاعات المضاربة والخدمات، كونها قطاعات تضمن تحقيق الربح بشكل سريع، رأسمال طفيلي يقتات على المدخرات الوطنية فيلتهمها ويهرب ، تاركاً البلاد التي دخلها خلفه مدمرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
لهذا واهم كل من يعتقد بإمكانية إحداث التنمية عبر جذب استثمارات أجنبية، الاستثمارات الأجنبية تبحث عن تعظيم أرباحها السريع، فلا يمكن أن يكون هدفها القطاعات المنتجة، لأن الاستثمار في هذه القطاعات ذات مردود طويل الأمد، وهي غير مستعدة لذلك.
التراكم الرأسمالي المحلي الوطني، هل هو خيار واقعي ممكن ومتاح؟ وهل فعلاً تتوفر رؤوس أموال وطنية؟
نكتشف بالملموس توفر رؤوس أموال وطنية كبيرة متاحة ولكنها معطلة، فأين تتواجد رؤوس الأموال الوطنية هذه:
رؤوس أموال مجمدة في البنوك والمصارف والمؤسسات المالية المختلفة، تبلغ مليارات،
رؤوس أموال ضارة موجهة نحو المضاربة،
رؤوس أموال مستهلكة، غير منتجة، موجهة نحو قطاعات مستهلكة غير ضرورية ولا تشكل أولوية في مجتمع عالمثالثي،
رؤوس أموال صناديق التقاعد وصناديق الضمان، صناديق تابعة للنقابات المهنية والعمالية والجمعيات بمختلف أشكالها،
رؤوس أموال عائلات وأفراد  …الخ متوفرة ومخفية وخير مثال على ذلك، ظهور هذه المدخرات المعطلة لدى “الناس” في “أزمة البورصات” حيث ظهرت كمية كبيرة منها في القرى والمدن والمخيمات…الخ.
رؤوس أموال مهربة في الخارج، في بنوك أجنبية،
يمكن بثقة كبيرة الحديث عن رؤوس أموال وطنية متاحة، وتفعيلها كفيل في وضع عجلة الإنتاج على سكة التنمية المتمحورة حول الذات الوطنية.
خيار التراكم عبر جذب الاستثمارات الأجنبية نم يشكل طريقاً للنمو الزائف، الذي تنشده مجموعات التبعية:اللبرالية والعلمانية والدينية،
تحقيق النمو عبر جذب الاستثمارات الأجنبية، يعبر عن مصالح مجموعة صغيرة جداً، هي التي تتبنى مقاربة النمو وليس التنمية.
النمو يخدم مصالح فئة ضئيلة جداً من المجتمع، قوى التبعية: في السلطة وفي السوق وفي صفوف المعارضة، بينما تخدم التنمية بالأساس الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة والدولة الوطنية.
الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة تنحاز وتتبنى خيار التنمية.
قوى التبعية في الحكم وفي السوق وفي صفوف النخب تنحاز وتتبنى خيار النمو.
 
” كلكم للوطن والوطن لكم “
 
كنعان