الأرشيفثقافة وفن

بين كنفاني وجورج حبش – أ. د. عادل الأسطة

للناقد (ميخائيل باختين) رأي نقدي مقنع، غالباً ما أستشهد به وهو: إن كل كلام غير كلام آدم، عليه السلام، لا يخلو من تناص، إذ إن كلام ابن آدم يعتمد على كلام ابيه. ولما كنت نشأت في بيئة اسلامية، وقرأت الآية (وعلم آدم الأسماء كلها) فإنني أغيّر، أمام الطلبة، كلام (باختين) وأقول: إن كل كلام غير كلام الله هو كلام لا يخلو من تناص، فالله هو الذي علم آدم، والاخير علّم، بدوره، أبناءه. وسأقول للطلبة: إن الكلام الذي أنطق به امامكم ليس كلامي أنا. إنه كلام الذين اصغيت اليهم، وتعلمت منهم، وقرأت لهم، ربما أضيف جملة هنا، وثانية هناك، ولو لم أقرأ وأثقف نفسي، لما استطعت أن أتكلم ساعة كاملة، وغالباً ما أقارن بين ما كنت عليه، وما غدوت عليه، وأطلب من الطلبة ألا يرتبكوا حين يراجعون كتاباً ما.
تذكرت كلام (باختين) وأنا أفكر في كتابة كلمة رثاء لمناسبة رحيل الحكيم جورج حبش، لم أعرف الرجل، ولم أقرأ له الكثير، سمعت عنه، وقرأت بعض مقالات كتبها، وبعض مقابلات اجريت معه، ومقالات قليلة كتبت عنه، في حياته، وبعد رحيله. ولما كنت اعرف أن هناك صلات وثيقة كانت بينه وبين الشهيد غسان كنفاني، في الكويت وفي بيروت، فقد استنجدت بنصوص الأخير القصصية والروائية، أبحث فيها عن صورة الحكيم أو صوته، فلا شك في أن كنفاني ثمن حبش عالياً، ولا شك أيضاً في أنه تأثر به أو أثمر فيه، من خلال الساعات الطويلات التي انفقاها معاً.
في أعمال كنفاني الكاملة التي بحوزتي ورقة منفصلة كتبها جورج حبش عن الشهيد كنفاني، وألقاها لمناسبة ذكرى استشهاده، أتى فيها على آراء غسان ودوره في فكر الجبهة ومشروعها، إذ كان يلح على ضرورة نقل المعركة الى داخل فلسطين، وذكر الحكيم أن كنفاني هو الذي صاغ تقرير الجبهة الذي أعد عن مؤتمرها في العام 1972، وأشار الى أن هناك اسلوبين في التقرير الاول له والثاني الذي يمتد من ص 60 الى ص 185، صاغه غسان. هكذا أقر الحكيم بتأثره بغسان وبدور الأخير في فكر الجبهة وبلورته وصياغته.
يبقى الجانب الثاني وهو أين هو الحد الفاصل بين كلام الاثنين في أعمال كنفاني الأدبية؟ أين هو كلام غسان وأين هو كلام الحكيم؟ إن ما كتبه غسان في رواياته يعكس، الى حد كبير، فكر الجبهة الذي نطق به أمينها العام في المؤتمرات والندوات والحوارات والمقابلات. لقد جسده غسان من خلال نماذج بشرية، وإلا فهل كان سؤال أبي الخيزران في رواية “رجال في الشمس” )1963( سوى سؤال غسان نفسه وضعه على لسان الشخصية؟ وهل كان كلام سعيد س. في “عائد الى حيفا” )1969( كلاماً آخر غير كلام غسان، ورؤية الجبهة الشعبية أيضاً؟ وهل كانت رواية أم سعد )1969( بعيدة عن طروحات الجبهة الشعبية أيضاً؟
في قصته القصيرة “درب الى خائن” )1957( يكتب كنفاني عن أبناء مدينة اللد، مدينة الحكيم، ويأتي على قصة مواطن لاجئ أقام في الكويت، وقرر أن يتسلل الى اللد ليقتل أخاه. ما منعه في البداية يتمثل في حبه لأمه التي كانت على قيد الحياة، وحين ماتت قرر أن ينجز المهمة: أن يقتل أخاه. لماذا؟ لأنه تعامل مع الاسرائيليين وخان أبناء عمه ووشى بهم. وعموماً فإن القصة تطرح فكر الجبهة الشعبية في تحرير فلسطين، قبل تشكل الجبهة. ليست رابطة الدم مقدسة، وإذا كان لا بد من تحرير فلسطين، فلا بد أولاً من تحرير البلدان العربية من أنظمتها التي تعيق حركة الثوار، وتضع الحواجز أمام فعلهم.
وأنا أقرأ كلمات الرثاء لجورج حبش، وأنا أقرأ أيضاً ما كتب عن حياته في الصحف وفي الكتب، ألتفت الى تجربة خروجه من اللد، والى ما شاهده على الطريق من جثث القتلى الفلسطينيين الذين أخرجوا من مدينتهم وقراهم، وقد أشار الى هذا ايضاً الكاتب الاسرائيلي (ايلان بابيه) في كتابه: “التطهير العرقي” (2006)، وذكر جورج حبش وتأثير الهجرة عليه. سيترك هذا الحادث تأثيراً عميقاً على حياة الحكيم الذي سيؤسس الجبهة الشعبية من أجل استعادة وطنه، ولن يلتفت الى حياته الخاصة، فقد كان بإمكانه أن يمارس مهنة الطب، وأن يحيا حياة مستقرة هادئة، وكان بإمكانه أن يبتعد عن السياسة ومركبها الوعر.
سأبحث في قصص غسان عن قصة تصور تشرد الحكيم في العام 1948، فلا أجد. وسأسأل نفسي: لماذا؟ فلا شك في أن حبش قص القصة على غسان غير مرة. وسأجتهد: ربما رأى غسان في تجربة الحكيم شبيهاً لتجربته هو، تجربته التي مر بها حين غادر وأهله عكا، ولقد عكس هنا التجربة في قصة “أرض البرتقال الحزين” إن لم تخني الذاكرة. فهل من ضرورة للتكرار؟
ربما تذكر المرء الحكيم، وهو يتابع فصول حياته، ربما تذكر المرء وهو يقرأ رواية غسان: “عائد الى حيفا”. وربما يكون العكس أصح، ففي سيرة الحكيم ما يذكر برواية غسان.
زار سعيد. س حيفا، بعد هزيمة حزيران 1967، وحاور ابنه خلدون الذي غدا (دوف) وأدرك سعيد أن العودة الصحيحة هي أن يعود منتصراً، لا من خلال تصاريح زيارة اسرائيلية، ولكي يتم ذلك، فلا بد من حرب ينتصر فيها الفلسطيني ليحاور الاسرائيلي من منطلق الند للند. ولم ير الحكيم في اتفاقات اوسلو ما يشجعه على العودة، العودة الناقصة. انه يريد العودة الى اللد، لا الى رام الله فقط، وربما لهذا آثر البقاء في المنفى. هل مارس الحكيم بسلوكه ما أثاره كنفاني على لسان سعيد؟ ربما، بل أكاد أجزم.
المصدر: