عربي وعالمي

تأريخ غير يساري (لكن ليس) للماركسيّة العربيّة – أسعد ابو خليل

 

يصدمُك عنوان الكتاب بعد أن تنتهي منه: «الثورة والخيبة: الماركسية العربية وقيود التحرّر». الكتاب لفادي بردويل كان مُعدّاً في الأصل لأطروحة دكتوراه في الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، وصدر حديثاً عن دار نشر جامعة «ديوك». جميل أنّ الأنثربولوجيا من أقلّ الأقسام جموداً وتحجّراً في تعريف حقلها في الجامعات الأميركية، إلى درجة أنك تستطيع أن تكتب في التاريخ أو السياسة أو الفلسفة، وكل ذلك يمكن أن يندرج في خانة الأنثربولوجيا. تستطيع أن تكتب من دون سياق أو منهج، ويدخل ذلك في نطاق الأنثروبولوجيا الأميركية. أمّا عنوان وتعريف هذا الكتاب، فهو لا يتركَّب أبداً بعد أن تنتهي من القراءة.

هذا، بإيجاز، كتاب عن وضّاح شرارة، وكيف يمكن أن تتوازى سيرة وضاح شرارة الفكرية مع سيرة الماركسية العربية؟ ثم: الثورة؟ في سيرة عن وضّاح شرارة بالذات؟ وضّاح شرارة كان قياديّاً في تنظيم «لبنان الاشتراكي» في الستينيّات، ثم انضوى في السبعينيّات في صفّ «منظّمة العمل الشيوعي» لكنه سرعان ما غادرها قبل الحرب الأهلية. أي كيف يصبح وضّاح شرارة صنواً للثورة؟ أي ثورة؟ في لبنان، أم فلسطين، أم في العالم أجمع؟ السيرة الهاغيوغرافيّة هذه لشرارة، تجعلك تخرج بانطباع أنّ الثورة هنا هي ثورة عالمية، وأنّ وضّاح شرارة حمل أثقالها وحيداً. تنظيم «لبنان الاشتراكي» كان تنظيماً صغيراً، وكان توزيع نشرته محدوداً جداً، ومنظّمة العمل كانت أصغر حجماً ودوراً من الحزب الشيوعي، وارتبطت باسم محسن إبراهيم، الذي كان ظلّ ياسر عرفات على الساحة اللبنانيّة، ومن القلائل الذين رافقوا عرفات، بصفة استشارية لصيقة، في مسيرة أوسلو، قبل أن يصبح لصيقاً ومستشاراً لوليد جنبلاط بعد التحاقه باليمين اللبناني في ١٤ آذار. مَن مِن الشيوعيّين العرب يعرف اسم وضّاح شرارة، أو مَن يعرف وضّاح شرارة خارج مقالاته في صحيفة خالد بن سلطان، أو صحيفة رفيق الحريري، أو في موقع تابع للنظام القطري، أو صحيفة اليمين التقليدي في لبنان، أي «النهار»؟ هذه سيرة الماركسية العربية من خلال إطلالاتها في إعلام النفط والغاز، أم أنّ في الأمر نكتة؟ ولماذا ركّز المؤلّف على سيرة شرارة عندما كان يساريّاً وأهمل سيرته الأطول في صف اليمين؟

قد يعترض المؤلّف ويقول إنه تحدّث في كتابه عن آخرين: أحمد بيضون، وعباس بيضون، وعزة شرارة بيضون، وفواز طرابلسي، ومحمود سويد، ومحسن إبراهيم. لكن كلّ هؤلاء مرّوا ككومبارس في كتابٍ عن وضاح شرارة. يعدّد الكاتب في قسم المراجع المقابلات التي أجراها وتقرأ فيها (ص. ٢٤١) أنه أجرى خمس مقابلات مع وضّاح شرارة، ومقابلة واحدة مع فوّاز طرابلسي (والأخير ساهم، بالفعل، في حركات سياسيّة مختلفة من البعث إلى الناصريّة إلى «لبنان الاشتراكي» إلى منظمة العمل الشيوعي، وكان له دور بارز في الحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية) ومقابلة واحدة مع محسن إبراهيم، الذي لعب دوراً سياسيّاً بارزاً في لبنان وفي العالم العربي (بصرف النظر عن تقييم هذا الدور). كان اهتمام المؤلّف بسيرة الآخرين ثانوياً، ومستقى من اهتمامه بعلاقة الآخرين بوضّاح شرارة. لا ضير في تبجيله بشرارة لكنه رفعه إلى مرتبة احتلّها لينين في سيرة الثورة الروسية. وتجربة منظمة العمل الشيوعي كانت في مجال إصلاح النظام السياسي (وهذا عنوان البرنامج المرحلي للحركة الوطنية)، ولم تكن في وارد إطلاق ثورة. لا بل إن الحزب الشيوعي ومنظمّة العمل، أطلقا وصف الإرهاب على منظّمات يسارية ثوريّة (مثل «المنظمة الشيوعية العربية») عند لجوئها للعنف المسلّح ضد السلطة والمصالح الأجنبية (كتب جوزيف سماحة في عام ١٩٧٥ في «السفير»، نقداً عنيفاً ضدّ ما أسماه «إرهاب» هذه التنظيمات).

لكنّ الكتاب يعاني من مشاكل جمّة، ليس فقط في العرض والتصنيف، بل في إسقاط الهوى السياسي الـ١٤ آذاري على واقع لبنان في الستينيّات. نأخذ مثلاً عرض حالات الشخصيات الواردة في الكتاب. كيف يمكن عرض سيرة شرارة وغيره، من دون ذكر أنه مثل غيره انتهى في خطّ يميني رجعي معارض لكلّ ما له صلة بالثورات وبمقاومة إسرائيل؟ غفل فادي بردويل أن يذكر أنّ وضّاح شرارة (في مقالة في جريدة خالد بن سلطان، «الحياة») وصم جورج حبش بالإرهاب، عندما تعرّض لمحاولة تهديد وتهويل من الصهاينة في باريس، أثناء استشفائه هناك في عام ١٩٩٢ (وشرارة طُرد من «الحياة» بسبب جملة في مقالة، لكنّه آثر ألا يذكر كلمة نقد ـــ وهو الناقد الحاد ـــ ضدّ الأمير الذي فصله من الجريدة). كان هذا أوّل وصف للمقاومة الفلسطينيّة بـ«الإرهاب» في صحف اليمين العربي. يريد الكاتب أن يعرض سيرة وضّاح شرارة من دون أن يصل إلى خواتيمها ـــ وعندما نتحدّث عن خواتيمها لا نتحدّث عن السنوات الأخيرة بل عن الثمانينيّات وما بعد. قطع شرارة مع اليسار مبكراً، لكنّه بقي في نظر بردويل يساريّاً حتى عندما كرّس معظم حياته لقضيّة اليمين العربي. قضى شرارة في خندق اليمين العربي أكثر بكثير ممّا قضاه في صف اليسار. (أذكر في عام ١٩٨١ عندما فاتحني كمال اليازجي بشأن الانضمام إلى تنظيم جديد يعدّه وضّاح شرارة لجمع الفوضويّين الفرادى في بيروت، وأذكر أنّ جوابي على الدعوة كان مزعجاً لليازجي، لدرجة أنه نشب خلاف عنيف بيننا في ذلك اليوم، وأدّى إلى قطيعة سنوات). فشرارة مثلاً تعاطى مع «جبهة التحرير الجزائريّة» في فرنسا في أواخر الخمسينيّات عندما كان طالباً، لكنّه شعر بـ«القرف» (ص.٥٢)، لأنه اكتشف أنها تدير مواخير فرنسا، بحسب شرارة، ولأن الاغتيالات صدمته. إذ يبدو أن الشيوعي الذي كان يعيب على الحزب الشيوعي اللبناني سلميّته (والذي انفصل عن منظمة العمل، لأنه كان يصرّ على «حرب التحرير الشعبيّة» (ص. ١٣٢) اشمأزّ من عنف حركة تحرّر واجهت احتلالاً وحشيّاً.

يعاني الكتاب من مشاكل جمّة، ليس فقط في العرض والتصنيف، بل في إسقاط الهوى السياسي الـ١٤ آذاري على واقع لبنان في الستينيّات

سمع اللبنانيون بتنظيمات يساريّة صغيرة، مثل «المنظمة الشيوعية العربية» أو «الحركة الثوريّة الاشتراكيّة اللبنانيّة»، لكن مَن سمع بـ«لبنان الاشتراكي»؟ السؤال ليس للاستهانة أو لتحقير تنظيم بسبب حجمه (وأنا نتاج تجربة يسارية ثورية ذات حجم وتأثير صغيرين جداً). لكنّ إسقاطات الكاتب السياسيّة تعطيك الجواب: مثلما أنّ هناك محاولة اليوم (من قبل عُتاة اليمين في ١٤ آذار وفي اليمين الرجعي العربي) لتعظيم دور «جمّول» (التي يجب أن نتذكّر، كانت بقيادة الياس عطالله نفسه) وذلك فقط من أجل تقويض سمعة وهالة المقاومة غير اليساريّة، التي بلغت في مواجهة إسرائيل وهزيمتها من نجاح وفعالية ما لم يبلغه نظام عربي أو تنظيم عربي، فإنّ الكتاب محاولة لتعظيم يسار هامشي من أجل إسباغ مشروعيّة على اليمين الحالي الذي يتحدّر من هذا اليسار. وهنا، خصوصاً أن الكتاب بالإنكليزيّة، يبرز ما يمكن اعتباره عدم صدق المؤلّف في ترك باقي سيرة شرارة وآخرين من دون تكملة. تُنهي الكتاب وتصل إلى خلاصة أن هذا اليسار ما زال يساراً، وأن اليسار الحالي المعادي للإمبريالية والمناصر للمقاومة ليس يساراً، لأنّه يعتبر الإمبرياليّة الأميركيّة والغرب عدوّاً له. وهذا مكمن الإسقاط الثاني.

مشروع الكتاب، بالمعنى السياسي، مشروعٌ رجعي محافظٌ إذ إنه يريد أن يرفع مقام يسار منضوٍ في صف اليمين العربي والعالمي. موضوع الحرب السورية هو مفتاح مواقف المؤلّف وطريقة عرض الكتاب. يطغى موقف المؤلف من الصراع في سوريا (إلى جانب «الثوّار» هناك) على تقييم مواقف الأشخاص الواردة أسماؤهم في الكتاب، لأنّهم جميعاً من مؤيّدي «الثورة» في سوريا (قد يكون فوّاز طرابلسي وحيداً في إبداء بعض تحفّظات على ممارسة ومواقف المعارضة المسلّحة في سوريا، لكنّه تعرّض لحملة عنيفة من قِبل اليمين (بما فيهم بعض رفاقه في تجارب اليسار الماضي) عندما عبّر بتحفّظ عن بعض النقد للمعارضة السورية. ويسخر المؤلّف من مقولة إنّ «الثوار (في سوريا) كانوا مدعومين من الخارج» (ص. ٨٨). لم يكونوا مدعومين من الخارج؟ ممّن كانوا مدعومين؟ إلّا إذا كان دعم دول الخليج وتركيا ودول الغرب، هو دعمٌ من «حواضر البيت الداخلي». الذي يقرأ هذا الكتاب يطلع بخلاصة اليمين في ١٤ آذار وخلاصة إعلام النفط والغاز العربي: أنّ العالم العربي يتمتّع بوفر من الحريّات والديموقراطية، ولا ينغّص على هذا المشهد الجميل في العالم العربي إلا استبداد النظام السوري (يصفه المؤلّف بـ«السلالة الأسدية» (ص.٩٠))، وهذا الوصف مقبول إذ أنّ حكم العائلة يسود في الجمهورية السوريّة، لكنّ المؤلّف لا يسبغ أيّاً من الأوصاف التشنيعيّة على أيّ من الأنظمة العربية، لا بل يجعل من النظام السوري وحده عدوّ اليسار اللبناني، كأنّ النظام الأردني وأنظمة الخليج والنظام المغربي، لم تسهم في الحرب ضد اليسار اللبناني والفلسطيني. وهو يوحي ـــ وهذا ليس صحيحاً ـــ بأنّ اليسار الذي يعرضه في الكتاب لم يكن يعارض أنظمة غير النظام السوري (خصوصاً في حالة طرابلسي الذي كان حليفاً للقوى التقدميّة في اليمن وفي شبه الجزيرة العربيّة وعُرف بنقد أنظمة الخليج). ويخصّص بردويل النظامَيْن السوري والمصري (الناصري، يقصد) بإنشاء حكم عسكري ما منع الجماهير من «الممارسة السياسيّة» (ص. ٨٩)، على أساس أنّ أنظمة الخليج والأردن فتحت أبواب الممارسة السياسية واسعةً على مرّ العقود.

ويبلغ هوَس المؤلّف بالنظام السوري (وحده دون غيره من كلّ الأنظمة العربية الاستبدادية) إلى درجة أنه يقول (من دون دليل، وأهمية الدليل أن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذه التهمة) إن حسين مرّوة اغتيل «بأوامر أو تحت رعاية النظام الأسدي» (ص. ٤٩). لكن على ضوء عداء المؤلّف لحزب الله، فإنّه يحمّل حزب الله المسؤوليّة عن اغتيال حسين مرّوة في شباط ١٩٨٧ وبأوامر من النظام السوري. لكنّ بردويل ينسى أنّ قوات النظام السوري ارتكبت أكبر مجزرة في تاريخ سيطرتها في لبنان بعد عام ١٩٨٧، عندما قتلت أعضاءً في حزب الله في ثكنة فتح الله بعد أيّام فقط من اغتيال مرّوة. أي أنّ النظام السوري أوكل مهمّة اغتيال مروّة إلى الفصيل الذي كان يناصبه العداء. ثم: صحيح أنّ النظام السوري مسؤول عن عدد كبير من الاغتيالات في لبنان (معظم الضحايا كانوا من حزب «البعث» الموالي للعراق أو من المعارضين السوريّين)، لكن لماذا يغتال النظام السوري حسين مروّة الذي لم تكن له مواقف معلنة ضده؟ طبعاً، لا يرِد اسم حركة «أمل» التي كانت في صراع مرير مع الشيوعيّين في حقبة الثمانينيّات، لأسباب معروفة.

ويحاول الكاتب أن يحلّ معضلة في الكتاب: هو يعيد تعريف اليسار. اليسار عنده هو اليسار الذي كان يساراً، قبل عقود ولم يتلوّث بدعم مقاومة حزب الله لإسرائيل. واليسار، ثانياً، عنده هو يسارٌ لا يعتبر الغرب العدوّ الأكبر لليسار والعالم الثالث. إذ إن المؤلّف يدعو إلى تدشين حقبة جديدة في الصراع، يبتعد فيها التركيز على أميركا كالقوّة الإمبرياليّة العدوّة للشعوب واليسار. يحقّب الكاتب لمرحلة «ما بعد ما بعد الكولونياليّة»، لأنه يرى أنّ أميركا لم تعد «القوة العسكريّة المتدخّلة الفائقة» (ص. Xv). السبب أنّ هناك قوى عربيّة، وغير عربيّة، تتدخّل بازدياد «وصفاقة» في المنطقة. وهل الأنظمة العربيّة التي تتدخّل في المنطقة تفعل ذلك من دون أوامر ورعاية أميركيّة؟ لكنّ الموضوع السوري عنده يطغى، وعليه فإن تدخّل النظام الروسي (وإنشاء قاعدة عسكريّة في طرطوس) بات يوازي التدخلات الأميركيّة حول العالم، وإقامة ٨٠٠ قاعدة عسكريّة في العالم. تقرأ هذه النظرية في العلاقات الدولية، وتُدرك سبب إحياء المؤلّف لتاريخ وضّاح شرارة (وصادق جلال العظم). (لفهم ثاقبٍ لدور شرارة أحيل القرّاء إلى مقالة رائد شرف البديعة «وضاح شرارة: عندما «يستوي» المثقّف في دوره العنصري»).

ويُقحم الكاتب بطريقة نافرة بإدوار سعيد، كأنه يحاول أن ينقذ مشروعه الأيديولوجي الرجعي أمام قراء الإنكليزيّة. يريد المؤلّف بالقوّة أن يصالح بين مشروع إدوار سعيد وبين مشروع وضّاح شرارة وصادق العظم (كان العظم يقول لي إن كتابات شرارة ليست إلّا نكتة بينه وبين عزيز العظمة). هو يجد نقطة التلاقي بين العظم وسعيد في أنّ الاثنيْن تأثّرا بهزيمة ١٩٦٧ (مع أنّ العظم كان مشاركاً في العمل السياسي قبل الهزيمة) لكنّه يهمل الحقيقة الساطعة: أن الاثنيْن انتهيا إلى قطيعة شخصيّة وسياسيّة (يروي المؤلّف قصة القطيعة في الهوامش، لا في متن الكتاب كي لا تتأثّر مصالحته النافرة). وهذه المصالحة أزعجتني بصورة خاصّة، لأنني كنتُ على تواصل مع العظم وسعيد، في عام ١٩٩٣ ـــ ٩٤ وأذكر الاعتراض السياسي القوي لسعيد على العظم، خصوصاً أنّ صهاينة مركز دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستن هم الذين رعوا دعوة العظم في أميركا. وهذه قد تزعج المؤلّف، لكن سعيد كان شديد الإعجاب والتأييد لتجربة حزب الله في مقاومة إسرائيل وكان هو، وكلوفيس مقصود، يحثّانني دائماً على إعادة تقييمي لتلك التجربة إذ إنني كنتُ، آنذاك، نافراً من طرح الحزب المبكر للجمهورية الإسلاميّة ولسقوط اليسار. والمصالحة بين سعيد والعظم تتعثّر باستشهاد المؤلّف بكتاب العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي يتعارض، لا بل يتضارب، مع مشروع سعيد في دحض الاستشراق. والكتاب الذي أبهر المؤلّف يُقرأ اليوم ككتاب استشراقي مبتذل، لا يختلف البتّة عن الاستشراق المبتذل لرافئيل باتاي في «العقل العربي». ويعجب المؤلّف هنا أنّ العظم لم يلُم الغرب وإسرائيل لهزيمة العرب، بل لام الشخصيّة العربيّة («الشخصيّة الفهلويّة»، وهو مفهوم غير علمي تنميطي مُستعار من كتاب حامد عمّار، «تجارب في بناء البشر»). وأفضل ما كُتب في نقد (والسخرية من) كتاب العظم كانت مراجعة غسان كنفاني في «الأنوار» في ١٣ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٦٨، وهو المثبت في كتاب «فارس فارس» لكنفاني). ويلحظ كنفاني كل هذا الكم من التعريض بالعقل العربي ويتساءل: «لقد كان يتعيّن على الدكتور العظم أن لا يتكلّم عن العقل العربي بالإطلاق والتعميم. فهو وعشرات مثله ـــ متّفقون على النقد الذي أورده، فهل هؤلاء جميعهم خارج «العقل العربي»؟» (ص. ٨٢، من كتاب كنفاني). لكن أن يربط المؤلّف بين هذا المستوى المتدنّي من الاستشراق وبين مشروع سعيد في نقد الاستشراق، فليس ذلك إلا محاولة فاشلة لإسباغ مشروعيّة سياسيّة وأكاديميّة على كتابات يستحسن فيها المؤلّف هواها السياسي. وكما أغفل المؤلّف سيرة وصيرورة شرارة، فإنه يغفل صيرورة العظم وتحوّله إلى متحالف مع معارضة ذات طابع إسلامي (مرعي من قبل أنظمة الخليج) بعد تاريخ يدعو فيه إلى العلمنة الصارمة (أورد المؤلف ذلك في جملة عابرة فقط). يستطيع الكاتب أن يجمع بين العظم وبين سمير قصير، كما فعل، لكن ليس بين العظم وسعيد.
ويحاجج الكاتب في أي توفيق بين اليسار وبين الاتجاهات الإسلاميّة، طبعاً باستثناء الحالة السوريّة، حيث لا يأخذ مؤيّدو «الثورة» على التنظيمات المسلّحة المختلفة هواها وأيديولوجيّتها الإسلامية، لأنّها تصارع النظام العربي الاستبدادي الوحيد ـــ في عرفهم. وفي النظر إلى الحركات الإسلامية، يحاجج المؤلّف المفكرة سوزان بك مورس، لأنّها قدّمت قراءة نظريّة نقديّة للحركات الإسلاميّة كمشروع مناهض للحداثة. ويأخذ المؤلّف على مورس أنها اعتبرت الماركسية العربية نسقاً من نظريّة التنمية الغربيّة، لكن أليس ذلك صحيحاً؟ هل قدّمت الأرثوذكسيّة الماركسية العربية نقداً للمشروع الغربي، أم أنّ ولاءها للمركز (ونخبويّتها كما تقول مورس) طغى على قدرتها على تقديم نموذج محلّي لنقد المشروع الحداثوي الغربي. (وهذا الفصل من الكتاب مستقل بذاته، ولا يربطه بباقي الكتاب إلا خيط رفيع). ويستشهد الكاتب، هنا، بسمير قصير (وهو يعتبر كتاباته في جريدة «النهار» مساهمات يساريّة «شجاعة»، لا بل يعرّف حركة «١٤ آذار» على أنها «حركة سياسية دعت إلى استعادة سيادة لبنان»، هذا توصيف بردويل عن حركة تحالفت مع التدخّل الأميركي والخليجي والأوروبي والإسرائيلي في لبنان، راجع حاشية رقم ٢٥، ص. ٢١٠ )، ويستشهد بقول قصير «إن المسلك الاجتماعي (لم يشرح لا قصير ولا المؤلّف ما يعنيه هنا) للحركات الإسلامية يكشف عن عدد من التشابهات مع الديكتاتوريات الفاشيّة» (ص. ١٧٣). ما هو وجه الشبه بين حزب الله (الذي يتمثّل في البرلمان ويستمع إلى نقد وتخوين يومي من خصومه، والذي يتّهمه المؤلّف بتقديم «رؤية هيمنويّة» على لبنان، ص. ١٦٣) وبين الحركات الفاشيّة؟ وهل كانت الحركات الفاشية تتعايش سلماً مع أعدائها؟ ثم هل كانت تجربة حكم الإخوان في مصر تشبه الحركات الفاشية أم أنها كانت أكثر حقبة ليبرالية في التاريخ المصري؟

باختصار، هذا كتاب لا يمتُّ بصلة إلى اليسار أو إلى الماركسيّة وإن تلبّس، سطحياً وبصورة مصطنعة، لغة اليسار الأكاديمي، للترويج للمشروع اليميني (اليساري السابق) اللبناني. ومذاق الكاتب حتى في توصيفات الحرب الأهليّة أقرب إلى اليمين من اليسار. هاكم وصفه لمعركة الدامور: «الحركة الوطنيّة والقوات الفلسطينية هاجموا بلدة الدامور الساحلية… وارتكبوا مجزرة ضد سكّانها» (ص. ١٤١). هكذا، حدثت معركة الدامور التي بدأها «الكتائبيّون» في قطعهم المستمر للطريق الساحلي وقصفهم للبلدات المجاورة؟ والكاتب يعتبر إحياء الوطنيّة اللبنانيّة عند هؤلاء اليساريّين السابقين أكثر انفتاحاً، وأقلّ تزمّتاً، من الهوية العربية الجامعة (كأنّها لا تكون إلا بعثيّة، أو لا تكون) (ص. ٥١). وهو يعيد سرديّة «١٤ آذار» عن أن اليسار اللبناني لم يسقط إلا في الثمانينيات (ص. ٤)، بعد الاجتياح الإسرائيلي، وذلك لتحميل سقوط اليسار على حزب الله والنظام السوري، مع أنّ اليسار سقط قبل الاجتياح الإسرائيلي (ويشهد على ذلك تنامي الاشتباكات بين حركة «أمل» والحزب الشيوعي، ومنظمة العمل قبل الاجتياح، لأنّ الكثير من الشيعة كانوا يهجرون التنظيمات اليسارية نحو «أمل»، لكنّ هذا فصل لا اليسار يريد أن يعترف به (لأن ذلك يحمّل الذات مسؤوليّة) ولا اليمين الـ١٤ آذاري يريد أن يعترف به لأنّ تحميل حزب الله المسوؤلية عن سقوط اليسار (في لبنان وموسكو) أسهل وأجدى نفعاً.

نحتاج إلى كتابة تاريخٍ لليسار ولسقوطه الذريع في العالم العربي. لكنّ هذا الكتاب لا يجيب عن هذه الأسئلة. الكتاب يتعرّض إلى سيرة يساريّين سابقين انخرطوا (باستثناء فواز طرابلسي) في مشروع يميني مغاير. وكان يمكن للكاتب أن يجيب عن السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا تحوّل هؤلاء بالذات إلى أذرع وأقلامٍ نشِطة وفعّالة في الإعلام اليميني (الحريري أو الخليجي)؟ هذه الأسئلة لم تشغل الكاتب، ربما لأنها تتعارض مع مشروعه السياسي ـــ وهو مشروع مألوف جداً للقرّاء في لبنان.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)