الأرشيفوقفة عز

حكاية المرحوم أبو كامل يونس الناجي من مجزرة الصفصاف – نضال حمد

عندما هاجمت العصابات اليهودية الارهابية الصهيونية المسلحة بلدة الصفصاف ليلة 28-10-1948 كان عبد قاسم يونس، أبو كامل أحد الناجين من مجزرة البلدة يبلغ من العمر 29 عاماً. فهو المولود في الصفصاف قضاء صفد سنة 1919. ولعل العم أبو كامل يونس هو أكثر صفصافي أجريت معه مقابلات مسجلة سواء شفوية أو بالفيديو. فسيرته توجب على كل باحث في تاريخ النكبة أن يقوم بتدوينها لأجل التاريخ. ويعود ذلك لنجاته من المجزرة بعد اصابة خطيرة كادت تودي بيده وبحياته. لكن ارادة الله وكذلك الحظ وقفا الى جانبه فنجا من المذبحة باعجوبة. لكن تلك الجراح لازمته مدى الحياة خاصة أن يده كانت شبه مبتورة، لكنه وصل لبنان بعد أسبوع من الاصابة وتلقى العلاج في مستشفى الخليل في مدينة صور اللبنانية، على مدار ستة شهور ونصف بحسب قوله. ثم بعدها لجأ مع عائلته الى مخيم عين الحلوة وبقي هناك حتى وفاته عن 97 عاماً.

درس في مدرسة الصفصاف الابتدائية حتى الصف الرابع ابتدائي. كما كل سكان البلدة عمل في الزراعة وتربية الماشية، لكنه ذكر أيضا في احدى المقابلات المسجلة أنه عمل في حيفا. وكان يتقن اللغة العبرية، ولعل اتقانه للغة العدو ساهم في نجاته من الموت المُحتم اثناء المجزرة في الصفصاف.

في هذا الصدد يقول في مقابلة أجرتها معه جمعية النجدة الاجتماعية سنة 2007: ” عندما دخل الصهاينة الى البلدة تجمعنا في دار اسماعيل الناصر. ثم خرج أحد الأشخاص يدعى “خالد عسقول” واضعاً كوفيته على عصاه كاشارة الى استسلام المدنيين المجتمعين في الدار المذكورة. في تلك اللحظة وصلت دبابة صهيونية وتمركزت مقابل الدار، ثم أمر اليهود جميع الرجال والشباب بالخروج، وكنت أول الذين تم اخراجهم من الدار، فقد كنت واقفاً في ذلك الوقت في مدخل المنزل. جمعونا 17 شخصاً وأدخلونا الى بيت مجاور، قاموا بصفنا وأمرونا بالاستدارة وتوجيه وجوهنا نحو الجدار، ثم أخذوا يمطروننا بالرصاص. كل واحد منا حاول الاحتماء بالآخر، أحدهم وضع رأسه خلف جسدي، احتمى بي، جاء اليهود وقاموا بذبحه على مرأى مني، وكان دمه ينزف على جسدي. بعد وقت قصير غادر اليهود الدار فحضرت امرأة عجوز تتفقدنا. قلت لها أنا جريح. كنت أعلم أن اليهود سوف يعودون الينا هنا. بالفعل لم تمر دقائق حتى حضر يهوديان، أحدهما وقف فوق رأسي والآخر غير بعيد عني. قال الأول لرفيقه تعالى هنا، يوجد شخص لازال حياً، أجهضْ عليه. فهمت كلامهما بالعبرية “خلال المقابلة ردد أبو كامل الجملة بالعبرية”. ذلك الشخص كان من بلدة بيريا “لجأ بعد سقوطها الى الصفصاف”. للعلم تم ذكر هذا الشخص في شهادة اخرى لأم غازي حمد التي شاهدته جريحاً بالقرب من والدها الجريح، حيث قام اليهود الصهاينة بالاجهاض عليهما فيما بعد. ربما أن العم أبو كامل يونس خلال المذبحة لم يكن يدري أن الشخص الثاني هو والد أم غازي حمد، الذي كان الى جوار الشخص المذكور من بيريا.

يتابع أبو كامل حديثه مضيفاً:

(رأيت اليهودي وكان يحمل رشاش ستن، جلس على ركبته وأطلق عليه طلقتين في خاصرته خرجتا من جسده وأصابتاني في صدري اصابة طفيفة. إدعيت بأنني ميت مما أنقذ حياتي. في تلك اللحظة كانت مدفعية جيش الانقاذ تقصف الصفصاف من قرية سعسع. مما جعل اليهوديان يهربان من المكان. بعد ذلك ذهبت الى دار اسماعيل الناصر، حيث كنت أستطيع المشي لأن اصابتي كانت في اليد وفي الصدر. كان النساء والأطفال وكبار السن لازالوا هناك. بقيت هناك برفقتهم وكان ابن عمي حبر يونس أيضا مصاب في فخذه وقد نجا من المجزرة حيث سحبته النسوة الى الدار. كان هناك شخص ثالث جريح. بقينا الثلاثة في القبو في البيت حتى المساء. عاد اليهود الى البيت وأمروا النساء والأطفال والعجزة بالخروج. سألوهم لماذا؟ أجابوا كي يعرفوا عدد الباقين وكي يعطونهم الطعام.)

يضيف أبو كامل:

(كانوا يريدون اعدام البقية منا. بما أنني أعرف اللغة العبرية قلت لهم محاولا اقناعهم: أننا أصبنا في القذيفة التي سقطت على زريبة البقر قرب البيت. لحسن الحظ اقتنعوا بروايتي تلك.

عند المساء وصل الى البيت محمد حمد وشخص آخر وكانا يخططان للانسحاب باتجاه لبنان. فأنسحبت معهما حيث كان بمقدوري السير على قدمي. وصلنا الى يارون ومن هناك الى بنت جبيل ثم الى المستشفى في مدينة صور اللبنانية).

أكد أبو كامل يونس استشهاد 84 شخصاً في مجزرة الصفصاف 54 منهم من أهل البلدة و30 من اللاجئين اليها من القرى المجاورة. وقال أيضاً أن ثماينة من أبناء عائلته استشهدوا في المذبحة وقام بذكر أسماءهم خلال المقابلة.

في حديثه عن المعركة والمجزرة ذكر أبو كامل يونس أن الصفصاف تحولت بعد سقوط صفد الى قاعدة أساسية رئيسية لجيش الانقاذ العربي في المنطقة. حيث كان فيها جودت الأتاسي وأديب الششكلي والنقيب حسن زينة – أبو جهاد-.

هاجم اليهود الصفصاف من جهة بلدة “قذيتا” الواقعة شرق الصفصاف. حيث يوجد “جبل الريان” الواقع شمال صفد. كانت هناك على هذه الجبهة مدفعية ورشاشات لجيش الانقاذ ومسلحين من أهل البلدة. أما الصهاينة فقد نصبوا في “خلة المرج” في “الجش” بعد سقوطها بطاريات مدفعية بحسب أبي كامل يونس.

أما النقيب حسن زينة الذي يذكره كل أهل الصفصاف ضابطاً شجاعاً، مقداماً وباسلاً قاد المعركة على الجبهة الشرقية ببسالة لا نظير لها. وفي هذا الخصوص تحدث أبو كامل يونس عن النقيب حسن زينة داعيا له بالرحمة إن كان شهيداً وبطول العمر والصحة إن كان لازال حياً. فبحسب أبي كامل يونس، قال النقيب أبو جهاد زينة للجميع:

” اليوم يومكم وأي شخص منكم ينسحب من المعركة سأقتله قبل أن أقتل اليهود”. وأضاف ” لا تطلقوا أي رصاصة إلا عندما يتقدمون وآمركم بذلك. نطلق الرصاص جميعا ومعاً مرة واحدة”. بعد ذلك كان صراخ اليهود يتعالى ويفرون من أرض المعركة فيما كانت مدفعية جيش الانقاذ تقصف تجمعاتهم قرب قذيتا، وتلاحق عصاباتهم الفارة من أرض المعركة باتجاه صفد”.

يتابع أبو كامل يونس حديثه عن تلك المواجهة الحاسمة فيقول: “بعد هزيمتهم على الجبهة الشرقية إلتف اليهود على الصفصاف ودخلوها من الجهة الجنوبية على الطريق العمومي. وبذلك حاصروا البلدة ولم يعد هناك أي مخرج للناس”.

في ختام حديثه أكد العم أبو كامل يونس على أمنيته بالعودة الى الصفصاف وكل فلسطين بعد تحريرها من الاحتلال الصهيوني. وأضاف: ” أتمنى نرجع الى فلسطين منتصرين إن شاء الله ونرى اليهود الصهاينة مندحرين وأمريكا مهزومة بالرغم من كل التواطؤ الذي نشهده. والله يبعث على أمريكا سخطه .. تعتقد امريكا أنها الأقوى لا .. لا .. فالله أقوى منها.”.

كان دكان العم أبو كامل يونس عنوانا لكل سكان حي الصفصاف والعائلات المجاورة في المخيم. ولأنه لا يوجد في المخيم صناديق بريد أو مكتب بريد، فقد كانت كل الرسائل التي تصل من المغتربين والمهاجرين والمسافرين من أبناء البلدة والبلدات الأخرى المجاورة في المخيم، تصل الى دكان العم أبو كامل، الذي كان يقع قرب مسجد الصفصاف وعلى مفرق سيروب المعروف وبالقرب من بستان اليهودي في المخيم. بقي كذلك منذ تأسيس المخيم حتى الغزو الصهيوني سنة 1982.

كان الدكان يقع بالقرب من الزاروب المؤدي من الشارع الفوقاني الى الشارع التحتاني والذي يوصل أيضاً الى منزل عائلتي. فالزاروب كان هو الحد الفاصل بين دكان المرحوم أبو كامل يونس ودكان المرحوم أبو قاسم شريدي المجاور له.

في يوم من الأيام قبل وفاته بسنوات قليلة أردت اجراء مقابلة مسجلة معه لكنه اعتذر عن ذلك بسبب حالته الصحية في ذلك الوقت حيث كان يعاني من وعكة صحية. ولم أتمكن من تكرار المحاولة في وقت لاحق بسبب وفاته وبُعدي عن لبنان.

رحمه الله وتقبله مع الشهداء.

نضال حمد

في العاشر من كانون الثاني 2021

حكاية المرحوم أبو كامل يونس الناجي من مجزرة الصفصاف