صهيونيات

حل غيلا غلميئيل! – عبد اللطيف مهنا

ليس للفجور العدواني الاحتلالي في فلسطين من حدود. نوهنا دائماً إلى أن تصاعده هو في تناسب طردي مع هاوية انحدارات الواقع العربي المشهودة، تردفها بطبيعة الحال رداءة الحال الفلسطينية كانعكاس ملازم بالضرورة لهذا الواقع. إثر المواجهات المقدسية الناجمة عن اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة ضد الاحتلال، هدد وزير صهيوني سابق، هو تساحي هانقبي، الفلسطينيين ب”نكبة ثالثة”، ذلك إن هم لم يوقفوا ما يطلق عليه “دائرة العنف”، بمعنى إذا هم لم يتخلوا عن مقاومة الاحتلال.
لاحقاً، الوزيرة غيلا غلميئيل طرحت نسختها المعدلة من حل للجنرال غيورا آيلاند، الرئيس السابق لما يدعى “مجلس الأمن القومي”، للخلاص نهائياً من القضية الفلسطينية وتصفيتها، ذلك عبر مضاعفة مساحة محشر غزة، والقول للفلسطينيين اذهبوا هذه هي دولتكم، وبخصوص ما لم يهوَّد أو سيهوَّد لاحقاً من الضفة، فحكم ذاتي لتجمُّعات سكانية لا غير…تعديل الوزيرة على حل الجنرال يقضي بأن يكون الضعف المضاف لقطاع غزة مقتطعاً من سيناء المصرية، وبالنسبة لفلسطينيي الضفة فتكرَّمت عليهم بخيارين لا ثالث لهما، إما البقاء تحت الحكم الصهيوني “دون هوية”، أو “الانتقال لدولتهم في سيناء”!

في احتفالية مئوية وعد بلفور اللندنية، التي اقامتها بريطانيا على شرف ضيفها نتنياهو، قال الأخير إننا بصدد البحث عن “موديلات ونماذج للسيادة الفلسطينية على الأرض، بما فيها دولة من دون حدود مع بقاء المستوطنين”. هو في الجوهر لم يأتي بالمختلف عن طرح الجنرال وتعديل الوزيرة المضاف، لكنما زايد عليهما في الوقاحة قليلاً، عندما اعتبر أن أخلاء الضفة من المستعمرين يعد “تطهيراً عرقياً”، كما وعدَّ بقائهم فيها مقابلاً للفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين المحتلة عام 1948 إثر النكبة…وقاحته بلغت مداها عندما قال لاحقاً في خطابه في الكنيست المحتفي بدوره بذات المناسبة البلفورية، إن السبب في الصراع العربي الصهيوني طيلة المئة عام ما كان إلا لعدم “الاعتراف بالصهيونية” لا غير!

ما تقدم ما هو إلا بعض من عيّنات لا أكثر من شأنها أن تعيدنا إلى ما كنا نقاربه بشكل أو بآخر في مقالات سابقة، وجوهره تلازم مثل هذا التصعيد في الفجور الصهيوني مع المدى الذي بلغه التنفيذ للاستراتيجية التهويدية لفلسطين المحتلة، وقطعاً لا بد من أن نضيف إليه ما أشرنا إليه بدايةً كمحفّز، وهو التناسب الطردي مع فداحة الانحدار المتسارع في الواقع العربي ورداءة الحال الفلسطينية، الوجه الآخر للعملة العربية الراهنة.

هوّد فعلاً، أو ما هو في واقع المتهوّد، من فلسطين المحتلة حتى الآن، 85% من مساحتها الكلية. البقية، ال15%، والتي هي في غالبها تجمُّعات سكانية لمدن وقرى ومخيّمات، تحاصرها وتباعد بينها المستعمرات والطرق الألتفافية والحواجز والمناطق العسكرية، وتظل برسم واحد من خياري غيلا غلميئيل…بل حتى قطاع غزة، المحرر ارضاً والمحتل جواً وبحراً، والمحاصر صهيونياً وعربياً، اقتطع عملياً 24% من مساحته القليلة، كمنطقة محرّمة، أي عازلة على طول حدوده مع المحتل العام 48.

موديل نتنياهو للحل، الذي هو عنده، كما قال، قيد البحث، هو “حكم ذاتي دون سيادة” للفلسطينيين، ومن لا يعجبه فليختر حل غلميئيل، أو الانتقال، ليس إلى سيناء، كما قالت، لأن هذا ليس في وارد المقبول فلسطينياً قبل مصرياً، ولكن الالتحاق بأكثر من نصف الفلسطينيين الموجودين في ديار الشتات مشرّدين في أرض الله الواسعة، إذا لم تتسع للمزيد منهم، ولن تتسع، الأرض العربية…”الحل الإقليمي” نتنياهوي المنشأ هو لحمة وسداة “صفقة القرن” الترامبوية، التي ينتظر غيثها بعض العرب وعلى دربها يدلق عطشى الأوسلويين قربتهم. هذا ما تشي به التسريبات، والذي لا يخرج عن ذات السياقات التصفوية المنسجمة مع ما بلغه حصاد الاستراتيجية التهويدية، والمتناسب أيضاً مع تردي الواقع العربي.

…ما يدعونه مشروع “انقاذ القدس”، ومقصودهم انقاذها من المقدسيين، بإخراج ما كانت القرى الفلسطينية الملتصقة بها وباتت مع الوقت ضواحيها ثم من صلب احيائها، شعفاط، العيسوية، جبل المكبّر، بيت حنينا، صور باهر وسواهن، من بلدية القدس وضمهن لحل “الحكم الذاتي بلا سيادة”، يعني التخلُّص من 300,000 فلسطيني عملاً على تحويلها ما أمكن لمدينة يهودية خالصة.

كل السياقات التسووية، أو التصفوية للقضية الفلسطينية، التي بصدد الطرح، أو التي ستطرح مستقبلاً، سوف تكون قطعاً متجاوزة لخرافة ما كان يدعى إيهامياً “حل الدولتين”، التي أستنفد الغرض منها وأتى على احتمالاتها الواقع التهويدي في ظل كارثية التغريبة الأوسلوية التفريطية، ومعها أيضاً خرافة أخرى ليست بالجديدة، لكنها اليوم بدأت تطل برأسها في الأوساط الأوسلوية، وهى المدعوة “حل الدولة الواحدة”، والتي بالنسبة للصهاينة تعادل، ليس القضاء على فكرة “يهودية الدولة” فحسب، وإنما انتحار كيانهم الغاصب، ويرفضونها رفضهم لحق العودة لللاجئين الفلسطينيين…كل هذه السياقات لا ولن تتعدى مشاريع كانتونات ابارتهيد تحت طائلة خياري غيلا غلميئيل وبانتظار سنوح فرصة الترانسفير..

…ما يعني ليس أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار واحد أوحد ولا من سواه هو المقاومة وإدامة الاشتباك حتى افاقة الأمة من غيبوبة راهنها، ومن ثم العودة بالصراع إلى مربعه الأول.